منتدى العمق

باب لا كالأبواب

*في ذكرى ابن الأثير عبده بن خالي

أشياء كثيرة في هذه الحياة قد لا نجد لها معنى، أو بالأحرى تفسيرا يُذكر، ذلك ما وقع لي بالضبط في أول لقاء مع المرحوم ابن خالي صُحبة شاعر كبير، والموقفُ نفسُهُ حدثَ لي في مَشهد آخَرَ يَكادُ يُعيدُ نفسَهُ قبلَ وفاته رحمهُ الله، ولكأن البداية كما النهاية، أو ربما هذا ما يظهر، وتلك قصةٌ أخرى، قد أعود إليها في مناسبة سانحة…غير أني الآن أحب أن أنبه إلى أمر ذي بال، ويستوجب الوقوف، فكثير من أسماء أحبائنا الأفداد والرجال العظام والذين تفانوا في الخير وبمزيد من الحب والعطاء ونكران الذات…لكن سرعان مَضوا ومروا وعبروا في صمت كالظلال، انسلوا وغادروا من بيننا وفي أنفسهم أضعافُ الحسرة والألم وبقلوب محاطة بالهموم والكمد، ولسبب أو لآخر لم ننتبه إليهم وللأسف…وحتى وإن حدث تكريمُهم، فغالبا ما يأتي مُتَأَخرا ويكون قد فاتَ الأوان، فلم يُعطوا حَقهُمْ وَلم يُنصَفُوا…
وكم يحز في النفس أننا ودعناهم، ولم نطهر بالحب ساعة الوداع، وإنني أذكر هذا بكثير من الغبن والحسرة…وإنه لأمرٌ يَحُز في النفس لأبعد مدى….
أذكرُ اللحظة أحبة جالسناهم بإمتاع ومؤانسة كبيرة، لايحس بها إلا من كان إنسانا وكان له قلب، وإذ أخص هؤلاء بالذكر لأنهم مروا في الظل ولم يحس بهم أحد، كما أني لن أنس إنسانيتهم المتميزة وفي كثير من المواقف، قد أعود إليها بحب ومنهم:
محمد شكري، ومحمد زفزاف، وأستاذ التربية أحمد احدوثن، والمنشط الإذاعي بتطوان عبد النبي أغبالو….وعدد آخر غير يسير، ومنهم بن الأثير عبده بن خالي الذي أخصه بهذه الورقة، رحمهمُ الله جميعا، وأدخلهم برحمته فسيح جناته.



غير أنه لا يسعني إلا أن أقولَ الغائبونَ تحتَ التُّرابِ أكثرُ حضوراً منَّا، وقد مَضَواْ فوقَ أَجْنِحَةِ الرَّحيلِ، كشواهد القُبورِ كانَ غِيَّابهُم، أُوَدِّعُهُم رغماً عَنِّي، ويمضون إلى حيثُ تستريحُ أرواحُهُم..، وجوهُهمُ المُشرِقَةُ كما لَوْ كانَ موتهُم اختيارُهم، كانوا نجوماً في الظُّلْمَةِ، ترَكُوا السَّاحَة مَلآ بالحُضورِ الزائفِ وغابُوا بشيءٍ يُشْبِهُ الفَقْدَ…لكن ذكراهُم ستظَلُّ مَوْشُومةً مُشِعَّةً في القلبِ، فلقد عاشُوا للخيرِ والحُبِّ والعطاءِ، وسيلهجُ ويَنْبُضُ القلبُ بذكرِهِم، قلوبهُمُ النابضة بالصِّدْقِ والإشْرَاقِ وحُبِّ النَّاسِ لن تتوقَّفَ، وستدقُّ دقاتٍ عديدةٍ إلى آخرِ العُمْرِ…!



وكأنَّني أجتازُ قفراً من الغرَابةِ والعُزلةِ الآنَ…! أدُورُ في متاهاتِ تفكيرٍ تائهٍ، أغْفُو وأَسْبَحُ متأمِّلاً، أرى ما لا يُرى، يعتريني طيفٌ مِنَ الرُّؤَى والوجوهِ والصورِ، مثقلة بالآيات والعِبَر، فعلى لِحى أشجارِ الغابةِ نُحِثَتْ أسماءٌ وقلوبٌ…، وعلى شواهدِ القبورِ رُصِّعَتْ أسماءٌ وأسماءٌ لمنْ عَبَرَ في هذهِ الحياةِ، وآياتٌ وعِبَرٌ شتَّى أُخَر..، أرنُو إلى المقبرةِ فأرى الشَّاهدَ شاهِدَ صاحبِ الخلوةِ، فأتلبَّس بحرفِ البدءِ والختمِ مَرَّةً أُخْرَى” هُنا يرقدُ ..من كانَ يحبُّ الحياةَ!!” فأشتعِلُ بالوَلَهِ!! تَضْطَرِبُ حالتي، تختَفي مَعَالمُ طَريقِي، وأَجْزَعُ من الخاتمةِ! أُفتَتنُ كمن يرتعِشُ في يدهِ مفتاحُ بابٍ وهو في عَجَلةٍ من أمرهِ لموعدِه معَ سفرٍ عاجلٍ لَمْ يُرَتِّب لَهُ وَلم يكن في الحُسْبَان….هو الَّذي كانَ يحلُمُ بالحُبِّ والسَّفَرِ البعيدِ، لكن هذهِ المرة تتَثاقَلُ الخُطُواتُ …..ثم ينام.

ابن الأثير عبده بن خالي رجلٌ إنسان، ريحٌ لا كالريح، بابٌ لا كالأبواب، قلبٌ لا كالقُلوب، مثالٌ للقيم الإنسانية الرفيعة، تميزه بدماتة الخلق، رجلٌ تركَ خلفَهُ أكبر الأثر!! حينَ ودعتُهُ، كنتُ أُحس بإحساس غريب…
وبالفعل كانَ ذلكَ آخِرَ يومٍ له بيننا هُنا، ورقةٌ أخرى تُطْوَى إلى الأبَد، لم يُسْعِدْهُ أحدٌ حتى الوداعَ الأخيرَ، حدَّ الرَّمق، رمق النهاية، لم يبقَ لي غير ذكراه الجميلة، صورتُه الوحيدَةُ، وشذراتٌ وكلماتٌ أخادةٌ،وعُنوانٌ كبيرٌ عظيمٌ، يَذكرهُ القاصي والداني، وبمزيد من الفخر والإعتزاز، إنه”بابٌ لقلب الريح”.



ووفاء مني لهذا القلب النابض، أدعوكم إخواني عبر هذا المنبر المتميز إلى متابعة هذا السفر الجميل:
“…يرقص الجسد مترنحا بين جنبات الكرسي لا يستقر له قرار في الجلوس طبيعيا، كأن المقعد جمر من نار، النار تسري تدريجيا، متسربة حتى تصل إلى النخاع الشوكي…ثم تسير سيرتها الطبيعية، دون أدنى مقاومة إلى أن تصل إلى تلافيف الدماغ…إذ ذاك يبدأ التفكير / القلق وينطلق التساؤل، موجات كهربائية تلسع كل الجلد:ـ ما الذي يجري في الأعماق؟ ـ ما الذي يجري من حولنا؟…موغل في تعب الاستحالة وشقاء المعنى…مشرعٌ بفوضى خالصة، تقودُ نحو استدراج التفاصيل الصغيرة، واللغة إلى دمورها الأقصى… وحين نهب الحكاية تنظيم عثرتها، نكون قد انفلتنا مسافات…
ونشيدٌ يعانقُ التحول والاستمرار، من خلال معانقة الإنسان بهدف الطموح إلى الإنخراط في لحظة الإندماج الحقيقية، ما دام كل انفلات مشروعا إبداعيا لممارسة يومية، لاتنفصل عن المشروع المجتمعي ككل، بل تخلق بينه وبين هاجس تحوله، مسافات تتمفصل أبعادها داخل ذات تنتمي للمكان الذي ولدت فيه، وعانقت من خلاله هموم وأحزان الزمان الذي يفعل فيه بشكل حضاري، وما دامت المسافات من خلال تمفصل أبعادها تمتلك إمكانية التأثير في الإنسان، في التاريخ والواقع ارتباطا بامتلاك إمكانية الفعل، والتفعيل في اللحظة الراهنة…!
إنها الكلمة / الإبداع، والحكي عن الفرح الجامح بصخب وتوهج، عبير ينتشر عبر الأمكنة / الأزمنة من ضوء يُغَذي جُوع العتَمات المنْدُوبة جِراحها فينا كالنَّزِيف، ومساءات الرَّغْبَة المبحُوحة في الانفلاتِ من ذاك العالم المسَيَّج بالريحِ والخواء، واحتراق الكلمات الناضجة فينا، فتبقى المسافةُ بيننا طُقوساً لانفلات لم نمارسه من قبل…!
فسلاما عليك أيها الواقف عند مدخل القلب، سلاما عليك أيها الجسدُ المنفَلِتُ فينا، حُلماً يُراوِدُ الذَّاتَ، ويسعى إلى تدميرِ المَأْلُوفِ، سلاما أيُّها القلبُ الرَّاقِصُ على جدار الحُزنِ الرَّاكِضِ في اتِّجاهِ النَّافذَة بحثاً عن كُوَّةِ فَرح، ملفوفٍ بمرايا عشتار وأناشيد لوركا…يدك الريح على كف الشمس وسط الظلام، ومشيئة الظل الذي هو ظلك في ظلين…، الأولُ يحَلِّقُ داخل متاهاتِ الوَجْدِ وأزقَّةِ المدينةِ، يُغازِلُ الجرائد سيلاَ من رماد…، ويُغطِّي الثاني رموزه بحدائق تحَجَّرت نبوءاتها في دمِه، ومن أجل لا شيء، هو المرمى هناك بين نوافذ الريح، بين النَّدى والبَحْرِ، يبقى الإشتهاءُ لديكَ في الإنفلاتِ إلى شُرْفةٍ مُضيئَة، مُطَرَّزة بِلَيْلِ السُّمارِ الموسُومِ بالحَكْيِ والشَّغَبِ المبْدِع…!
مِن هُنا تَبدأُ الحكاية/ الكتابة والكلمات…، وحبك المشنوقِ بحبالِ المنْعِ والرَّدْعِ والصَّفْعِ، وحقيقة إنفجاراتك الداخلية، وكل التناقضات التي تجعلُ العالمَ يضيقُ أمام عينيك، حتى يُصبح في حَجْمِ عُلبَةِ الثِّقاب”.


أُبصرُ وجهَ صديقي باديا، حتى اكتظت المحطةُ بوجوه أخرى ليُواري وجههُ في الزحام…؟
أخيرا أكتشف أن النهايات دوما قد تكونُ هكذا…فغير ما مرة وأنا صغير، كنتُ أسمعُ قصص النسوة المنسوجة ليس من وحي الخيال، ولكن من وقائع ومناسبات عزائية عديدة، عن ساعة الفقد وما يسبقها من هالات وحكايات فوقَ الوصف، ولانكادُ نعثر لها عن تفسير، فكُن يذكرن الكثير من الأحداث التي تسبقُ الموت، وكأن الموتى يحسون باقتراب أجلهم، مثل الذي يجمعُ أحبابه ويتسامحُ معهم، أو كالذي يتحولُ فجأة من إنسان شرير إلى إنسان وديع خير، فيجمع أقاربه ويوصي بإرجاع الحقوق إليهم، وأنا رأيتُ جدتي رحمها الله كيف كانت تسأل عن وقت محددة مضبوط، وكان وجهها يوم ذاك، مشعا لم أرَ مثلهُ يوما، حتى إذا ما حلت ساعتها، وكانت تدركُ ذلك جيدا، كانت تقول: الآن، الآن قبلوني، وكأنها كانت على علم بوقت وفاتها…رحمها الله…
أدركتُ الآن لم حين كنت أحدثه..في الآونة الأخيرة كان يغمض عينيه…ويظهر اللامبالاة ..تماما، كأنه منقطع عما حوله..ولم يكن كذلك…كنت أقرأ عُسرا في ملامحه..وربما كان الهم والكمد والمرض الذي اعتصر قلبه…وقد رحلتُ…


حتى صاحبي لم يعد…كان قد خرج قبل قليل…سألتُ لحظة الساعةَ المعلقةَ وسطَ المدينة، والتي توقفت عقاربها بُرهة ثم سألت الغد…ولم يأت، قيل بأنه لم يمر من هنا، سألتُ وسألتُ… فلم أظفر بجواب، كُلهم غابُوا…ثم راحُوا إلى المقبرة…


بحثَ عن يوم مميز تحتفظ به ذكرياته…فقد كانت أيامه جد متشابهة….
يوم مميز حين تذكره أصدقاؤه، كان فيه غائبا عنهم….
يومٌ جد مؤثر، مفاجأة دائما في الانتظار، كم أنت رائعٌ شاعرنا الكبير…


وفي يوم آخر فيما بعد ، سمعتُ بأنه انتقل إلى جوار ربه، فتغمده اللهُ بالرحمة الواسعة، وأسكنه فسيح جناته.
وإني أراك الآنَ…أراكَ تبتسمُ وتملأُ دنياكَ ضحكا رائقا..بعيدا عن جحود من تعلموا ومضوا، وفهموا الحياةَ من خلالك..علمتهم كيف يبصرون الجمال في طبيعته…يا أوفى الأوفياء..، ولم يُكلفوا أنفسهم أن يسألوا عنك…



ربما تكون قد نابت عنا بعض الكلمات والعبارات والمواقف فيما نريد أن نوصله، ولنا في الختام هذا الإهداء من خلال نص زجلي لا بن الأثير عبده بن خالي:
“مُوسَمْ لكْلامْ”
مُوسَمْ لكْلامْ
فُوقْ مْجاجي
جَاتْ كلمَة تْزَغْرَتْ
سَرْسْبَتْ لَكْلامْ مْعَاهَا
دَفْنَاتْ هْواهَا تَحْتْ رْمُوشْ العَيْنْ
وْ دَرْتْ رَاسِي سُوقْ
بْغِيتْ نْدُخْلُو مَا قَديتْ
فَدْفَدْ دْمَاغِي تْفَدفِيدَة
جَاتْ لَقْصيدَة مَنِّي تَنْهِيدَة
وْ قَلْبي دَارْ جْنَاحْ
فْ رَحْبَة الخَيلْ يَديني
لَمَّاجْ تْوَرَّدْ لَحْرُوفْ
والكَاشُوشْ دْوايَة فا كيَة بْ السَّمَخْ
فْ مُوسَمْ لَكْلامْ
بَانْ الحَرْفْ البَرْكِي فْ الْمَجْبَدْ
مْسَرَّجْ لَقْصِيدَة تْبورِيدَة
وْهَادْ العَلْفَة تَدبِيبَة
تْرَكْ الكَانَة زاهْيَة مَنْ عَيْنِي
والرُّوحْ حَايْرَة تَصَارَعْ لَمَّاجْ
وْ تْجِينِي نْوَادَرْ مَنْ وَجْعِي
فَاتَحْ بيبانْ الصَّفا
يَشَعْشَعْ النُّورْ فْ الكُونْ
وْ هَادْ السُّوقْ
فْ مُوسَمْ لَكْلامْ قْصيدَة
وْعَلْفَة لَقْلَمْ
حَرْكَة وْ تْبُورِيدَة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *