وجهة نظر

هل تعيد كورونا المجتمعات لفلسفة الحق والخير والجمال؟

أحدثت مجموعة من الهزات التي تعرض لها العالم، تغيرات عميقة على مستوى بنياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فقبل وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، اتجه العالم نحو تشجيع الإنتاج وتحقيق الأرباح الطائلة، حيث ظهرت شركات عملاقة كجينرال موطورز وشركات صنع السيارات والأدوات الإلكترونية كسامسونغ وإيكسون… الشيء الذي أفرزعالما يعتمد على التقانة، تسود فيه النظرة العلمية للإنسان،على حساب حاجياته الفكرية والروحية والجمالية والقيمية.

هذا التوجه العالمي الجديد، خلق مجموعة من المآسي الاجتماعية، كالبطالة وغياب القيم الاجتماعية الصلبة، التي تهتم بالإنسان وتقوي علاقاته،مما أدى إلى تراجع دورالفلسفة المؤطرة للمجتمع في مختلف جوانبه الجمالية والروحية، لصالح السياسة والعلم والاقتصاد.

والمغرب في ظل هذا السياق العالمي، لم يخرج عن هذا الإطار، حيث بدأت بعض إفرازات العولمة والرأسمالية المتوحشة تظهر على بنياته الاقتصادية والاجتماعية، مما جعلهيتجهنحو توجيه فلسفته التربوية، نحو تأطير وتخريج أطر ومهندسين وتقنيين ومنظرين وخبراء ومخططين ومفكرين يخدمون المرحلة بامتياز.

وبتسليط الضوء على منظومتنا التربوية اليوم وبعلاقتها مع تغول الحضارة والعولمة المتوحشة، فإننا نستنتج أنها تسعى إلى:

  • توجيه التلاميذ والطلاب نحو شعب تخدم احتياجات السوق.
  • الاهتمام بالجوانب التقنية في تدريس مجموعة من المواد العلمية.
  • تعدد الشعب حسب احتياجات السوق، وخلق أخرى تتناسب وجديد السوق العالمية أو المحلية.
  • الاهتمام بالتكوين المهني.
  • التوجه نحو بناء المشاريع الشخصية للتلميذ وتتبعها ومواكبتها، حسب متطلبات السوق.
  • الاتجاه نحو خلق التلميذ المقاول.

إن هذه التوجهات على مستوى فلسفتنا التربوية، قد أنتجت أطرا تقنية محضة تخدم حاجيات السوق بامتياز، حيث رغم توفرها على دبلومات عالية، فإنها تبقى غير قادرة على إنتاج الفكر، ولا على تجاوز بعض الوضعيات الحياتية البسيطة أو التعامل معها: كالجوانب العاطفية والعلائقية، مما يجعلها لا تخرج عن نطاق الأمية الكتابية والقرائية على الأقل.

هذه الوضعية، لا تخرج بطبيعة الحال عن مخرجات المنظومات التربوية في الدول العظمى كأمريكا، وفرنسا وألمانيا، حيث نسبة كبيرة من المتعلمين ممن حصلوا على شواهد ودبلومات عليا، لا يستطيعون توطين دولة من الدول في الخريطة العالمية، ولا تذكر حدث من الأحداث الكبرى التي ميزت العالم.

هذا الوضع، جاء نتيجة حتمية لنظامنا التعليمي الذي سعى في جوانبه الانتقائية، إلى التقليل من أهمية بعض الشعب كالفلسفة والفن في مختلف جوانبه الموسيقية والتشكيلية والأدبية… التي لم تعد صالحة للمجتمع الجديد.

وعودة لموضوع هذه المحطة التي يعرفها العالم، جائحة كورونا، فقد أفرزت بعض المظاهر التي سوف يكون تأثيرها ووقعها كبيرين على مستوى إعادة بناء تشكيل المجتمعات.

فعلى مستوى الاتحادات، فإننا أصبحنا نرى مدى تفككها في ظل الأزمة، وخاصة في أوربا حيث تعاطت كل دولة للجائحة لوحدها دون الاكتراث بمشاكل الدول المجاورة مما أعطى صورة بشعة عن الاتحاد الأوربي، الذي أصبح وهما وادعاء.

أما على مستوى الخلافات بين القوى الاقتصادية العظمى، أمريكا والصين، فإننا نقف اليوم على مستوى التقارب بين القوتين ونبذ خلافاتهما من أجل إنقاذ العالم، مدركين مدى الخطأ الذي ارتكبه الجانبان على مستوى السبق للتسلح والتكنولوجيا وإهمالهما للقضايا الاجتماعية كالتكافل والتضامن والعدالة.

كما نقف على وقوف الشعوب على أهمية الجوانب الروحية في التأسيس للعلاقات الاجتماعية، وعلى مكانة الدول التي اتجهت نحو البحث العلمي، ككوبا التي كرست سياستها نحو بناء الإنسان بدل سعيه نحو التهافت نحو المادة، والتي أنتجت في نهاية المطاف تكوين عدد كبير من الأطباء، ها العالم يشاهدهم يهرعون لإنقاذ ذلك العالم الذي ظل يستعرض سبقه للتكنولوجيا وتملك مفاتيح المعرفة ومشعل التحضر.

كما وقف العالم بأسره مشدوها أمام عجز القوى الكبرى،رغم ثرائها، وإمكانياتها العلمية والتكنولوجية،عن احتواء فيروس، استطاع أن يقلب جميع الموازين والحسابات والمخططات المستقبلية التي كانت تسعى نحو الهيمنة واحتكار السوق.

وتأسيسا على ما سبق، فالعالم بعد أزمة كورونا، سيعرف توجهات أخرى، توجهات تضع في قلب اهتمامها الإنسان وتنمية القيم الاجتماعية، بدل استعراض القوة،مما يجعل المغرب كباقي الدول أمام تحد جديد يتأسس علىمراجعة فلسفته الاجتماعية.

ولعل من أهم ما سيطاله إعادة النظر، مناهجنا التعليمية التي ستوضع على المحك بعد الأزمة، حيث ينتظر منها إعادة النظر في فلسفتها التي يتوقع منها أن تضع في قلب اهتماماتها تعليم وتربية الإنسان في مختلف جوانبه الروحية والمعرفية والبدنية، وإعادة الاعتبار لدور الفلسفة كمؤطر حقيقي للمجتمعات، ودورها في تغييره بهدف تحقيق الحكمة المبنية على كل ما هو أصيل وطبيعي في الإنسان، وتحقيق السعادة والعدالة الاجتماعية بين الجميع، وتحقيق الحق، والخير، والجمال في مجتمع أضحى ضحية فلسفة ديكارتيية ترجح العلم على كفة فلسفة الحكمة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *