منتدى العمق

رأسملة المجال القروي بالمغرب.. تجربة الشركات الأهلية للاحتياط

الشركات الأهلية للاحتياط ظهرت في الجزائر سنة 1893 لتأطير المجتمع الريفي،إذ كانت تتواجد دائما في الناطق المعزولة والبعيدة عن السيطرة الاستعمارية، رغم أن الإدارة كانت دائما تدعي أن تأسيسها كان بهدف محاربة الربا حتى لا يكون الفلاح فريسة سهلة للمضاربين،وعلى غرار هذا تم نقل التجربة إلى المغرب سنة 1918 بهدف التأطير السياسي للأرياف ومراقبة إمكانته ،وبالتالي منعه من استغلال مجلات التكوين وتوزيع الدخل الاجتماعي والمحافظة على تفقير المواطنين،وإبقاء مستوى معيشتهم منخفضا حتى تبقى اليد العاملة الزراعية رخيصة،وهكذا لا يمكن المطالبة للحصول على عمل.
هذه الشركات كانت تتعامل بصفة خاصة مع أعيان الدوار، لأن الأعيان دائما على علاقة مع الفلاحين وهذا أمر مهم بالنسبة للسياسة الاستعمارية إذ تجعل الفلاح تابع ومأمور وخاضع لسلطة الأعيان، فالشركات الأهلية للاحتياط كانت رمزا من رموز الاستعمار في البوادي،إذن أي نوع من التحديث كانت قد تبنته وسعت إلى تحقيقه مخططات عمل الشركات الأهلية للاحتياط الاقتصادية منها (التقنية والمالية) و الاجتماعية والسياسية حينما تتحدث نصوصها التأسيسية عن تطوير الاقتصاد القروي وتحسين شروط عيش الأهالي. وكيف لهذه الشركات (الأهلية ) أن تحقق ما سعت إليه من تمثيل وتسيير ديمقراطي لهيئاتها، وهي التي تسخرها مباشرة الإدارة مساندة الاستعمارية عبر وضعها تحت إشراف وتوجيه إدارة المراقبة المدنية منها والعسكرية ؟ وكيف لها أن تكسب الفلاحين ومشاركتهم الفعالة في تنفيذ سياستها وبرامجها؟كيف يمكنها أن تحقق تطورا للإنتاج الفلاحي المغربي، وترفع من مردود يته،؟ ثم كيف أن تقوم هذه الشركات بمهمتها التربوية الموكولة إليها رسميا ؟ كيف يمكن لهذه الشركات تصير بؤرة لمجالس قروية حقيقية .
0 السياق التاريخي والسياسي للتجربة .
في ظل الاستعمار ثم إنشاء مجموعة من المؤسسات الموازية لدعم الحضور الفرنسي بالبوادي المغربية من بينها.
خلق مدارس التكوين الفلاحي والإرشاد الزراعي وتنظيم المباريات والمعارض الفلاحية وإنشاء الضيعات النموذجية للفلاحة وتربية المواشي وإحداث عدد من المراكز القروية والدوائر الإدارية، وهكذا بالتدريج بدأ المشهد القروي بالمغرب يتغير بصورة ملحوظة عبر توسيع الاستيطان الخاص المدعوم والمشجع من طرف الإدارة الفرنسية .
ولقد كانت الخبرة السياسية والعسكرية والإدارية وكذلك العلمية المتحققة لفرنسا انطلاقا من تجربتها الاستعمارية السابقة بشمال فرنسا .
أنشئت الإدارة الاستعمارية سنة 1918 بالمغرب ما عرف ب ” الشركات الأهلية للاحتياط بموجب ظهير 8 غشت 1918 ، فهذه التجربة قد سبق تطبيقها بالأرض الجزائرية سنة 1882 وبتونس سنة 1907 . وفي هذا الصدد يقول ” ألبير كيوم ” فقد أنشأت فرنسا هذه الشركات بالجزائر انطلاقا من استلهام إدارتها الاستعمارية للتقاليد القبلية المحلية الخاصة بخزن احتياطي من الحبوب والغلال لأغراض الاستهلاك العادي ، أو لأغراض التضامن والتكافل والإحسان في أوقات الشدة بالأساس .
فقد لجأ الاستعمار في بداية الأمر إلى مراقبة المخازن الجماعية في الجزائر كما في المغرب لا لضمان الموارد الغذائية اللازمة للسكان وحمايتها وإنما بغرض مراقبة القبائل و إخضاعها ، والتحكم في الساكنة المحلية بمواقع إقامتها حتي إذا ما قرر هؤلاء العصيان ، فإنهم سيجدون مخزونهم تحت سيطرة الإدارة الاستعمارية .
0 هدف الشركات الأهلية للاحتياط :
حسب سيليريي إن الشركات الأهلية للاحتياط ، المستندة إلى مبدأ التكافل كمبدأ مندمج في إطار حياة الجماعات القبلية البطريركية كان هدفها من جهة أولى، تجنيب المزارعين الآثار السلبية للمقرضين والمضاربين ، ومن جهة ثانية، أن تقدم لهم شروط مناسبة، تسبيقات مالية أو عينية لتسهيل عملية تحسين أساليبهم الزراعية، هذا مع العلم أن ” سيليريي ” لم يكن من المدافعين عن هذه التجربة، بقدر ما عبر بالأحرى عن مواقف نقدية هامة تجاه رؤيته ” التحديثية ” للبوادي المغربية، الهدف الرئيسي كان هو مراقبة القبائل وإخضاعها والتحكم فيها. إذن أي نوع من التحديث كانت قد تبنته وسعت إلى تحقيقه مخططات عمل الشركات الأهلية للاحتياط الاقتصادية منها (التقنية والمالية) أو الاجتماعية والسياسية حينما تتحدث نصوصها التأسيسية عن تطوير الاقتصاد القروي وتحسين شروط عيش الأهالي؟.
فهذه التجربة مرة بمجموعة من المراحل والتعديلات ونعرضها كالتالي :
المرحلة الأولى من تجربة ” الشركات الأهلية للاحتياط ”
تبعا للتقرير الذي تقدمت به الإدارة العامة للشؤون الأهلية سنة 1928 بخصوص نوع وحجم المساعدات التي قدمتها ” الشركات الأهلية للاحتياط ” للفلاحين المغاربة خلال المرحلة الأولى من تجربتها : يتحدث التقرير عن شراء البذور وتوزيعها على الفلاحين، وتقديم مساعدات قابلة أو غير قابلة للتسديد أو التعويض والعمل على محاربة بعض الأمراض مثل حمى المستنقعات التي انتشرت في المغرب خاصة خلال صيف 1927 والتعميم والإرشاد الفلاحي وتحسين جودة الفلاحة.
أما الغلاف المالي من القروض المقدمة لهؤلاء المنخرطين خلال السنوات الأولى من تجربة الشركات الأهلية للاحتياط فقد وصل إلى 27 مليون فرنك سنة 1928. فالهاجس الذي كان يحرك قوات الحماية هو مراقبة الأهالي وتميزها بالطابع الإلزامي وهو ما جعلها تتوسع بشكل سريع .
منجزات المرحلة الثانية للشركات الأهلية للاحتياط :
في سياق الحرب العالمية الثانية ثمت مراجعة السياسة الاستعمارية بالبادية المغربية ككل وتعديل القوانين المنظمة لهذه الشركات مرة أخرى وإنشاء شركات جديدة مرافقة ومكملة لمهامها .
وسوف تتوجه أعمالها هذه المرة وستتركز أنشطتها على تقديم القروض وتحسين نسل المواشي وتطوير طرق تربيتها وتقديم بذور مختارة واستعمال الأسمدة و إدخال بعض الزراعات الجديدة…غير أن ذلك لم يتحقق إلا بشكل محدود .
إعادة التنظيم في هذه المرحلة :
بعد عام من إعادة التنظيم الأولى التي خضعت لها الشركات الأهلية للاحتياط سيتم إخضاعها مرة ثانية لإعادة التنظيم والهيكلة ، وذلك بموجب ظهير صادر سنة 1937، كما تمثل الهدف من إنشاء ” صندوق مركزي ” ، هو دعم مجمل القروض الموجهة للاقتصاد الأهلي، حيث تم توسيع دائرة تمويله لتشمل كذلك الصانع التقليدي ، لتمكينه إلى جانب الفلاح من الاستفادة من القروض تبعا لما تم التنصيص عليه من شروط .
مثلث التعديلات القانونية الجديدة هذه، كما يقول الجغرافي المغربي محمد الناصري، محطة أساسية أخرى في سير الشركات الأهلية للاحتياط ، بعد التعديل الأساسي الأول الذي حمله ظهير 1 يناير 1937 ، فقد رافق تعديلها هذا، ظهور هذه التنظيمات وتوسعها ، هكذا ظهرت خلال سنة 1937 التعاونيات الأهلية للقمح ، كتعاونيات تعنى بالدعم الاقتصادي الموجه للفلاح …
منجزات المرحلة الجديدة
في ظروف الحرب العالمية الثانية ، واندراج الاقتصاد الزراعي المغربي في إطار تقسيم العمل الدولي وتزايد حاجيات دولة المترو بول ( فرنسا ) من المنتجات الفلاحية المغربية ، مع تقلص قدرة فرنسا على تصدير بعض المواد الزراعية إلى المغرب ، ثم مواسم الجفاف المتوالية،كان له انعكاس مباشر على أدوار الشركة رغم مصادفته أحيانا من ظروف ملائمة لعملها ولتحسين موازنتها المالية ، كما كان الشأن بالنسبة للموسم الفلاحي 39 – 1940 الذي ثم توزيع فيه :
45.000 قنطار من القمح .
50.000 قنطار من الشعير.
8.400 قنطار من الكتان .
9.400 قنطار من البطاطس .
ولأول مرة في تاريخ الشركات الأهلية لللإحتياط حسب نفس التقرير، نجدها قد استطاعت، في بداية الموسم الزراعي 15 أكتوبر 1940، أن توفر كل البذور التي كان المنخرطون بحاجة إليها ، وذلك بفضل التنسيق مع ” التعاونيات الأهلية للقمح ” التي استجابت لطلبات الشركات الأهلية للاحتياط بهذا الخصوص. وهذا إقرار رسمي بكون هذه الشركات لم تتمكن خلال المراحل السابقة من تحقيق الهدف الأساسي لإحداثها، ألا وهو تخزين الحبوب وضمان توزيعها على الأهالي عند الحاجة .
المراجعة الأساسية للشركات الأهلية للاحتياط :
تمثل التعديل في هذه المرحلة سنة 1945 بإطلاق مشروع تحديثي جديد للعالم القروي عرف تحت تسمية « قطاعات التحديث القروي” ولم يكن ظهور هذه القطاعات نهاية عهد الشركات الأهلية للاحتياط ، بل فقط العمل على إعادة هيكلتها.
صدور ظهير 14 فبراير 1946 معدلا نصوص الظهير الأساسي المنظم لهذه الشركات ( ظهير 1 فبراير 1928 ) فكان هذا التعديل بمثابة تليين لنصوصها حتى تستجيب لأهداف وتدخلات ” قطاعات التحديث القروي ”
سياق جديد لعمل الشركات الأهلية :
اعتبار الشركات الأهلية منطلق للتحديث القروي وفي نهاية المطاف سيقرر إعادة هيكلة وتجديد أدوارها كلية عبر تبني المشروع الذي تقدم به جاك بيرك وتأسيس ما يعرف ب ” القطاعات الجانبية للتحديث ” .
استدعت الظروف الجديدة إذن لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وكذا الرؤية الجديدة الموجهة لتدخل الدولة الاستعمارية من أجل ” تطوير ” البوادي المغربية، استدعت تليين النصوص القانونية الأساسية للشركات الأهلية للاحتياط وهو ما عبر عنه الظهير الجديد ( ظهير 14 فبراير 1946 )، إلا أن هذا التعديل لم يمس جوهر الأهداف التي قامت من أجل الشركات بقدر ما عمل فقط على تجاوز النواقص التي طبعت أداءها خلال مراحلها السابقة وخاصة التقليص من طابعها الإداري المركزي .
إن إلقاء نظرة سريعة على ما اعتبر تجديد في مهام الشركات الأهلية كما ورد بالظهير في صيغته المعدلة لهذه المرحلة لن يكشف عن جديد يذكر في طبيعة المهام والوظائف الموكولة لها، عدا بعض الجزئيات أو القضايا الفرعية المتصلة بمعالجة صعوبات تطبيق برنامج عملها الأصلي، وبعض المشاكل المستكشفة أثناء الطريق .
سيظل التوازي والفصل هو الطابع الغالب في تدخل الطرفين بالعالم القروي بين ” قطاع التحديث القروي ” والشركات المغربية للاحتياط، مما جعل الحصيلة بسيطة ومحدودة.
منجزات المرحلة:
منجزات هذه المرحلة لم تكن دالة على أثر يذكر بالبوادي المغربية رغم اتساع رقعة تدخلها لتشمل مجمل مناطق المغرب عموما.
لقد ظلت هذه الشركات تشكو عموما ضعفا في مواردها المالية والبشرية واللوجيستية .
0 بقيت منحصرة في حدود القروض القصيرة المدى .
0 لم تهتم بقروض التجهيز والاستثمار
0 توسع نطاق تدخلها بالبوادي المغربية عبر :
0 خلق فروع لها أو شركات بالمناطق التي لم يكن قد طالها التحديث القروي.
0 خلق شركة ” بني وكيل ” بموجب قرار وزاري بتاريخ 26 نونبر 1946 .
0 خلق فروع أخرى بعدد من المواقع .
نقد تجربة الشركات الأهلية للاحتياط
0 المراجعات التي تقوم بها كانت تستجيب بالدرجة الأولى لمتطلبات الإدارة الاستعمارية.
0 لم تعتن بالفلاح الفقير وأن تأطيرها له كان ضعيفا .
0 تعطي الحظوة والامتياز لفئة الأعيان والملاك المتوسطين .
0 وتركيزها على فئة دون غيرها .
فروني ديمون مثلا اعتبر أن ” الشركات الأهلية للاحتياط ” قد احترمت قواعد السير التدريجي في عملية تحديثها للعالم القروي ، مبتدئة بما هو تقني ، ومراهنة على وسائل الإشعاع والانتشار التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير التقنيات الزراعية والعادات الفلاحية والحياة الاجتماعية والثقافية للفلاحين تدريجيا .
وهذا ما يدعو إلى طرح مجموعة من التساؤلات حول هذه الشركات:
0 كيف لهذه التجربة أن تنجح وهي تركز بالأساس على عمليات تقديم القروض وتسديدها دون اعتبارات اقتصادية مواكبة ؟
0 وكيف لها أن تحقق تطورا للإنتاج الفلاحي المغربي وترفع من مرد وديته ، وهي التي يتركز اهتمامها على فئات دون غيرها ( الأعيان والفلاحون المتوسطون ) وعلى مناطق ومجالات أكثر من غيرها ، وإن غطت مراكزها مجمل التراب الوطني الخاضع للإدارة الاستعمارية الفرنسية ؟
0 كيف لها أن تكسب مساندة الفلاحين ومشاركتهم الفعالة في تنفيذ سياستها وهي التي تلزمهم بالانخراط فيها ؟
0 ثم كيف يمكن لهذه الشركات أن تقوم بمهمتها التربوية الموكولة لها رسميا وهي تعتمد أسلوب التأثير غير المباشر في الأوساط الفلاحية التقليدية والفقيرة ، من خلال الانتشار و الإشعاع الذي قد يحدثه الأعيان والمعمرون لدي هذه الأوساط ، أو باعتمادها على مدربين زراعيين محدودي العدد والكفاءة ؟
هذه بعض الأسئلة التي من شأنها توجيه قراءتنا لطبيعة المساهمة التحديثية التي أنجزتها الشركات الأهلية للاحتياط وهو ما يمكن إجماله في الملاحظات التالية .
الأبعاد السياسية للتجربة :
لم يرغب اليوطي كما يقول ” سيليريي ” في تكرار تجربة الاستعمار الزراعي بالجزائر حيث ثم إبعاد الأهالي لفائدة المعمرين وبواسطتهم ، لقد كان يخشى من ” بلترة ” المغاربة وتجريدهم من هويتهم القروية كما عبر عن ذلك في خطبه ، وفي هذا الإطار ثم سن مجموعة من القوانين واتخاذ مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى “طمأنة ” و ” تهدئة ” الفلاحين بما في ذلك توثيق ملكيتهم للأرض عبر تسجيلها وتحفيظها وتحديدها … رغم أن لهذه الإجراءات أبعادا أخرى .
يذكر لوكوز أن تأسيس الشركات الأهلية للاحتياط قد ثم نتيجة التقاء عاملين هما من جهة أولى البحث عن توسيع الزراعة بالمغرب لتموين المترو بول ، ومن جهة ثانية ما اقتضته بعض الظروف من ضرورة توفير مساعدة للفلاحين ، وخاصة عقب تضررهم من ثلاثة إكتساحات متتالية للجراد ، مما حال دون توفير البدور لأغلبهم . وهذا ما يفسر بالطبع نوعية الاهتمام الاستعماري بالفلاح في هذه الفترة .
إنها إذن شركات أهلية للاحتياط من غضب الفلاحين ، ومن الاحتمالات غير المترقبة لردات أفعالهم، في ظل الظروف القاسية المعروفة للبوادي المغربية ، وهذا ما يجعلنا نميل إلى الافتراض أن هذه الشركات قد ساهمت في تقوقع البوادي وتشبث فلاحيها بقيمهم التقليدية ، وبالتالي ، ساهمت في تثبيت أوضاعهم والمحافظة عليها ، أكثر بكثير مما ساهمت في تطويرها وتحديثها . بل إنها ساهمت في تقوية آليات إنتاج الثقافة المضادة الداعية إلى التحصن في خندق الهوية الاجتماعية والثقافة المحلية . وهو ما جعل الفلاحة المغربية عموما، باستثناء المتعاملين المباشرين مع المستعمر تبقى متشبثة بمزروعاتها وبوسائل استغلالها التقليدية ، كما ذهب إلى ذلك الباحث عبد الجليل حليم .
تحديث الأعيان عوض تحديث الفلاح :
ما دامت التمثيلية في مجالس فروع هذه الشركات موكولة للأعيان إلى جانب بعض التقنيين الزراعيين وبعض ممثلي الجماعات ممن هم أقرب إلى وضع الأعيان كذلك ، فلن ننتظر من هذه المجالس إلا التعبير عن أراء ومصالح الأعيان هؤلاء ، وليس عامة الفلاحين الذين لم يكن يسمح عددهم الكبير من جهة وقلة الاهتمام بهم من جهة ثانية بتأطيرهم وتحديثهم اقتصاديا وتقنيا على الأقل هذا فضلا عن خضوع الجميع شركات وأعيان لتوجيهات إدارة المراقبة المدنية أو العسكرية مما يكشف عن طبيعتها السياسية الاستعمارية وليس عن ” دمقرطة ” شؤونها لغاية ” خدمة ” الفلاح…
المرتكزات المعرفية للتجربة:
كما يرى عبد الجليل حليم ، فإن المستعمر في هذه المرحلة ، كان يعتقد أن نقل الفلاح المغربي إلى الإنتاج الفلاحي العصري سيتم عبر ظاهرة الانتشار : انتشار وسائل الإنتاج الأوروبية نتيجة احتكاك الفلاحين بالمعمرين . وانتشار التقنيات والعقلية الحديثة ( الرأسمالية ) في العمل الفلاحي عبر الضيعات النموذجية التي خلقتها هذه الشركات ، وعبر ضيعات المعمرين واشتغال الفلاحين المغاربة بها ، وكذا عبر ضيعات الأعيان ، وعبر المعارض والمحطات التجريبية وإعارة الخدمات …إلخ .
فكيف لهذه الطرق الإنتاجية الحديثة أن تنتشر لدى الفلاح المغربي البسيط وهو الذي لا يتوفر إلا على قطعة صغيرة من الأرض في الغالب. وهو الذي لا يتوفر على الإمكانيات المالية لاستثمارها بالطرق الرأسمالية للاستغلال ، نظرا لمحدودية القروض المقدمة له من طرف ” الشركات الأهلية ” . وهو الذي يعتبر محكوما بمؤسسات اجتماعية واعتبارات ثقافية لا تتناسب مع المرجعيات الاجتماعية والثقافية للاقتصاد الأوربي ، مما لا يأخذه المعمر بالحسبان أثناء تنفيذه لمخططات عمله الفلاحي .
فعبر سياسة المثال والانتشار إذن ، سعت الشركات الأهلية للاحتياط والإدارة الاستعمارية ككل إلى لعب الدور التربوي الموجه للفلاح المغربي عبر حثه ودفعه إلى تقليد ” المعمر ” الأوربي والاحتذاء به . وهنا أيضا تنكشف الخلفيات المتمركزة حول الذات لمثل هذا التصور ، والنظرة الاستعلائية للمستعمر إزاء الفلاح المغربي ، فالمستعمر هو المربي وصاحب قيم والعلم و العقل والحقيقة .. أما المستَعمر ( الفلاح المغربي ) فهو الجاهل المخطئ الهادر لإمكانياته و الجامد في تقاليده العتيقة… ولكي لا يسقط انتقادنا هذا في أيديولوجية مضادة (مهاجمة المستعمر )، فإننا نقول بأنه بقدر ما كانت توظف هذه الحقيقة الواقعية وتستثمرها لصالح المستعمر ومشاريعه.
الآثار السوسيواقتصادية للتجربة :
فقد ركزت الشركات الأهلية للاحتياط على البعد الاقتصادي – التقني من حياة الفلاح المغربي فاهتمت بالمرد ودية وبالإنتاجية عبر استعمال الآلات الميكانيكية والزراعات الجديدة والبدور المختارة ، وعبر تنقية الأرض ومعالجتها بالأسمدة ومعالجتها بالأسمدة ، وتحسين نسل المواشي وتلقيحها ضد الأمراض والاستعانة بخدمات المرشدين والتقنيين الزراعيين …
اهتمت بكل هذا لا لخدمة الفلاح المغربي في حد ذاته ولا لتحديث الإنسان والمجتمع المغربيين ، وإنما لدمج الاقتصاد الوطني المغربي ضمن السوق الميتروبولية ( فرنسا ) ولتزويدها بحاجياتها الغذائية ولسد حاجيات السوق الداخلية المتنامية باستمرار … أي الاختيار قد سار في اتجاه الاقتصاد أساسا وبصفة جزئية .
فالإدارة الاستعمارية لم تكن بحاجة إلى إخفاء الأهداف السياسية والاجتماعية لهذه العملية كما أشرنا من قبل.
فعملية الإقراض القصير المدى التي انتهجتها ” الشركة الأهلية ” كانت قد فرضت بدورها أحيانا على الفلاح الصغير والفقير الاقتراض من جهات أخرى قصد تسديد الدين الواجب عليه أداءه لفائدة ” الشركات ” خلال نهاية الموسم.
فالفلاح لا يتحصل من الشركات سوى على قروض صغيرة في مقابل ذلك ترهن مجهوده وموارده من أجل خدمة الدين.
لم يكن نظام القروض يخدم الفلاحين الصغار والمعدمين بالقدر الذي كان يشجع الفلاحين الراغبين في شراء الآلات الميكانيكية العصرية ، مما ساعد على خلق فئة من ” المعمرين ” المغاربة كما سماهم ” لوكوز ” وهنا تبرز مفارقة أخرى كانت من نتائج السياسة القروية لهذه التجربة ، وتتمثل في كون التشجيع على مكننة الزراعة أدى إلى بلترة فئات مهمة من الفلاحين ( الخماسون أساسا ) وتعريضهم للهجرة من أجل بيع قوة عملهم خارج الأرض التي كانوا يشتغلون بها بعد أن حلت الآلة محلهم ، بينما كانت تسعى السياسة التحديثية لمثل هذه التدخلات إلى الحد من الهجرة وتجنب الاضطرابات المرتبطة بها .
تجربة في مجملها ضعيفة الأثر:
على العموم اتفق أغلب الدارسين والمهتمين بالتجربة التحديثية لهذه الشركات بمن فيهم التابعون منهم للإدارة الاستعمارية ذاتها وعلى النقص الحاصل في تصور ومنهجية تدخل الإدارة الاستعمارية بالمجال القروي المغربي .
ويرجع ” بول بوتان ” ضعف الأثر السوسيواقتصادي للتجربة إلى عاملين أساسيين :
العامل الأول ذو طبيعة اقتصادية ، يهم طبيعة الإنتاج الزراعي للفلاح المغربي لكونه اقتصاد منزلي معاشي بالأساس س ، في مقابل ضيعة المعمر الأوربي التي تشتغل وفق منطق سوق الربح…
والعامل الثاني فهو ذو طبيعة سوسيولوجية ذلك أن طبيعة المجتمع التقليدي الذي يشتغل ضمنه الفلاح المغربي تفرض مراعاة التداخل الشديد بين مجمل مكوناته الاجتماعية ، مما لايسمح بإقحام مكون جديد ما لم يكن قابلا للتوافق مع المنظومة الاجتماعية الكلية والاندماج ضمن تركيبتها ، وإلا رفضته ولفضته بكل بساطة .
ولكن كيف نفسر نجاح تدخلات التجربة بالنسبة للأعيان والفلاحين الكبار، هل كان ذلك نتيجة الكسل المتأصل فيهم وعقليتهم التقليدية المحافظة ؟؟؟
إن التحديث القروي كان أولا وسيلة للحكم ولمراقبة الإسكان ، في الوقت الذي كانت فيه الحماية منشغلة باستكمال سيطرتها على البلاد ، وهو ما جعل العلاقة بالسلطة الإدارية غير سليمة ، وما جعل من الشركات الأهلية للاحتياط تجليا لسلطة المراقب المدني التي تمت مواجهتها بالجمود أو التملص الموافق بدون التزام .
استنتاج
هكذا من خلال معرفة طبيعة الشركات الأهلية للاحتياط يمكن أن نستنتج أنها وسيلة اقتصادية للسيطرة السياسية على البوادي المغربية، وكذلك وسيلة في يد المستوطنين.ولهذا فالسلطة الاستعمارية في حوزتها مؤسسة تعسفية ذات ربح وافر دون مصاريف كبيرة، إنها تحافظ على الفقر بل وتغذيه،إن الشركات الأهلية للاحتياط كانت رمزا من رموز الاستعمار داخل البوادي.

المرجع:
كتاب عمار حمداش ، تجارب التحديث القروي ، مع بيان من أجل البوادي المغربية ، ” طبع هذا الكتاب بدعم من ” جمعية البحث لتنمية القنيطرة والغرب ” وهي جمعية تعني بالدراسة والبحث حول قضايا جهة الغرب ، الطبعة الأولى 2015 .
– الفصل الأول من تجربة ” الشركات الأهلية للاحتياط ”
– د. كريم ولدالنبية. “الشركات الأهلية للاحتياط في الجزائر1893-1962” دار الكنوز للنشر والتوزيع.

* طالبة باحثة بماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *