وجهة نظر

مـعـارك من داخـل التـوافـق

لا يختلف اثنان حول أهمية العمل النقابي باعتباره آلية أساسية في النضال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وباعتباره كذلك رافعة للاحتجاج المدني المدافع عن القضايا العادلة للفئات الاجتماعية المختلفة. غير أن الاتفاق المبدئي حول هذه الأهمية لا يعفينا من التأشير على أن العمل النقابي إذا لم تتوفر شروطه ومفرداته الأساسية، فقد يصير إلى عكس الأهداف النبيلة التي يقوم عليها. فالكثير من النقابات لا تعكس تطلعات الفئات الشعبية التي تمثلها، والكثير منها منخرط في عمليات “تسييس” العمل النضالي في سياق توازنات السلطة والقوى التمثيلية. وسأسعى هنا، وبشكل مختصر، التعبير عن موقفي تجاه العمل النقابي.

أصبح منطق النضال لدى البيروقراطيات النقابية هو منطق مقلوب. منطق يلغي الصراع ليعوضه بالتوافق، ويناضل من موقع التوافق بالإلحاح على انتزاع بعض الفتات الذي سيبقي القواعد النقابية مرتبطة بها.

فالمعارك النقابية الوطنية للنقابات التعليمية مثلا هي معارك من داخل التوافق المبهم، والمقدمات المنطقية التي تؤسس له، أليس إعلاناً صريحاً عن التعاون مع المشغل خلف وهم ما هو وطني وفي مصلحة التنمية وفي نفس الوقت المطالبة الشكلية بحقوق العمّال عبر البيانات والبلاغات والاجتماعات التي لا تنتهي، وحين يضعها النضال الحقيقي الجاري بإحدى المواقع في موقف حرج، تقفز إلى واجهة الأحداث، وتصر مع المصرين بتلبية مطالب لا يمكنها أن تكون إلا جزئية أو محلية.

إنّ قَبول تلك النقابية الفاسدة بالسِّلم الاجتماعي، وما ترتب عنه من إجراءات تعسفية ضد الطبقة العاملة، ضيعت مكاسبها، وبمدونة الشغل المكرسة للهشاشة في العمل، وميثاق التربية والتكوين، ومدونة الصحة التي تريد المتاجرة في صحة الإنسان، والميثاق الجماعي الذي يهمش المشاركة الجماعية في الشأن المحلي، وقانون النقابات وقانون الإضراب، وكل ما سيطبق من إجراءات هجومية على شروط عمل العمال وعلى استقرارهم، أمر يبرز بجلاء مُكوث النقابات في حظيرة الدولة، ويؤكد عدم استعداد قياداتها البيروقراطية للمغامرة بالمواقع التي يوفرها ذلك التعاون واستمرارها في توفير الأمن النقابي للدولة، ومنع عودة الإطارات النقابية إلى القواعد النقابية، وعموم الشغيلة، لتكون بالفعل أدوات نضال للدفاع عن مصالحها، وتعيد الصراع الأساسي إلى سكته الطبيعية. فمرض البيروقراطية النقابية الفاسدة لا يمكن اجتثاثه من المنظمات العُمالية إلا بالتربية النقابية الديمقراطية والكفاحية، وإشراك العمّال وعموم الشغيلة في تدبير الشأن النقابي، بطريقة بيداغوجية تستهدف تفعيل الإحساس بالثقة في النفس لديهم، ودفعهم ليتعلموا ما كانوا محرومين منه من فكر وسلوك وتأطير.

إن خطورة الفساد النقابي لا تنحصر في الاغتناء الفاحش لبعض المسؤولين النقابيين وانفصالهم عن هموم الطبقة العاملة وفي نهب الممتلكات النقابية، بل تتعداها لتصبح ملفات الفساد ورقة في يدا لسلطة للضغط على القيادات النقابية من أجل تدجين المنظمات النقابية وجعلها ملحقات تابعة لدولة. أي أنها، في أحسن الأحوال، لا تعارض المخططات التراجعية التي تستهدف مكاسب الطبقة العاملة وعموم الشعب المغربي وفي أسوأ الأحوال، فإنها تدافع عن مشاريع تكرس الاستبداد والاستغلال ،و التصويت بالإجماع على مدونة الشغل، إبرام اتفاقات مع الباطرونا تتجاهل معايير الشغل وتستعيض عنها بمفاهيم فضفاضة من قبيل “الحقوق الأساسية”

وعرقلة أي دور للطبقة العاملة في نضال الشعب المغربي من أجل الديمقراطية. وقد اتضح ذلك جليا منذ بداية الستينات من القرن الماضي، وما واكب ذلك من قمع ضد رموز الحركة الوطنية وضد الجماهير الشعبية على مرأى من قيادة نقابية عتيدة التي اختارت “سياسة الخبز” كوسيلة لغض النظر عن هذا الاستبداد. ويتأكد هذا المنحى اليوم بالموقف السلبي للبيروقراطية النقابية من مجموعة من الحركات الاحتجاجية والاقتصار على “المساندة” اللفظية في البيانات والتصريحات، والمناهضة الفعلية من خلال إغلاق المقرات في وجه هذه الحركات وإصدار التعليمات إلى النقابات القطاعية والتحتية بعدم المشاركة في المسيرات والوقفات الجماهيرية ضد الفساد والاستبداد.

والتوجه داخل القيادات النقابية لن يجرؤ على فضح الفساد. فكيف لفاسد أن يفضح نفسه أو وليّ نِعمته؟ وقد تأكد في عدة مناسبات توفر مصالح الدولة على معطيات دقيقة حول ملفات الفساد التي تورط مسؤولين حزبيين ونقابيين (نهب المال العام، التهَرُّب الضريبي، …) والتي تستعملها عند الضرورة للضغط على هذه المنظمات أو لإخراس أصوات مناهضة لفساد الدولة واستعمال رموز الفساد النقابي في خدمة “الباطرونا” والدولة لقمع والأصوات الديمقراطية داخل النقابات. وقد سبق أن أثيرت، مسألة تشكي الدولة من وجود موقفين متناقضين داخل نفس المركزية من “الحوار الاجتماعي، واتضح آنذاك أن الدولة تحصن الفساد وتحميه داخل القيادة النقابية من أجل كتم “الأصوات المزعجة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *