وجهة نظر

في مآلات المشهد الدولي بعد كورونا

أرغمت الأرقام المخيفة والخسائر الفادحة التي خلفها ويخلفها وباء فيروس كورونا المستجد كل المتتبعين والمهتمين على إثارة مجموعة من الأسئلة المصيرية المتعلقة بوجود الفرد و مستقبل المجتمعات؛ وفي هذا السياق برزت عدة أطروحات فكرية تستشرف شكل العالم في زمن ما بعد كورونا، وما الذي يمكن أن تؤول إليه منظومة العلاقات الدولية او “النظام العالمي السائد”، وكيف سيتفاعل السياسي(le politique ) مع الانهيارات الاقتصادية التي يشهدها العالم؟ ثم كيف ستكون علاقة الإنسان بالدين والطبيعة والعلم؟ وهل سيعرف العالم عودة إلى الأخلاق والقيم والسعي نحو مجتمع الفضيلة؟، ثم ألا يحتاج العالم إلى مراجعات جذرية تستوجب تطبيبا للمنظومة السياسية والاقتصادية النيوليبرالية التي حولت العالم إلى سوق استهلاكية لا هَمَّ لها سوى استغلال البشر وتحويلهم إلى كائنات استهلاكية؟ ألم يَأْنِ الأوان إلى تصحيح مسار البحث العلمي وتوجيهه إلى تحقيق الأمن الوجودي للبشرية بدل توظيفه في تدمير الانسان والطبيعة؟ باختصار إلى أين يسير العالم في زمن كورونا، وأين سترسو سفينته بعد انقشاع  وزوال هذا الوباء؟

تعددت القراءات للتحولات التي سيعرفها العالم والسيناريوهات المحتملة عن مآلات المشهد الدولي، لكن يجمع كل الخبراء والأكاديميين والباحثين، أن عالم ما بعد كورونا، لن يكون قبله.  بل إن هذا الوباء، سيشكل طفرة في التحولات الجيوستراتيجية التي ستعرفها منظومة العلاقات الدولية، كم سيشكل نقطة تحول في مفهوم الدولة، وطبيعة الاقتصاد وأنماط العيش.

وباستقراء أهم تحليلات هؤلاء الباحثين والدارسين المنحدرين من حقول معرفية مختلفة، يتداخل فيها علم الاجتماع مع علم التاريخ والفلسفة، وعلم الاقتصاد، وعلم السياسة والعلوم الحقة، يمكننا الحديث عن ثلاث خلاصات أساسية، قد تشكل سمات المشهد الدولي  العام بعد كورونا:

الخلاصة الأولى: عودة القيم والأخلاق

ذهب العديد من المفكرين إلى القول بأن عالم ما بعد كورونا، هو عالم ما بعد الحداثة ولن يكون إلا عالم القيم و الأخلاق بامتياز، فقد كشف الوباء حاجة الانسان لأخيه الانسان وعمت مظاهر التضامن ومشاعر الانسانية، والرجوع لدفء الأسرة، وارتفاع منسوب الروحانيات بكل اللغات والديانات، فرأينا في الغرب تكبيرات فوق المآذن، وترانيم في الميادين، وبدى نوع من رشد العقل البشري واهتدائه الفطري، ورجوعه لأصوله، وفي هذا المنحى قال الفيلسوف الفرنسي إدغار موران “ها نحن نجد أنفسنا اليوم، من نيجيريا إلى نيوزيلندا، محاصرين في بيوتنا. و ينبغي أن ندرك أن مصائرنا متشابكة، شئنا أم أبينا. وسيكون هذا هو الوقت المناسب لإحياء مشاعرنا الإنسانية، لأننا إذا لم ننظر إلى البشرية كأسرة واحدة لن نستطيع الضغط على من يحكموننا لكي يتصرفوا بشكل جيد ومتجدد”[1].

وغير بعيد عن هذه الحكمة، كتب الخبير الاقتصادي لدى صندوق النقد الدولي أنطوني أنيت في مجلة التمويل والتنمية التي تصدر عن نفس الصندوق في عدد مارس 2019 مقالا بعنوان “استعادة الجانب الأخلاقي للاقتصاد.. ينبغي للاقتصاد أن يعود لجذوره”، خلص فيه إلى توصية يقول فيها: “وعلينـا أن نسـتعيد الجانب الأخلاقـي للفكر الاقتصادي، وأن نركز عملية صنع السياسات مجددا علـى مفهـوم المصلحـة العامـة، وأن نعـاود تدريس الأخلاقيات كجزء من برامج الاقتصـاد وإدارة الأعمـال، فقـد نشأ علم الاقتصـاد كفـرع جانبـي للفلسـفة الأخلاقيـة، ويجـب أن يعـود إلى جذوره”[2]

إن هذه العودة الأخلاقية للعالم، هي تعبير عن فشل منظومة الأخلاق التي شيدتها فلسفة الحداثة، والتي رسخت الفردانية القاتلة، والأنانيات المستعلية والانغماس البشري في ثقافة الاستهلاك، وبيع وهم  الدهرانية الجديدة، وتغييب سؤال النشأة وغاية الوجود، وثقافة الأخرة على حد تعبير سعيد النورسي رحمه الله.

الخلاصة الثانية: الرهان على الدولة الوطنية والتحذير من عودة التسلط

أبانت أزمة الوباء، على أهمية القطاعات الاجتماعية، وعلى أولوية الاستثمار في الصحة والتعليم والبحث العلمي، فلم تنفع أنماط الانتاج السائدة اليوم، وحجم الاستثمارات في قطاعات أخرى، من مواجهة الكارثة، بل أضحى الطبيب والمستشفى أعز ما يطلب في عقر الدول الغربية التي تبث عجز سياساتها، وبهذا الصدد يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي “إن الأزمة الحالية أثبتت فشل سياسيات السوق والتي فاقمت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، إذ أن ما عرقل جهود مواجهة مثل هكذا وباء بعد كل هذه السنوات من التقدم هو “الطاعون النيوليبرالي”[3].

ولمواجهة الفيروس، تلجأ الدول لاتخاذ تدابير واستثناءات تشريعية وقانونية[4] لتدبير أزمة الوباء، لكن الملاحظ أن النظم المستبدة، تتجه إلى استغلال هذه الحالة لتكريس مزيد من السلطوية[5]، والزحف على مساحات من الحقوق والحريات، من خلال صياغة قوانين وتدابير موغلة في التسلط، توفر غطاء لممارسات منافية للقانون والأخلاق والأعراف،  وفي نظر تشومسكي “فإن الإجراءات الاستثنائية التي تطبقها الحكومات من إغلاق للحدود الداخلية والخارجية، وحظر التجوال في بعضها، واستخدام الجيش في تطبيق إجراءات العزل، قد تتسبب بتدهور الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد في كثير من مناطق العالم”[6].

ومن الأسئلة التي طفت على السطح، في ظل تحليل ومدارسة سياسة الصين في مواجهة الوباء، سؤال: بماذا يواجه الوباء، بدولة مركزية شمولية أم بنموذج ديمقراطي وإذا كان البعض اتجه إلى تمجيد التجربة الصينية، والاشادة بنجاعتها، فإن العديد من المفكرين حذروا من منزلق تجديد السلطوية، ومآلات السلطة بعد هذا الوباء وقد تحدث تشومسكي عن 3سيناريوهات محتملة:

أولا توجه النظم السياسية نحو الاستبداد والديكتاتورية، وقد تتحول فيه الدول إلى أكثر وحشية،
ثانيا: خيار الراديكالية وإعادة سلطة المجتمع، وعودة الانتفاضات والثورات.
ثالثا: خيارات أخرى كالعودة إلى المصطلحات الإنسانية المعنية بالاحتياجات البشرية وعدم تغليب الصوت الاقتصادي لمنفعة النيوليبرالية، التي سيسعدها التضخم الهائل لعنف الدولة الذي بدأت ربما تجلياته تظهر تحت ذريعة التعامل مع أزمة فيروس كورونا، لا سيما إن طالت الأزمة[7].

ولهذا، فإنه ينبغي التنبيه إلى خطورة الانزلاق نحو السلطوية، ولمالاتها الخطيرة ونتائجها الوخيمة على الدولة والمجتمع، ونذكر هنا بموقف الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه بقوله: “لا يوجد نموذج أقوى في مواجهة التحديات والصعوبات والأوبئة من النموذج الديمقراطي محيلا على قولة فيلسوف العدالة الهندي أمارتا سين الذي أكد أن الديمقراطية كانت دائما الطريق الأمثل لمواجهة المجاعات”[8] .

الخلاصة الثالثة:  فشل الرأسمالية وولادة نظام دولي جديد

من المؤكد أن النظام الدولي ومنظومة العلاقات الدولية، ستعرف تغيرات جيواستراتيجية[9] مهمة، فالنظام الدولي الأحادي القطبية، الذي برز عشية انهيار الاتحاد السوفياتي، بزعامة منفردة للولايات المتحدة الأميركية، دخل مرحلة التحول الفعلي مع بروز الصين وروسيا كقوى عالمية لا يمكن احتواؤها أو كسرها، في ظل التفاهم الكبير بين هذين البلدين في مواجهتهما ورفضهما الهيمنة الأميركية على العالم، لكن أزمة كورونا وما تفرزه من مؤشرات خطيرة، تبرهن على هشاشة النظام الدولي الراهن، وعدم قدرته على حفظ الأمن للبشرية اجتماعياً واقتصادياً، وأيضاً سياسياً، فالتراجع الكبير والسريع في قدرة الولايات المتحدة وإمكانياتها لقيادة العالم أصبح واضحاً.[10]

لقد تعددت التحليلات والقراءات للمشهد، وتنوعت سيناريوهات مآلات النظام الدولي المنتظر، بين من يعتبر أن الأزمة وما ستحدثه من تحولات لن تؤثر كثيرا على ملامح النظام الدولي، وبين من يعتبر التحولات الجارية اليوم، تتجه نحو بناء نظام دولي جديد ليس فيه زعامة أحادية، بل مقتسمة من طرف القوى الكبرى، وكلها سيناريوهات تمتح من نفس المرجعية الاستكبارية الاستعمارية، من خلال دراسات وأبحاث مراكزها العلمية، وأقلامها الغير البريئة، التي لطالما احتكرت التحليل والتأويل والتنزيل.

لكن هناك من تساءل خارج هذه الأنساق والشروط الفكرية التي تفرضها النظم السائدة، حيث يقول الأستاذ عبد الواحد متوكل رئيس الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان:” … سيناريو آخر، احتمال أن يكون للشعوب الإسلامية بروز يبوئها مكانةً محترمةً بين الأمم. ويقتضي هذا انهيار الأنظمة الاستبدادية، وانبعاث أنظمة حكم جديدة أساسها رضى الشعب واختيارهم الحر، ومشروعها القيام بالقسط، وتوزيع الثروة بالعدل وتصفية تركة الاستعمار والتخلف اللعينة، وتجاوز الانقسامات الموروثة، ودعم السلم والسلام في العالم، وبناء نموذجٍ يدلّ بمثاله على عظمة  الإسلام وما يكتنزه للبشرية من رحمة وتآخ وتضامن وتعاون على ما يفيد الإنسان المعذّب بنسيانه الله والدار الآخرة”[11].

وصفوة القول، ننقل من كتاب العدل للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، تحت عنوان “عالم في مخاض” ما يلي: “القراءة المفتوحةُ البصيرةُ لمخاض العالم، وتحولاته العجيبة وتقدمه العلمي الصناعي المذهل، وإغداق القدرة الإلهية على أبناء الدنيا من كل شيء نجدها في قوله عز وجل لنبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

لا يفُتُّ في عضد المجاهد الماضي لموعود الله ورسوله هذا الفرْقُ الهائل بيننا وبين الناس. إنها سنته سبحانه في الأمم. نَسُوا ما ذُكِّروا به، ففتح الله عليهم أبواب كل شيء ابتلاءً بين يدي ما هو به عليمٌ من أخذٍ أو إمهال أو هداية يستعملنا فيها إن شاء. بيده الخيْر، وإليه المصير، وهو على كل شيء قدير[12].

 

[1]  موقع لكم: إدغار موران: أتوقع أحداثا كارثية ويجب أن نتعلم العيش في حالة من عدم اليقين، حوار مع إدغار موران ترجمة أحمد ابن الصديق، السبت 11أبريل 2020 .  https://lakome2.com/interview/173046

[2]    الجزيرة نت: أزمة كورونا.. هل يتحول العالم لاعتماد نظام اقتصادي أخلاقي؟، 27 مارس 2020

https://www.aljazeera.net/news/ebusiness/2020/3/26/%D9%

[3]  الحرة:  نعوم تشومسكي: كيف سيغير كورونا العالم؟02،  أبريل 2020

https://www.alhurra.com/arabic-and-international/2020/04/02/%D9

[4] تقول فيونوالا ني أولين “Fionnuala Ni Aolain“، مقررة الأمم المتحدة المعنية بمكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان، إنه: “يمكن أن يكون لدينا وباء موازٍ من التدابير الاستبدادية والقمعية في أعقاب الوباء إن لم يكن أثناءه!“، مضيفةً أن “بعض الحكومات ترغب في امتلاك مجموعة من السلطات في حالة الطوارئ أو الأزمات”. وقالت إنهم “يصوغون القوانين مقدماً وينتظرون “فرصة الأزمة من أجل عرضها“.

[5] تقول المقررة الأممية  سيلام غيبريكيدان “Selam Gebrekidan”  إ”نه تحت المطالبات الواسعة باتخاذ إجراءات عاجلة من طرف المواطنين القلقين من انتشار الوباء، سيطر الحكام على سلطات تنفيذية واسعة بل وسيطروا على سلطة ديكتاتورية وذلك بمقاومة ضئيل”.

[6]  سامية عيسي:: نعوم تشومسكي :ما بعد كورونا أخطر من الوضع الراهن، الاندبنندنت، الاثنين 13 أبريل 2020، https://www.independentarabia.com/node/111151/%D8%AB

[7]  نفس المرجع

[8]  بلال التليدي: ” تداعيات كورونا في مرآة المفكرين وفلاسفة السياسة والمستقبليات”، السبت 4 أبريل 2020، https://arabi21.com/story/1258505

[9]  كيسنجر يحذر من تغيير جذري في النظام الدول، تمت مشاهدته بتاريخ 13 أبريل 2020 على الرابط https://www.youtube.com/watch?v=btzCSyxEKeU

[10]  محمد يوسف الحافي: “كورونا وملامح النظام الدولي الجديد”، 6أبريل2020، http://www.almayadeen.net/articles/blog/1390388/%D9%

[11]  عبد الواحد متوكل: ” لعالم بعد كورونا والسيناريو المغيّب”، 13 أبريل 2020، https://www.alaraby.co.uk/opinion/2020/4/12/%D8%A7%D9

[12]  عبد السلام ياسين: “العدل الاسلاميون والحكم”، ص: 334-337

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *