وجهة نظر

الفن والوباء.. أملا يلوح في الأفق

الفن هو الكذب من أجل الوصول إلى ذروة الحقيقة.. من فيلم vendetta للمخرج James Mcteigue

إن من أبرز المشاهد التي لازالت وستزال تحفظها الذاكرة السينمائية، هو ذلك المشهد الأخير من فيلم الشهيرTitanic للمخرج James Camero، حيث تتربع فرقة موسيقية فوق السفينة المنكوبة وهي تغطس بشكل تدريجي في عمق ظلام فسيح، وسط ضجة الناس والقلق والهلع البادي على وجوههم وهم يلقون مصائرهم الأخيرة المحتومة في مواجهة الحتمية البيولوجية، تلك الحتمية التي نعترف بها ونخاف تحديها، لكن ليس هذا ما أثار انتباهي وإنما ما زادني دهشة هو ذلك الخشوع الصامت الهادئ الذي كان يطبع مخيلة العازفون وهو يعزفون بإتقان وبهدوء تام وسط الضجيج الذي يسود المكان.

إن هذا المشهد جعلني مشدوها، وقد بدا لي من خلال التمعن بدقة والتأمل كأنه واقعة سريالية، مما جعلني أومن وبشراسة أنه رغم الدور الذي يلعبه الفن في حياتنا، إلا أنه يزداد حدة وبريقا على وجه الخصوص أثناء المصائب والكوارث الإنسانية، تلك الأيام العصبية التي تحمل في داخلها مشاعر مختلطة وأحاسيس متناقضة تجعلون مبدعين، حيث تتدفق تلكم الأغاني الإلهية الموجودة في ماهيتنا والتي نبحر في سبر أغوارها عن طريق الخيال، ذلك الخيال الذي يتعالى مع الفن على الواقع المعاش بانغماسه في الذات، وفي ممارسة شيئا من التداوي والتشافي الذاتي، فباختصار حينما تشتد الأزمات ينتعش المتخيل.

وبالعودة إلى الظروف التي نشهدها في المرحلة الراهنة من الانتشار السريع لفيروس covid 19 عبر كل بقاع العالم، الأمر الذي جعلت مصير الإنسانية مشترك فسارعنا باستباقية التدابير الاحترازية للسيطرة عليه، وذلك بإغلاق مدننا وأبواب بيوتنا، وانعزلنا عن بعضنا البعض، ودخلت الشوارع في صمت مطبق رهيب، وأصبح شبح الوحدة ضيفا ثقيل الظل، لكن هل الوحدة هي الحتمية الوحيدة للعزلة التي فرضت علينا؟، هذه العزلة الذي بحث عنها نيتشه في أعالي الجبال، وهو يردد، “أنا قادم إليك أيتها العزلة، أنا قادم إليك وعيناي تذرفان الدموع، أنا قادم إليك من بلاد المتوحشين”، وانغمس فيها الشعراء والكتاب داخل بيوتهم المظلمة يداوون وحدتهم بالمداد والورق بعيدا عن السواد الذي يعتري العالم، موثقين اللحظة التي يعشيونها بأدق التفاصيل وبأسئلة وجودية محضة، من خلال كتابات وإبداعات من شتى المشارب تتطرق للأحداث عن طريق شخصيات قادها خيال المبدعين إلى لحظة الحدث ليرون ما رآه الكاتب عن طريق الخيال الإبداعي.

ولعل رواية الطاعون للعملاق ” ألبير كامو ” التي وصفت لنا الوقائع السوداوية والنكسة الوبائية التي أصابت البشرية بوباء فتاك يظهر فجأة، يجثم قليلا ثم ينسحب دون إنذار أو نذير نحو مخبئه المبهم، تاركا الجميع في حيرة ودهشة، يضربون كفا بكف متسائلين كيف برز؟ وأين اختفى؟ ومتى يضرب من جديد؟ مقربا مجهر خياله الإبداعي في بلدة وهران الجزائرية، حيث بحث في شوارعها عن معنى الوجود والحد الفاصل بين الحياة والموت في تلك الأيام من شهر أبريل من أربعينات القرن الماضي، محاولا الإجابة عن سؤال مركزي وحيد “كيف نحيا، كيف نعيش والموت على الأبواب”.

في هذه الرواية التي منحنا كامو وصفا دقيقا رائعا جليا للحظات مواجهة الإنسان لقدره المشؤوم وتعايشه مع الموت المتشكل على نطاق ملحمي في صورة مرض الطاعون، حيث حارب الناس شعورهم بالعزلة بالتجول بلا غاية على طول شوارع وهران، واشتعلت الرغبة المحمومة والعنفوان الغريزي للحياة التي تزدهر وتتفتح في كل محنة تصفح الإنسان وتزعزع جوهر كينونته، لكن رغم ذلك استمرت الحياة بانتزاع جزء من وتيرتها اليومية، من منبع المأساة والمعاناة، لتؤمن بالأمل المترصع كنجمة مضيئة في سماء شاسعة، حيث ستجد الناس رغم المصائب زراعة وتجارة ومأكل ومشرب من قلب هذا الهلع.

ربما هذا المنتوج الإبداعي المتميز لكامو، كان لابد أن نستحضره في هذه الفترة العصبية التي نعايشها ونتعايش معها، هذه اللحظة التاريخية التي سجلت في عمق أعماق العقل التاريخي بكل العواطف المرتبكة نتيجة الآثار التي يتركها فيروس كورونا على قلوب العامة.

وبغض النظر عن الأخبار المأسوية والمشوبة بالسواد التي نراقبها عن بعد من انتشار الوباء بوتيرة سريعة وازدياد عدد المصابين، فإن فضاء التواصل الاجتماعي، الذي يعد الفايسبوك على قمة هرمه، أصبح أرضا خصبة للعديد من الكتابات الإبداعية والأغاني الفنية التي تعبر عن الشعور ذات العلاقة بفيروس كورونا بشكل ما.

كما هو الحال للكاتبة المغربية فاطمة الزهراء الرغيوي المقيمة بفرنسا التي واصلت إبداعها بالرغم من إجبارية الساعة، وذلك من خلال الاحتكام إلى تجربتها الخاصة وما يعتريها من عوالم نفسية وعلاقاتها بالناس والأشياء والقراء والأحداث التي تجوب العالم، ووصف أجواء الحجر الصحي، حيث جاء في إحدى تدويناتها من سلسلة يوميات الحجر الصحي ” سيكون من المخجل أن نذكر أننا نجونا من هذا الوباء للأجيال القادمة، ماذا سنخبرهم؟ أننا نجونا لأننا اختبأنا مثل نمل نهرب من شتاء قارس، دخلنا سباتا لمدة شهرين تقل أو تزيد… هذا الحجر السبات، لا يتيح لنا فرصة لندعي البطولة ، في الحقيقة هناك بطلات وأبطال لهذه المرحلة، لكنهم أبطال من طينة أخرى، أبطال التفاصيل الملتصقة بالبقاء على قيد الحياة الصحة .. وضمان النظام العام، وهو أبطال مهملون وهامشيون في الأوقات العادية”.

إن الفن والحب لغتان يمكن التواصل بهما مع من لا لغة له، وهما بهذا المعنى يفهمان بدون أي لغة، فهما أكثر الميكانزمات التي توحد الإنسان وتجعله داخل قالب مشترك.

ولما كان الفن هو الوسيلة الوحيدة التي تعكس مدى تشبثنا بالحياة ومظاهرها، والآلية التي من خلالها يمكن التواصل بها مع الجميع لأنها تخاطب الوجدان والروح، أصبحت الآن في ظل هذه الظرفية الاستثنائية أداة لمقاومة الخوف الذي أصبح معمم لحال كل شعوب العالم بسبب وباء يطارد الأرواح وينشر الرعب، الأمر الذي جعل الأغلبية يصيحون من داخل نوافذهم المطلة على الشوارع الميتة “نحن لن نموت، نحن مازلنا هنا، وكل مر سيمر، والقادم أجمل، ولتستمر الحياة”، وذلك عن طريق العزف على الأوتار أو بريشة الألوان.

فإيطاليا التي أنهكها الوباء وأنخرها عظامها، ومزق اقتصادها، وفتك بها فتكا فدخلت المرحلة الأخيرة في رحلة هذا الفيروس حيث زحف في كامل البلد، وأصبح الموت الأسود يحوم ويتلذذ، وخرج رئيسها يخطب بأسى وأسف وهو يردد “إيطاليا استسلمت، إيطاليا تنازلت الأمر موكول إلى السماء”، خرجت إيطاليا بكاملها مطلة على النوافذ تصيح بقوة وبتآزر وتضامن ورغبة ملحة في الحياة “صباح الخير يا إيطاليا، صباح الخير يا بلد المقاومة والنضال، إيطاليا لن تموت، دعوني أغني وجيتارتي في يدي، إني إيطالي، صباح الخير يا مريم العذراء بعيون مليئة بالحزن، صباح الخير أيها الرب، إننا لن نموت، إننا نقاوم، دعوني أغني، أغنية هادئة”، وذلك عن طريق العزف والإبداع وترديد أغنية BELLA CAIO في جميع الشرفات، أغنية المقاومة والثورة التي تعبر عن تاريخ إيطاليا الحافل بالنضال والصمود، لتتحول المخاوف والارتباكات والهلع إلى أمل ناصع يلوح في الأعالي، ويرسم عبارات شعرية “كل شيء سيمر بخير”، التي أصبحت شعار الحجر الصحي.

ففي فرنسا التي تضاعف فيها عدد المصابين، خرجت تعزف على الآلات الموسيقية بصورة مشتركة على السطوح والشرفات المطلة على الفضاء الشاسع المطلق، معبرة على أحاسيسها النابعة من عمق أعماقها، فرددت الفنانة الفرنسية الشهيرة Lara fabain “إني أسمع الغناء من النوافذ…. إلى العالم المتضرر نقدم هذه الهدية، إذا كان الوقت لا يزال قائما في الشوارع، أصواتنا المتشابكة تحمل الأمل عالية، إلى الغناء بلا نهاية”، من خلال مولودها الفني nos cœurs a La fenetre.

أما في المغرب التي وصلها الفيروس الذي لا يعرف الحدود، فدخلت في ارتباك من خلال تزايد اليومي لعدد المصابين، هذا البلد المتعدد الثقافات الذي مر كسائر المجتمعات بفترات عصيبة، وخرج منها بسلام، ربما هذا التعدد الذي يحمل في طياته تاريخ حافل بالتعاون والتسامح، تراخت آثاره من جديد وتجددت القيم وتصلبت الأيدي لمواجهة هذه الأوقات المحرجة، والذي عبر عنها الفنان المغربي “نعمان لحلو” “فينا الخير الله كبير، خلق الرحمة فطبيع الإنسان، واليوم إذا المحنة كبرات، والخوف سكن فينا طوفان، وقت الشدة فينا طيبة، فينا معدن لازم يبان…. “، من خلال أغنيته “كان يا ما كان كورنا صبحت عنوان” فكان لزوما المكوث في البيت وحبس أجسادنا، لكن رغم ذلك تحررت هذه الأجساد عن طريق رفع تحدي التفاؤل وإبداء الشعور بالأمل وانهزام الدمار الذي يسكننا، عن طريق تداول الصور المبهجة في منصة “الفايسبوك”، والتي تدل على الأمل الشامخ كنخلة خضراء داخل واحة الحياة.

إن هذه الشذرات أو الصور الفنية المتدفقة بنمط فوضوي حزين، ومعبر، يوضح لنا أن الإنسان خلال هذه الفترة تنازل عن أنانيته، والفردانية التي كان يتسم بها في المحطات العادية، وانغمس فيما يمكن أن نسميه “فرض المشترك” مع الجماعة ليتقاسم نفس المصير، هذه الجماعة الحميمية التي كانت ترخي ضلالها في المجتمعات البدائية، عندما كان يواجه الإنسان البدائي عاصفة الكوارث الطبيعية ويلتحم مع الجماعة ليشكلوا قوة ويحاربوا من أجل البقاء.

فالمرحلة التي نشهدها هي من أبرز المراحل التي شهدها التاريخ البشري، والتي عبرت عن مشاعر وعواطف مختلطة، وعن كيانات مهتزة، تم تجسيدها من خلال الفن وتجلياته، كما أعطت لنا فرصة للعودة إلى الذات، إلى جوهرها، لإخراج ذلك اللاوعي ليشق الوعي عن طريق التعبير بطرق إبداعية في لحظة موجعة وثقت بكل تناقضاتها عن طريق الإبداع، لأنه من رحم المعاناة يولد الإبداع، يولد الأمل ويتمخض، ويشتعل كشمعة مضيئة وهاجة داخل دهليز مظلم، موحش، وكأنها تؤكد على أنه رغم الرعب الجاثم، هناك أمل يكسر الجسور ليلوح في الأعالي…. في اللانهاية.

* طالب باحث في سلك الماستر ومحامي متمرن بهيئة المحامين بتطوان 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *