منتدى العمق

فعل الحصاد والنجاعة الرمزية

إنّ ما يميز الإنسان ويعطيه خصوصية وجودية هو القدرة التي يملكها على عقل الأشياء وإنشاء الرموز وشبكة المعاني، فالعيش بالرموز وتوظيفها يعد فعالية إنسانية بكلّ امتياز، بها يعيش الإنسان ويؤثث وجوده ويبني عالمه المادي والمعنوي ويرسي نظام الأشياء والعلاقات بينه وبين الآخرين من الناس. ودلالة الأشياء والعلاقات لا تدرك إلاّ من خلال استعمالاتها وممّا تتضمّنه من معنى في حياتهم وممّا تتخذه من دلالة في متخيّلهم الجمعي. وفي هذا الصدد قال “بيار أنصار” فإنّ المجتمعات سواء الحديثة منها أو التقليدية أو تلك المسمّاة بلا كتابة، تنتج دوما متخيلات “des imaginaires” لتعيش بها وتبني من خلالها رموزها وصورها عن نفسها وعن الأشياء والعالم، وبواسطتها تحدد أنظمة عيشها الجماعي ومعاييرها الخاصّة(1).

إن الهدف من هذا البحث ليس ضرب الممارسات الرمزية المنظّمة التي ينخرط فيها النّاس جميعهم بكثافة وبمختلف فئاتهم، والتي تكاد لا تخلو منها أفعالهم الجماعية والفردية، بل علينا أن نقيس تلك الطقوس الشعائرية،فالإنسان من زاوية نظر أنثربولوجية كائن طقوسي بامتياز مثلما هو كائن رمزي. وعندما نقارب هذه المسألة تطالعنا مجموعة من الأسئلة الأساسية: ألم تعد الأنشطة الطقوسية في مجتمعاتنا الحديثة حيث طغت العقلانية والنفعية وسيطرت روح الدّنْيَوة (sécularisation) ممارسات مفرغة من المعنى ولا تقع إلاّ في هامش الأنشطة التي تنتج المجتمع: الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية؟ ألم تبق للطقوس سوى مجالات ضيقة في مجتمعات تهزها موجات من فقدان العالم الاجتماعي لسحره (désenchantement du monde) كما يقول ماكس فيبر ثمّ إذا كانت المجتمعات الحديثة قد “تعقلنت” واتجهت أفعال الناس فيها أكثر فأكثر نحو النجاعة، وغمرتها موجات الدنيوية، أفلا يعني ذلك أنّ مجالات الممارسة الرمزية ذات الشحنات السحرية، والطقوس(2)، قد ضاقت ولم تعد ذات معنى مثلما كانت في مجتمعات التقليد؟.

1- معنى الطقس

تعرف الانثروبولوجيا الطقس بأنه أي تنظيم مركب للنشاط الإنساني ليست له طبيعة فنية (تقنية) أو ترويجية بارزة ويتضمن استخدام أساليب السلوك التي تتسم بقدرتها على التعبير عن العلاقات الاجتماعية.

تناول معجم الوسيط مفهوم الطقس على أنه نظام الخدمة الدينية أو شعائرها واحتفالاتها المقدّسة(3)، ويختلف التعريف حسب المناسبات فهناك بعض التعبير البسيطة أو وسائل العرف التي تتكرر كعنصر عادة احتفالية…، ويمكن تسميتها طقوس، إذا ما كانت تعبر عن مضمون اعتقادي(4)، فالطقس يعني من خلال كلّ هذا على أنه مجموعة من “القواعد” التي تنتظم بها ممارسات الجماعة، إمّا خلال أداء شعائرها التي تعدّها مقدّسة أو من خلال تنظيم أنشطتها الاجتماعية والرمزيّة وضبطها وفق “شعائر” منتظمة في الزمان والمكان. وفي اللغة العربية يشمل مضمون “الطقس” الدلالة على “الشعيرة”. ولئن اقترن مدلول الشعيرة في اللغة العربية بما يدلّ على الممارسات المقدّسة التي تدخل المؤمن في حالة القداسة وتجعله يؤتي مناسكه التعبدية، ويحيل أيضا على المراسيم التي تنجز ضمن التعاليم الدينية للدخول في تجربة القداسة (كتلك المرتبطة عند المؤمنين مثلا بفرائض العبادات من صلاة وحجّ، وبشعائر الموت والأضحية وغير ذلك)، فإنّ مجال الطقوس يشمل أيضا إلى جانب ذلك الأنشطة والممارسات غير الدينية بما في ذلك الأنشطة الاقتصادية والسياسية والرياضية، وأفعال التواصل والتبادل التي تتمّ بين الأفراد في معاشهم اليومي. ولقد أولى “ايرفينغ غوفمان”(5)لطقوس التفاعل في الحياة اليومية(rites d’interaction) اهتماما أساسيا في مقارباته السوسيولوجية للممارسات “البسيطة” في حياة الناس اليومية، مبيّنا ما يقع فيها من انتظام، وما تختفي من وراءها من نظم رمزية تسيّر عمليات التواصل الأكثر شيوعا بين الأفراد في الحياة اليومية. وتكمن فائدة أعمال “غوفمان” في أنّه كشف عمّا وراء “فوضى” الممارسات اليومية، من أنشطة منتظمة، ينخرط فيها الناس ويتقيّدون بها دون أن ينتبهوا إلى ما فيها من انتظام رمزي، كما بيّن “غوفمان” أنّ الناس كائنات طقوسية بكلّ امتياز ولا يمكنهم العيش معا إلاّ بواسطة طقوس تنظم مبادلاتهم الرمزية المختلفة. فالمجتمع مسرح يومي تُّؤدّى فيه الأدوار منتظمة وفق طقوس تفاعلية لا تستوي الحياة الجماعية بدونها، وضمن هذه “اللعبة” يملأ كل فرد موقعا له ضمن مسرح المكانات، محافظا خلال ذلك على مقامه ومكانته أو على ما يسمّيه “غوفمان” بـ”ماء الوجه”. فالمحافظة على هذا “الماء” أساسية ضمن قواعد التفاعل البشري، والحياة الجماعية إنّما تنهض على ضروب من المجازات المسرحية (métaphores théâtrales) التي تؤدى وفقها التفاعلات في الحياة اليومية.

2- الريف المغربي والترميم الثقافي

احتراما لهوية وثقافة القبيلة المغربية وأهميتها التاريخية والاجتماعية سنقوم بتنزيل الممارسات الطقسية بالمعاني والوظائف ، ولمعالجة هذا الأمر علينا أن ندرك حجم التغيرات الاجتماعية التي هزت مجتمعاتنا المحلية؟ وما صاحبتها من تمزقات تاريخية ووجدانية.

كانت الأنشطة الدينية والطقوسية الرمزية متصلة مع بعضها البعض ومندمجة في أنشطة الحياة الاجتماعية لسكان القرى ، أما اليوم وقد تعلمنت المنطقة وتكاثفت حركة التقسيم واستقلت الأنشطة وانفصلت، فنقلت معها الأنشطة الرمزيّة والطقسية التي كانت تنهض بها، لكنّ يجب القول هنا، إن مثل هذه الأنشطة التي قد استمرّت تمثّل ملاذا للاحتماء ومقاومة لما تمخّض عن التغيير الاجتماعي من تبعات (تذرّر القرابة وتمزّق الوجدان الجماعي وتشوّش القيم)، وحتى للتعبير عن أشكال من الهويّة تتخذها فئات اجتماعيّة واسعة – إما أنّها تعيش انباتا عن أصولها أو تواجه صعوبات في الاندماج، أو تعيش في أوضاع مرتبكة بحكم ما صاحب التغيّرات الاجتماعية الحاصلة من تمزّقات في الروابط الأهلية والجماعية، ومن تشوّش في القيم المرجعية، الأمر الذي خلق ارتباكا في النماذج الثقافية والتصورية. فالممارسات الطقوسية قد مثّلت في هذه السياقات مجالا للاستثمار الرمزي تنخرط فيه فئات منشغلة كثيرا بهويتها ووجودها الاجتماعي. فتتخذ من هذه الاحتفالات الطقوسية فرصا لتتعهّد رأسمالها الاجتماعي، وتربط “صفقات” تنمّي بها رصيدها العلائقي. ويختلف مثل هذا الاستثمار من حيث أهدافه وكثافته باختلاف الفئات الاجتماعية ومواقعها وشواغلها.

ومن هذا المنطلق نفسح المجال للحديث عن ممارسات طقوسية بامتياز وما يصاحبها من عملية الترميم كما يقول “روجي باستيد”. إنه “موسم الحصاد”خلاله تقام الأنشطة الاحتفالية وتؤتى ممارسات مفرطة في الانضباط للنص الديني، ويصبح الرمزي سيد المرحلة.

3.1- جمع المحصول كعملية تأسيسية

خضعت الزراعة في المناطق القروية عامة ومنطقة (الحياينة)(6) خاصة، لمجموعة من العمليات تؤطرها فترات ومواسم كبرى، مثلما تتحكم فيها عمليات أساسية وهي الحرث والغرس والجني والحصاد، وطبعا تندرج ضمنها عمليات مواكبة كالتشذيب والمداواة والتسميد وإزالة الطفيليات والدرس والتلفيف وتخزين المنتوج بطرق تقليدية أو عصرية بسيطة. وإذا كانت كل فترة من السنة الفلاحية لها تميزها الخاص، فإن فترة المصيف تتميز بكونها فترة الحصاد بامتياز، مثلما لا يمكن فصل الحديث عن زمانه، فإن الحديث عن الحصاد لا بد وأن يتدرج باستحضار طريقته في الماضي ضمن مقاربة المقارنة لتلمس بعض مظاهر رياح التطور التي هبت على عمليتي الحصاد والدرس في ظل المكننة.

بعد أن تصفر سيقان السنابل وتتصلب حبوبها كعلامات تؤشر على حلول موسم الحصاد، تتسارع إجراءات الاستعداد والتحضير من جانب الفلاحين، وما يصاحبها من طقوس وتراتبية الأشغال المرتبطة بها لحين عملية الدرس وتجميع وتخزين المحصول في “المطامير”.

سواء أكان وقت الحرث أم الحصاد فالوقت وقت اعتزاز واجتهاد الفلاح، يستعد له بشهر أو بشهرين لتوفير الأدوات للذين سيشتغلون معه والمستلزمات التي سيحتاجها من مناجل وقنب وخيمة للاستراحة تحت ظلالها (نظرا لانبساط الأراضي كما وسبق أن ذكرنا وانعدام الأشجار الظليلة في الأراضي الشاسعة والتي قد تعود لمالك واحد)، وأواني الأكل وأكياس الخيط ، مع بداية علامات الغلال من اصفرار النبات، وانحناء السنابل، وانفصال الغلاف عن البذور عند فركها بباطن اليد، عندها يبدأ موسم الحصاد، الذي يمر بالمراحل الآتية: مرحلة جني البذور يمنع المحصول من الري قبيل فترة الحصاد حتّى يصل إلى النضج التام. من خلال هذا الوقت يجدد الفلاح العهد مع الحصادين الذين يألف تواجدهم معه في هذه الفترة والذين هم أنفسهم اعتادوا الاشتغال معه وأغلبهم يأتون من القبيلة المجاورة (التسول)(7)، وأحلى أيامه ما كانت تتزامن مع شهور الإفطار ، لأن الحصاد في شهر الصيام كان يمر بصعوبة بالغة بالنظر للحرارة التي تكون مرتفعة مع تباشير فصل الصيف وما تجره من حالات العطش التي ترهق الجميع سواء في عملية الحصاد أو أثناء الدرس في البيدر ..وكانت تستبق موسم الحصاد فترة تجتهد فيها النساء لقطف سنابل الشعير من الحقل وتعريضها للنار الهادئة على الآنية الطينية صانعة منها بما يعرف محليا بـــ: (الزميتة أو المكيبيعة، الفريك).

3.2- الحصاد والوظيفة الطقوسية (*)

ما يهمنا أكثر وفي هذا الدرس التحليلي هو تلك المرحلة التي تلي مئة وثمانين يوماً على زراعة المحصول وقد يختلف التوقيت حسب نوع القمح ومنطقة زراعته. يبدأ المزارع بحصاد القمح إمّا يدوياً باستخدام المنجل، أو آلياً باستخدام الحاصدة. تربط سنابل القمح بشكل حزم كبيرة، وترتب فوق بعضها البعض على مفارش بلاستيكية، حتّى تحفظ الحبوب التي تتساقط من السنابل أثناء تكويم الحزم فوق بعضها. مرحلة فصل الحبوب كان الفلاح الحياني يعتمد على دابتين (في أغلب الأحيان تكون مكونة من بقرتين أو حصانين ، وقد تختلف باختلاف المناطق)، لدهس المحصول بشكل تقليدي في مكان يحضر مسبقا بشكل مميز يسمى بـــ: “البيدر” ويعرف محليا بـــ (الكاعة)، الذي يعد بشهر قبل عملية الحصاد ويلقى عناية خاصة بدأ بتنقيته من النباتات والحجارة حتى يصبح ذو أرض مسطحة وخالية من الشوائب ثم تقام النسوة في أغلب الأحيان بطليه بفضلات الذواب “زاريق” ثم يترك ليجف وتعاد العملية أكثر من مرة وفي هذه اللحظة يمنع دخول أرض البيدر بالنعال أو لعب الأطفال فيه أو أن تطأه قدم الحيوانات، للرمزية الخاصة التي أصبح عليها لأنه فيما بعد مكان للبركة وللحبوب “بلاصت النعمة”(8).

إن” الحصاد” متميزا بشخصية الفلاح وبأدوات اشتغاله، له نحافة ورشاقة تساعده على الحركة والمناورة وتمنحه القدرة على تحمل حرارة المصيف “الصمايم”، يضع على رأسه قبعة كبيرة من الدوم يسمونها ”الترازة” وينتعل في قدميه نعلا، ويرتدي على صدره واقيا يسمى “التباندا” وهي رقاقة مصنوعة من الدوم وعليها قطع من الثوب وخيط رفيع يشكل الحامل لها مع خيط يشكل الحزام(9)، يمسك المنجل بيد ويضع في أصابع يده الأخرى “صباعات”(10)، في وقت متزامن مع حركة دفع من اليد الأخرى وهي تطبق على ما يشكل “غمارة” أي حزمة من الزرع المحصود التي بمجرد قطعها وسحبها ترمى بحركة تلقائية إلى الخلف لتشكل امتدادا لخط مسترسل من حزم الزرع في انتظار تجميعها وحملها قريبا أو بعيدا ووضعها مرصوصة بعضها فوق بعض ليأخذ شكلها النهائي والتي غالبا ما تكون قريبة جدا من “الكاعة”.

حدثني جدي يوما رحمة الله عليه( لحسن الادريسي بوطابة) أنهم كانوا يطلبوا الدواب من الأهل والجيران لتكملة النصاب الواجب توفره مع توفير الاحتياطي منها في حال عياء أو تعب بعضها لاسيما وأن عملية دورانها فوق المحصول “الدرسة” غالبا ما تستمر بشكل متواصل لأزيد من نصف ساعة قبل أخذ قسط من الراحة يستغله العاملون لإعادة تجميع ما تشتت من الزرع بفعل دوران الدواب في البيدر بالاعتماد على حزمة من النباتات (الشطابة) وبطريقة تشمل مجمل الدائرة من طرف شخصين متقابلين لاقتسام العبء ولتشمل الدرسة العناية من كلا الجوانب، غالبا ما يكون محور الدوران من البغال وتثبت بإحكام لضبطها والحفاظ على الدائرة في مكانها وقائد البيدر يمسك بيده قنب التحكم في الدابة أو الحيوان المثبت وباليد الأخرى عصا أو سوطا “المصوطة أو بوفنشيل ” للإخافة قصد تحفيزها على السرعة في الدوران، علما بأن عملية الدرس في البيدر لا تنطلق إلا حينما ترتفع الحرارة عكس عملية الحصاد لضمان سخونة سيقان الزرع وضمان تفاعلها مع الحرارة والحوافر، وبالتالي سهولة انكسارها وانفصال الحب عن التبن، بالإضافة إلى استراحت الدواب هناك نصيب لاستراحة “الشوالة أو مول الدرسة” لتناول «صيكوك « على طبق قصديري وهو خليط من اللبن و دقيق مفتول بطريقة تقليدية ومطهي بالبخار ، وتستمر العملية إلى حين إتمام ما كان في “الكاعة” من مئات أو آلاف اللفائف ” القتات” ليكون الانتقال بعد ذلك نحو عملية أخرى تسمى “التذرية”، وفيها يقوم كبير البيت أو الأسرة بافتتاحها حيث تعتبر هذه العملية مرحلة متقدمة أو بالأحرى المرحلة الأخيرة في عملية فصل الحب عن التبن أو تصفية الحبوب مما يعلق بها من بقايا التبن “الخش” باستعمال آلة يدوية خاصة تسمى “اللوح” إذ يرفع بها الفلاح الحب والتبن ما يستطيع حمله إلى أعلى ما يمكن بحسب قدرة حاملها في اتجاه الريح ليذهب التبن نحو كومة تتشكل منه شيئا فشيئا لتتحول فيما بعد إلى ” نادر”، بينما تسقط حبوب الزرع في داخل دائرة البيدر ، وهكذا حتى يتم فصل الحبوب عن التبن نهائيا ليتم تخزينها في أكياس البلاستيك بألوانها الصفراء والزرقاء التي غزت بشكل كبير مجال الفلاحة ، ولكن قبلا كانت أكياس من القنب البني “التليس”، وتوضع في مطامير معدة لهذه الغاية داخل البيوت أو بجانبها مباشرة بعد أن تتم مداواتها بواسطة أدوية تشترى من السوق الأسبوعي التي قد تجعل الحول يمر عليها أو يكاد دون أن يصيبها التلف ، وكلما أراد صاحبها استخراج ما يحتاجه منها يفتحها وينتظر نصف نهار أو زيادة قبل أن ينزل إليها أحدهم لتعبئة الحمولة المحتاجة ثم يغلقها بإحكام من جديد ، كل هذا كانت تصاحبه أهازيج وكلمات مثل الصلاة على الرسول ” يا العاشقين فالنبي صليوا عليه اللهم صلي على الحبيب وسلم أهدي ألآلة هدي… “، وتبقى عند انتهاء العملية فتات الحبوب أو القطاني وغيرها وغالبا ما يستفيد منهما الأطفال الصغار وبعض الذين شاركوا في عملية الدرس، ولا ينسى الفلاح الحياني مقدار العشر الواجب إخراجه كزكاة بالرغم من الصدقة التطوعية التي ترافقه منذ الحصاد (متسولوا الحقول) أو بالوافدين على البيدر (العرب)(11).

إن التبن المدروس والمصفى من الحب يتم تجميعه وتكديسه في شكل ( يشبه شيئا ما المنشور الثلاثي ) ويسمى “النادر” وعند انتهاء العملية تقام وليمة يحضر الجماعة ومن ساعد على ذلك وهنا يمكننا الحديث عن “التويزة” 12)وفي اليوم الموالي باعتبار النسوة هن البادي والمنهي يستكملن عملهن ويقمن بتغطية التبن المصفوف بتبن آخر يفرز قبلا لهذا الغرض ويكون سميكا يسمى ب “البرومي” ثم بقشرة سميكة من الطين المبلول والممزوج بالتبن نفسه وتسمى هذه العملية “التغياس”ولا يقوم بها أي كان بل لها من يجيدها ويتقنها خصوصا وأنها تقوم بحفظ التبن من التسربات المائية في فصل الشتاء حيث يكون الفلاحون في أمس الحاجة إلى التبن كغذاء لماشيتهم ودوابهم.

كل تلك الطرق والآليات والوسائل التي تحدثنا عنها ببساطتها و بطئها لا يتماشى مع واقع الحال اليوم في أغلب المناطق ، ولكننا قد نجدها في المناطق الجبلية الوعرة التي لا تزال إلى حد ما تحافظ على الموروث بتقنياته وآلاته وطرقه التقليدية بسبب عدم إمكانية ولوج الآلات إلى حقولها (أوطابوعبان والأحد أولاد ازباير)، عكس السهول والمناطق المنبسطة التي تغير فيها كل شيء، فالمنجل والدابة حلت مكانهم آلة الحصاد والدرس التي تأتي على الهكتار الواحد من الأرض حصدا ودرسا وتجميعا للحبوب في الأكياس في ظرف ساعتين إلى ثلاث في أقصى مدة زمنية، وهو ما جعل الوقت والزمن الذي كان يتجاوز الشهر وزيادة يتلخص في أقل من بضع ساعات، علما أنه غالبا ما تتبع آلة الحصاد والدرس آلة أخرى لتلفيف التبن يجرها جرار ولا يتدخل الفلاح اليوم إلا لوضع بعض رزم التبن بعضها فوق بعض ثم تغطيتها بغطاء من البلاستيك لحمايته من المطر في وقته، وهكذا لا يكاد ينتهي النهار إلا وكل المحصول في البيت بسرعة لم تكن لتتأتى لنا في السابق، ولا ينكر مجتمع الدراسة أن الكلفة المادية والمجهود تقلصا بشكل كبير جدا ما بين كلفة الأمس وكلفة اليوم وهذا هو الجانب الإيجابي في تحصيل الحبوب، بينما افتقدنا تلك الأجواء الجميلة رغم صعوبتها وعنائها.

اختفت البركة باختفاء الجماعة والتويزة، وقل صبر الحبوب بعد أن كانت “عولة عام” أصبحت اليوم تتعرض للتلف بسبب بلل سيقانها وبالتالي يتمدد التلف إلى أكبر نسبة من الحبوب فلا يشعر المزارع إلا وقد خسر قدرا وكمية من منتوجه الفلاحي عكس ما كان ما كان يحصب عليه الحب من حرارة الشمس الكافية بما يضمن اشتداد صلابته، زد على ذلك، طريقة التخزين التي صارت تتم في الأكياس البلاستيكية داخل غرف تجعلها معرضة -رغم الأدوية- للعديد من الحشرات والقوارض التي تلتهم ما تلتهم وتفسد منها ما تفسد (السوس، الفئران، …)، والأكثر من ذلك المزارعين بسبب الخوف يبيعون منتوجهم مباشرة بعد حصاده ودرسه والمراهنة على الدقيق من السوق والدكاكين القروية، وتقلص تنوع المائدة المغربية التي كانت غنية بمأكولات تقليدية حسب الموسم كـــ: (الزميتة التي تحدثنا عنها قبلا، والبركوكش، الحرشة، خبز الشعير، السيكوك…).

زمان كان جميلا على حد قول جدي بمميزاته وطقوسه المتعارف عليها وبساطته وكرم أهله، كمل لزمننا قسط من الجمال لآلياته التي يسرت كل شيء ووفرت الجهد والمال على حد سواء.

3- الطقوس ووظيفتها

كل هذه الممارسات الطقوسية فتحت المجال الواسع للفئات الاجتماعية المختلفة بأن تتزوّد بالمعنى (se restaurer avec du sens)، فبما يصاحب هذه الاحتفالات من عمليات من التعديل والترميم الثقافي(13). كما يقول “روجي باستيد”، وبما يتحقق للأفراد من إشباعات لحاجات رمزية، ينسدّ جانب من الثغرات وتقع معالجة جانب كبير من الإرباكات و التمزقات التي تواجهها الجماعة في محيطها المحلّي، وتقدر الجماعة المحلية من ثمة، بواسطة الممارسات الطقوسية، على أن ترتق ما هدّمته التغيرات الاجتماعية العميقة وما أحدثته من شروخ في روابطها الاجتماعية ووجدانها الجمعي. الطقوس بهذه الوظيفة هي بشكل ما إدراج لتجربة معيشة ضمن صيرورة “كوسموقونية” كلية(14).

إن بعض من الطقوس الحيانية إن لم نقل جميعها تجيش الذهن الجمعي وتعبئه، وتتّضح هذه الوظيفة المتخذة في حياة الجماعات، ولا يمكن أن تتواجد واحدة منها دون تقوية وعيها الجمعي وتثبته خلال مناسبات محدّدة. كالحضور مثلا لأداء فعل “التويزة”، بالرغم من أنها طقس احتفالي غير أنا تصاحبها مشاعر جماعية، كما تدعم انتماء الأفراد إلى النظام الأخلاقي القائم. والتجيش يلازم أنشطة الفلاح الحياني/التسولي على الخصوص التي تلازم بدورها الأنشطة الجماعية وخاصّة الاحتفالية والدينية منها.

تقوم البادية المغربية على ثلاث واجبات رمزية مترابطة بشكل إلزامي، والتي تحدث عنها كل من “مارسال موس”في دراسته لمؤسسات (البوتلاتش والماوري)، ودراسة “مالينوفسكي” لنظام التبادل في نسق (الكولا)(15)، هذه الواجبات هي:

– واجب العطاء الذي يقابله واجب الأخذ.
– واجب الأخذ.
– ثمّ واجب الردّ. وإضافة إلى ما يرمز إليه العطاء ضمن هذه العمليات الثلاثية من تحدّ من المعطي للمعطى له بما يستوجب منه القبول ثمّ الردّ بأكثر ممّا أخذ.

في واقع التحوّلات الاجتماعية، هناك ممارسات في”الاتجاه المعاكس حيث قال “جون دوفينو”(16) : لذا من الواجب السوسيولوجيا أن تواكب التحولات وحتّى تلك التحولات بالاتجاه المعاكس. يطالبنا جون دوفينيو هنا ونحن نقارب ظاهرة طقسية خضعت للتغيرات، أن لا ننشغل فقط بفهم عملية الحصاد والخروج بها من التقاليد إلى العصري وفك رموزها، بل علينا أن نفهم أيضا أسباب استمراره كظاهرة “قديمة” تـتمـسّك بها وبلا كلل المجموعات البشرية في القرى المغربية .

الهوامش:

(1) Pierre ansart , Idéologies, conflits et pouvoir , Presses universitaires de France, 1977.p.21.
(2) إكرام عدنني: سوسيولوجيا الدين والسياسة عند ماكس فيبر، منتدى المعارف، الطبعة الأولى(بدون تاريخ).
(3) المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، مصر، الطبعة الرابعة، 2004.ص.561.
(4) قاموس المصطلحات: الاثنولوجيا والفلكلور، تاليف، “محمد الجوهري” و “حسن الشامي”، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، 1972.ص.263.
(5) Erving Goffman: La Mise en scène de la vie quotidienne traducteur de française ‘ Alain accardo’ , Le Sens commun1973.p.240.

(6) دراسة ميدانية أجريتها في صيف 2019لانجاز هذا البحث ، بالجماعات التابعة لقبيلة الحياينة وهي كـــالتالية: جماعة مساسة، جماعة اوطابوعبان وأحوازهما.
(7) غلب الحصادين يأتون من جماعة الأحد اولاد ازباير، نظرا للقرب الجغرافي.
(*) ما سأتقدم بشرحه وتحليله هنا هو نتاج البحث الميداني الدقيق الذي أجريته كما سبق وأن أشرت،باستثمار الملاحظة بالمعاينة والشهادات الشفهية لمسنين من القبيلة ولأشخاص من العاىلة عند تطرقي لفعل طقوسي . أو للحصول على مصطلحات قديمة .
(8) سنشير إليه لاحقا وبالتفصيل، وهو حيث تجرى عملية « الدرس « لتكسير سيقان الزرع والفصل الأولي للحب عن التبن.
(9) تحولت اليوم من المصنوعة بالدوم إلى المسوغة من القماش أو الأكياس الخشنة (الخنش).

(10) واقيات مصنوعة يدويا من قطع القصب بشكل يسهل وضع الأصابع فيها وبشكل أيضا لا يعيق حركة الأصابع واليد في الإمساك بكومة الزرع في تناغم انسيابي لها مع حركة المنجل في مناورته لسيقان الزرع وضرب جذوعها بشكل مائل إلى أقصى درجات الأسفل الممكنة والتي لا تتجاوز الشبر الواحد في غالب الأحيان.
(11) رحل يتوافدون على أوطابوعبان خاصة والحياينة عامة(قادمون من تاوريرت) عند اقتراب موسم الحصاد ولا يغادرون المنطقة حتى انتهائه ودخول فصل الشتاء، يتخذ بعضهم من الخيم مسكن له ولأسرته قد تتكون في بعض الأحيان من الأب والأم والأبناء والحفدة، والبعض الآخر يشتغل عند فلاح المنطقة مقابل السكن.
(12) يتطوع مجموعة من الفلاحين بأوطابوعبان (الحياينة) أو اولاد ازباير(التسول)، كمنطقتين قريبتين بالرغم من انتماءاتهم القبلية ، ولهم نفس التقاليد. بشكل تضامني نهاتية كل موسم زراعي لتركيب غلة التبن كما وسبق أن أشرنا وقد تصل إلى أزيد من 15 شخص وقد تستغرق العملية من ساعتين إلى ثلاث ساعات، وهي الطريقة التضامنية الأكثر شيوعا عند المغاربة عامة، لتخفيف عبء المصاريف المادية الكبيرة والجهد المعنوي وتوفير الوقت… .
(*)مؤمنون بلا حدود: تراث الانثروبولوجيا الفرنسية في تقدير الممارسة الفكرية لمارسيل موس,قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية.1 فبراير2016.
(*)مالينوفسكي: أبطال المحيط الهادي الغربي،تحرير مبروك بوطقوقة ، موقع أنتروبوس.12 ماي.
(13) يرجع مفهوم الترميم الثقافي في الأصل إلى استعمال وظّفه كلود ليفيستراوس في كتابه “التفكيرالوحشي”، لفهم وظيفة التكرار وتقطيع الزمن يمكننا العودة إلى:
14.Gilbert (Durand) ,Les structures anthropologiques de l’imaginaire, Ed. Bordas,. 1969. P.418

(15)درس “موس” ظاهرة التبادل في المجتمعات البدائية بما هي ظاهرة اجتماعية كلية مبيّنا إلزاميتها ودوره.
(16) في المؤتمر السابع للجمعية العالمية لعلماء الاجتماع الفرانكفونيين في جامعة نيوشاتل وتحدث عنه في كتابه :
(Jean) Duvignaud, Anomie et mutations, Paris, Ed Anthropos, 1970.p.37.

* طالبة باحثة بسلك الماستر في علم اجتماع -ماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *