وجهة نظر

ملف شامل ومحكم عن التعليم عن بعد

مقدمة

التعليم عن بعد هو نمط غير جديد على الساحة التربوية والتعليمية, في البداية ظهر بشكل غير رسمي في جميع الحضارات ومنها الحضارة الإسلامية, فلقد كان العلماء وتلامذتهم يتبادلون المراسلات العلمية والأدبية فيما بينهم ولقد ساهمت هذه المراسلات في تطوير مجموعة من العلوم الحقة في مختلف الميادين لكن ظهوره كتعليم رسمي لم يكن إلا في أواخر القرن التاسع عشر بحيث كان عبر المراسلة الورقية وقد جاء لعدة إكراهات: منها البعد عن المؤسسات التعليمية أو إكراهات بدنية وجسمانية, ونجد العديد من الجامعات التي اعتمدت هذا النمط من التعليم ومنها جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية وعدة جامعات في البلدان الأوروبية.

ومن بين الطرق المعتمدة آنذاك في تدريس اللغات نجد الطريقة المباشرة la méthode directe , ونظرا للتطور الحاصل في بداية القرن العشرين وظهور المذياع فلقد تم اعتماد هذا الاختراع الجديد في تدريس اللغات مما تحتم على المربين والأساتذة تغيير في طريقتهم لتدريس اللغات وذلك بالانتقال إلى الطريقة النشيطة أو الشفوية la méthode Active ou oral واتسمت هذه المرحلة باعتماد البرامج التعليمية الإذاعية عبر الراديو لمجموعة من الجامعات والمعاهد.

وبعد الحرب العالمية الثانية وخصوصا من بداية 1950م تم اعتماد طريقة جديدة في تدريس اللغات وهي الطريقة الصوتية الشفوية audio-orale وذلك ناتج لظهور وانتشار المسجلات الصوتية والتلفاز, فتم اعتماد البرامج التعليمية التلفزية.

تلتها أيضا اعتماد الطريقة البنيوية الكلية الصوتية المرئية Structuro-globale audio-visuelle (SGAV) إلى حدود عام 1970م , حيث عرف العالم انتشار الهاتف بكثرة وبعض وسائل الاتصال الحديثة كالحاسوب في نسخه الأولى, لكي يعلن هذا التطور عن ضرورة التغيير في طرق تدريس اللغات, بحيث تم اعتماد الطريقة التواصلية L’approche communicative ومنذ بداية التسعينات إلى حدود اليوم تم التغيير في مجموعة من الطرق وظهور طرق تعليمية جديدة تتناسب مع التطور التكنولوجي والتطور الرقمي وخصوصا تطور المقاولات بحيث أصبحت تطالب أكثر بكفايات ومهارات وقدرات جديدة وبهذا ظهرت المقاربة العملياتية L’approche actionnelle, لكن وبالرغم من هذا التقدم إلا أن الاعتماد على المراسلات الورقية لازال حاضرا مع اعتماد الوسائط الرقمية الجديدة, وكمثال لذلك نجد مركز التعليم عن بعد في فرنسا CNED لايزال يعتمد على المراسلات مع استعمال الوسائط الرقمية الجديدة.

ومع ظهور الجائحة الحالية التي تسبب فيها فيروس كورونا المتجدد أو الفيروس التاجي COVID19 وانتشاره في أغلب أرجاء المعمور, فإن مجموعة من الدول والحكومات لم تجد خيارا عن التعليم عن بعد وأيضا عن العمل عن بعد, فمنها من توفقت لذلك نظرا لاعتمادها قبل حقبة على الوسائل الرقمية وإدماجها في التعليم, ومنها دول أخرى وقفت مكتوفة الأيدي لا يمكن لها أن تؤثر إيجابيا في ذلك, وأيضا دول أخرى اعتمدت على وسائل وتقنيات كانت تُعتمد في الطرق السابقة منذ بداية السبعينات من القرن العشرين كالتلفزة المدرسية, ولمقاربة موضوع التعليم عن بعد بصفة شمولية كان من اللازم وضع أسئلة محورية: فما هو هذا التعليم عن وبعد وما هي مؤسساته؟ وما هي محدداته الفلسفية والبيداغوجية والديداكتيكية؟ وما هي آثاره النفسية؟ وكيف يمكن تقويمه وتقييمه؟ وما هي الشروط اللازمة لإنجاحه؟ وفي أي حدود يمكن أن يعوض عن التعليم الحضوري في الأقسام والفصول الدراسية؟

في البداية سنحاول مقاربة تعريفية للتعليم عن بعد:

لقد عرفه هولمبرغ Holmberge في عام 1970: على أنه ذلك النمط من التعليم الذي يشمل مختلف المكونات الدراسية لكافة المستويات التعليمية والتي لا تخضع فيها العملية التعليمية لإشراف مباشر ومستمر من الأساتذة في القاعات الدراسية, ولكن يحدد مكانه الوسائل التقنية من مواد مطبوعة ووسائل مكانيكية وإلكترونية, بحيث تحقق الاتصال بين الأستاذ والمتعلمين دون الاتصال وجها لوجه.1

ويعرفه نيجل Neegil بأنه التعلم الذي يسمح للمتعلم باختيار متى يتعلم وكيف يتعلم وأين يتعلم وماذا يتعلم ضمن الحدود المتاحة.2

وتعرفه اليونسكو بأنه “عملية تربوية يتم فيها كل أو أغلب التدريس من شخص بعيد في المكان و الزمان عن المتعلم، مع التأكيد على أن اغلب الاتصالات بين المعلمين والمتعلمين تتم من خلال وسيط معين سواء كان إلكترونياً أو مطبوعاً”

وقد خلاصة القول هو اجتماع جميع التعاريف على أن التعليم عن بعد محدد في المكان والزمان ومحدد عبر الوسائط والوسائل اللازمة للتعليم.

فيحددها بعدين:

1- وسائل الاتصال المتعددة.
2- الحدود المكانية.

ونلمس من جميع التعاريف أن التعليم عن بعد هو تعليم يتم اعتماده لتسهيل الدراسة وتوفير فرص متنوعة للتعلم مع تذليل العقبات التي تعترض المتعلمين والمتعلمات, وقد تتعدد حسب الأفراد وحسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية وأيضا السياسية كالحروب والصراعات بين الدول, مع اعتماد مرونة كافية وملائمة لتنمية المعارف والمهارات والكفايات, وهو نمط غير مقتصر لفئة عمرية عن أخرى.

ثانيا المحددات الفلسفية للتعليم عن بعد:

كما هو معلوم فإن أي نظام تربوي له محددات ومؤسسات فلسفية ناظمة له وبالتالي تؤثر في جميع عناصره تاثرا تفاعليا بحيث تحدد النسق الفلسفي للنظام التربوي,

وفلسفة التعليم عن بعد تنطلق في جوهرها من الحق في التعليم والتعلم وفق المبادئ المؤسسة للمجتمع وقيمه الناظمة له, ووفق هويته الحضارية والإنسانية, ومن هذه المنطلقات فبالضرورة مراعات الفروقات الفردية بين الأفراد من أجل توفير الوسائل التعليمية لكل مكون تعليمي ولكل احتياج خاص للفرد, ومن ناحية أخرى في التعليم عن بعد نجد ضرورة اشتغال الأفراد راشدين أو أطفال متعلمين باستقلالية, إلا أن هاته الاستقلالية لن تتأتى إلا بالتمرن والتدريب عليها وهي نابعة من فلسفة براغماتية نفعية بحيث من مؤسساتها: أن الانسان هو الذي يصنع نفسه بنفسه ويبني الحقيقة بنفسه.

وعلى ضوء ما ذكرناه فإن التعليم عن بعد يتمأسس على مبدأ فردنة التعليم وفق احتياجاته المتعددة وعلى النفعية والوصول إلى الغاية وذلك بالاعتماد على الاستقلالية في العمل مع استخدام واستثمار مختلف الذكاءات المتعددة التي وهبه الله, والتي لديه.

وخلاصة القول أن فلسفة التعليم عن بعد تنطلق من:

1- حق الفرد في التعلم والوصول إلى المعرفة والمعلومة حتى ولو كان بعيدا عن مؤسسته التعليمية.
2- حق الفرد في إعطائه الفرصة للتعلم حتى وإن تجاوزها الزمن.
3- التوصل بالمعلومات والمعارف عن بعد سواء بالمشاهدة أو بالتفاعل عبر التطبيقات المتعددة.
4- الانتقال من التعليم إلى التعلم الذاتي والمستمر.

ثالثا الاتجهات التربوية والبيداغوجية:

يقوم التعليم عن بعد على مبادئ واتجاهات تربوية متعددة ومتنوعة, فهو بالأساس تعليم مفردن يتمأسس على احتياجات الفرد وليس جماعي وفق زمرة الفصل او الجماعة, وهو تعليم ديموقراطي بحيث من متطلباته إشراك جميع أفراد المجتمع دون أي تمييز بين العرق واللون والنوع والديانة, وتعليم نشط يهتم بتطوير الكفايات اللازمة للاندماج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

فالاتجاه الإنساني وعلى رأسهم روجرز, يرى ضرورة وضع المتعلم في مركز العملية التعليمية التعلمية بحيث هو الذي يؤثر في جميع العناصر وفي المتغيرات التربوية وتنطلق من مجموعة من المؤسسات ومن مجموعة من المبادئ الناظمة وهي:

1- الحرية للمتعلم طفلا أو راشدا في تقرير ما سيتعلمه.
2- الرغبة في التعلم فلا يمكن للفرد أن يتعلم بدون رغبة في ذلك.
3- الفرد المتعلم هو الذي يتعلم كيف يتعلم.
4- نبذ الحفظ والاستظهار والاعتماد على اكتشاف الفرد لقدراته وذكاءاته التي تميزه والتي تساعده على تحقيق ذاته.

أما الإتجاه المعرفي: ومن رواده جان بياجي فإنه يرى ضرورة ترك الفرصة للمتعلم لكي يتعلم بمفرده, وأن يختار موضوعات تعلمه من بين البدائل المتاحة له وفق وتيرته وسرعة تعلمه وأن يكون المتعلم هو المنظم لخطواته.

فالبناء المعرفي عند بياجي هو بناء يتحدد من الانتقال من وضعية لا توازن على وضعية توازن من خلال عملية الاستيعاب لوضعية المشكلة ومن خلال عملية التكيف باعتماد المتعلم على خبراته ومكتسباته السابقة من أجل الوصول لحل يرضيه أولا, وهذه العملية مستمرة في البناء المعرفي للمتعلم.

فالتعليم عن بعد يحقق ما طرحه جان بياجي في عملية البناء المعرفي, فالتكنولوجيا والوسائط تنقل وتساعد على نقل المعرفة, لكن الفرد هو الذي يتعلم من خلال البحث والدراسة والانتقال بين المراحل التي حددها جان بياجي.

أما الاتجاه السوسيوبنائي فهو حاضر بقوة في التعليم عن بعد وذلك من خلال استعمال مختلف مواقع التواصل الاجتماعيى بغض النظر عن المنصات التعليمية الإلكترونية الرسمية, فالمتعلم دائم التواصل مع اقرانه إلا أن هذا التواصل قد يغدو غير منحصر في المكان بل يتعداه إلى ماهو جهوي وما هو دولي, وله أيضا من الإيجابيات والسلبيات, لذا على الفرد في هذا القرن الحالي أن يتعلم كيف يتعلم وكيف يحلل كل الخطابات سواء كانت سياسية أو اجتماعية وأن يحدد منها ما يصلح له وما يبني به قيمه ومبادئه وما يتوافق مع قيمه الدينية وقيمية الوطنية وقيمه الإنسانية, فالمتعلم في هذه الحالة هو متعلم يحب أن يكون متقذ الذكاء يعرف تأويل الخطاب حسب توجهات المُخاطِب وأصله, وأن يكون نشيطا في البحث والتحقق من المعلومات الواردة عليه, وأن لا يكون ساذجا يتقبل ويقبل أي رأي كيفما كان.

وتدخل عدة مقاربات تربوية في التعليم عن بعد ونحدد أبرزها:

المقاربة العملياتية: Approche actionnelle وهي مقاربة تتمأسس على أن الفرد هو منتج تعلماته وذلك بالاعتماد على نفسه في الدراسة والتعلم, وذلك وفق اختيار مشاريعه التي تحقق ذاته وتحقق انتماءه الاجتماعي والديني, فالمتعلم في المقاربة العملياتية هو متعلم نشط, دائم البحث عن الجديد ودائم التوثيق, وهذا ما تتيحه الوسائل التكنولوجية الحديثة, فالمعلومة في متناول الجميع, لكن على الفرد أن يتعلم كيف يبحث عنها وكيف يصنف ما يحتاجه وكيف يحللها, وكيف يعيد صياغة الأفكار والمعلومات المتضمنة لها وكيف يعيد تنظيمها وتركيبها وفق ما هو مطلوب منه.

والمقاربة العملياتية هي مقاربة تنمي لدى الفرد كفايات اندماجه في المجتمع وكفايات الاعتماد على نفسه واستغلالها لتطوير بلاده من خلال اندماجه أيضا في المشاريع الاقتصادية للبلاد.

والمقاربة العملياتية تتناغم وتنسجم مع أبحاث علماء الأعصاب الذين خلصوا أن المتعلم والمتعلمة يتعلم انطلاقا من تفاعله مع مكونات التعلم, وانطلاقا من توظيف كفاياته المتعددة وخلق روابط ذات معنى ودلالة لديه, فتعلم اللغة لا يتاتى إلا بمعرفة الرموز اللغوية وربطها مع الأصوات ومع المعنى لاحقا, لكن معرفة القراءة بطلاقة لن يصل إليها المتعلم إلا بتوظيف ما تعلمه كتابة وتعبيرا وضمن وضعيات نشيطة ومتعددة, بحيث تصبح علاقة ربط الكلمات بالمعنى أتوماتيكية لديه دون المرور لفك الرموز والتي استدمجها منذ بداية تعلمه, فيكون الانتقال من الكلمات والجمل إلى معنى تلك الكلمات والجمل, فلو أعطينا لقارئ متمكن نصا مكتوبا وفي كلماته بعض الأخطاء, فإنه سيفهم معنى النص لأنه استدمج معاني تلك الكلمات فيصبح الانتقال من الكلمة إلى المعنى لا إراديا .

رابعا: الآثار النفسية للتعليم عن بعد:

لا يخفى على أحد أن الانسان اجتماعي بطبعه, فهو ميال للتواصل مع أفراد مجتمعه, فهو دائم الحركة ودائم الاندماج في هموم ومشاغل مجتمعه وفي هموم الإنسانية جمعاء, لذا من سيئات الإفراط في التعليم عن بعد المفردن هو تكريس الوحدانية لديه والانغلاق على نفسه وقد تصبح الأمور أخطر من ذلك, كأن يصل بالفرد إلى الاكتئاب المرضي وقد يصل في بعض الأحيان إلى الانتحار.

وفي ظل هذه الآثار النفسية فإن المتعلم لا يمكن له ان يتعلم وأن يبحث, فقد يغدو الأمر أخطر, ويمكن أن يصل إلى جنوح عن المبتغى التعليمي التعلمي وبالتالي إلى هدر مدرسي لا يمكن علاجه إلا عن طريق أطباء نفسيين متخصصين وعن طريق جلسات متعددة.

فحسب سيث كودان Seth Godin فإن أي عملية وتجربة تعلم جديدة تمر بعدة مراحل: ففي البداية تكون مشوقة وممتعة ويشعر المتعلم خلالها بالحماسة والتحفيز والدافعية, لكن سرعان ما تنقلب هذه المشاعر إلى إحباط وهو ناتج على عدم قدرة المتعلم من تحقيق مبتغاه ومن تحقيق الأهداف المرجوة وهذا الشعور بالإحباط او ما يسمى بحاجز نفسي للتعلم, هو الذي يؤدي إلى انسحاب الشخص من التعلم عن بعد قبل إتمامه.
وما قاله سيث كودان واكبته شخصيا عن تجربة التعليم عن بعد من خلال إشرافي على المنطقة التربوية للتفتيش, فلقد أبدى المتعلمون نشاطا مهما في البداية لكن بعد مرور ثلاثة أسابيع, أصبح المتعلمون يشعرون بالإحباط ويطالبون وزارة التربية الوطنية بعطلة فصلية من أجل الاستراحة, كما أن عدد المسجلين في المجموعات سواء في المنصات الرسمية أوعبر مواقع التواصل الاجتماعي بدأ في التناقص وإبداء عدم الاهتمام.

ومن أجل تجاوز هذه العوائق النفسية للمتعلم فإننا نقترح مجموعة من الإجراءات:
1- تحديد الأهداف من الأنشطة للمتعلمين والمتعلمات, مع تحديد سقف التوقعات, وإعطاء الوقت الكافي للمتعلم لضبط تعلماته ولإنجاز أنشطته.
2- تحديد مكان خاص للتعلم داخل المنزل مع إبقاء مصادر الإلهاء بعيدا عن المتعلمين والمتعلمات.
3- اعتماد نقل ديداكتيكي يعتمد على بيداغوجيا اللعب, مع تحويل الوضعيات إلى لعب تفاعلية أو إلى أنشطة تفاعلية, تنقل المتعلم من رتابة التعلم التقليدي إلى تعلم يستدعي الحماس والنشاط, أو تحويل الأنشطة إلى تطبيقات يتنافس المتعلمون بينهم على إنجازها بطريقة تفاعلية, وقد أبدت بعض اللعب التفاعلية بين اللاعبين نجاحا باهرا حتى غدا أغلب الشباب يحملونها على هواتفهم وعلى لوحاتهم الالكترونية ولا يسأمون من اللعب بها ليل نهار, فلما لا تكون أنشطة التعلم كذلك.
4- تحفيز المتعلمين والمتعلمات في جميع مراحل التعليم عن بعد.
5- إعطاء استراحة بين مجال تعليمي وآخر.
6- عدم الإكثار من الواجبات لكل أستاذ, بل على الأساتذة اختيار وضعيات تقويمهم بعناية.

خامسا التقويم والتقييم في التعليم عن بعد:

من المعلوم أن التقويم التربوي أساس كل تعليم منظم وممنهج, فله مؤسساته وخصائصه ويندرج ضمن عدة أنواع حسب الحاجة منه والغاية منه, لكن هنا لن نطنب الحديث حول أنواعه, بل سنقارب التقويم التربوي في التعليم عن بعد, فكيف يجب أن يكون هذا التقويم ؟ وبأية وسائل تربوية وبيداغوجية وديداكتيكية ؟

فالتقويم عن بعد يجب, إضافة لمبادئ التقويم وعناصره السابقة للتقويم التربوي, يجب أن يراعي الفروقات الفردية للمتعلمين بالأساس, ويحترم مبدا تكافؤ الفرص والمرونة في الانتقال بين مختلف الوضعيات مع إدراج مفعول رجعي للدعم الآني عند فشل المتعلم والمتعلمة في أية وضعية تعلمية, ولن يتاتى هذا إلا بتكوين الأساتذة والمربين في كيفية استعمال الوسائل البيداغوجية والديداكتيكية الحديثة وبالأساس التكوين في كيفية إنتاج وضعيات تطبيقية تعتمد على التحفيز وتتضمن سلم صعوبات تناسب الفروقات الفردية للمتعلمين وأن تكون هذه الوضعيات مشابهة لوضعيات اللعب الإلكتروني بحيث ينتقل المتعلم من محطة إلى أخرى وفي كل محطة يجد نفسه امام تحد جديد عليه اجتيازه, لكن عن فشل عليه إعطائه مجموعة من الاختيارات لمراجعة ما تم الخطأ فيه وتوجيهه إلى الصواب وإلى التمثلات العلمية الصحيحة أو إلى مجموعة من المعلومات التي تستدعي التفكير والتحليل والتركيب.
كما أن تلك التطبيقات يجب أن تتضمن معلومات المتعلمين ومستواهم الدراسي لكي يتم تسجيل وتيرة أدائهم ووتيرة إنجازاتهم تلقائيا عبر تلك التطبيقات, كما يمكن ان تتضمن معايير ومؤشرات النجاح من أجل تفييئهم وتصنيفهم, فالتطبيقات التربوية سواء كانت لبناء التعلم أو لتقويمه ودعمه يجب أن تتوفر على القدر الكافي للمعلومات, ولن يتأتى هذا إلا عن طريق تكوين الأساتذة والأستاذات وجميع الفاعلين التربويين قاطبة في مبادئ البرمجة وخصوصا برمجة التطبيقات لكي تتناسب مع أهداف وكفايات التعليم والتعلم.
ومن هنا تأتي الضرورة القصوى لإدماج البرمجة المعلوماتية في مجزوءات التكوين داخل مختلف المراكز الجهوية للتكوين.

ومن بين وسائل التقويم عن بعد نجد عدة أنواع من بينها:

1- الاستثمارات والاستبيانات:Questionnaires et formulaires ويطلب فيها للمتعلمين والمتعلمات من الإجابة على عناصرها مع ملء المعلومات الشخصية للمتعلم والمتعلمة في الترويسة وبذلك يمكن للأستاذ أن يستثمر نتائجها لكل متعلم على حدة وفي نفس الوقت يمكن استثمارها في تفييء المتعلمين حسب المعايير والمؤشرات المعتمدة داخل الاسبيانة في كل وضعية وفي كل سؤال, وهي في متناول الجميع عبر موقع كوكل أو عبر عدة مواقع أخرى.
2- الاختبارات الإلكترونية: e-testes وهي أيضا مناسبة لتقويم المتعلمين ولتقييمهم الأتوماتيكي, في مختلف المواد والمكونات المدرسة, وتتيح أيضا إمكانية الاستثمار في الدعم والمعالجة عن بعد.
3- ملفات الإنجاز الإلكتروني: أو ما يعرف بالحقائب الإلكترونية, وهي مناسبة لمشاريع المتعلمين الفردية ولمشاريع الأقسام, بحيث تمكن المتعلمين من تجميع وتنظيم أعمالهم ومشاريعهم المرتبطة بالمواد والمكونات المدرسة, والتي يتم إعدادها وإنجازها من طرف المتعلمين بتوجيه من الأستاذ, ويمكن أن تتضمن ملفات متنوعة بتنوع الهدف منها كملفات البرامج المكتبية مثلا.
4- الاختبارات القصيرة: أو ما يعرف بـ les quizzes وهي تختبر المتعلمين في استدعاء معارفهم ومكتسباتهم السابقة واستعمالها.
5- التطبيقات الإكترونية: وهي تطبيقات تتضمن جزء من الدرس لبناء التعلمات وجزء لتقويم هذه التعلمات ومدى تحقق الأهداف منها, إلا أنها في المجال التعليمي يجب أن تكون تتضمن معلومات كل متعلم وكل طالب, وترتبط بالتطبيق الأصلي الذي يكون عند الأستاذ لكي يعرفة مشاركة المتعلمين ودرجة تحكمهم في الموارد.
6- التجارب الافتراضية: وهي تطبيقات تعتمد على تفاعل المتعلمين ويمكن تطبيقها في المواد العلمية وفي المناولات, وهي جد مهمة في ربح الوقت وفي سلامتها, فيمكن إجراء هذه التجارب الافتراضية بأمان, بحيث تنمي لدى المتعلم كفاياته ومهاراته, إلا أن هذه التطبيقات العلمية يجب أن تصمم من طرف المختصين في العلوم مع احترام مبدأ النقل الديداكتيكي مع عدم تمرير معلومات خاطئة قد تؤثر في تمثلات المتعلمين.
7- المحاضرات المرئية: وهي محاضرات تكون عبر تطبيقات تثبت على الأجهزة أوعبر منصات خاصة بذالك, كمنصة تيمس ومنصة مودل ومنصة زووم, إلا أن اختيار المنصة يتطلب تحري الدقة في محتوياتها وفي أمنها واجتناب اختراق الأجانب لها, فالأستاذ يدرج معلومات المتعلمين في المنصة ويستدعيهم في وقت معين لحضور درس أو محاضرة او تجربة تفاعلية, مع تنظيم المتعلمين لتدخلاتهم.

سادسا: الشروط اللازمة للتعليم عن بعد:

لضمان نجاح وضعيات التعليم عن بعد وتحقيق أهدافها وغاياتها, يجب أن تتضمن مجموعة من الشروط فمنها مت هو مادي ومنها ما هو نفسي ومنها ماهو معرفي وتنظيمي, نجد من بين هذه الشروط:
1- تعاقد صريح بين الأساتذة والمتعلمين على كيفية استعمال وسائل وموارد ومعلومات التعليم عن بعد, وتوصيف لأخلاقيات التعامل مع الأطر الأخرى والفاعلين التربويين.
2- توفير الوسائل التكنولوجية المناسبة للأستاذ وللمتعلم على حد سواء دون تمييز بينهم.
3- توفير وسائل الولوج من شبكة الاتصال.
4- توفير البرامج الخاصة وتدريب الأساتذة والأستاذات والمتعلمين والمتعلمات على كيفية استعمالها وعلى كيفية إغنائها وتطويرها.
5- تكوين الأساتذة والأستاذات في البرامج المكتبية الخاصة وفي برمجة التطبيقات المعلوماتية الخاصة بالوسائل المتوفرة لدى الأساتذة والمتعلمين.
6- تحديد تعريف حدود الأمان في الرامج المستعملة.
7- إخفاء أزرار التسجيل للمتعلمين والمتعلمات في المحاضرات المرئية, لكن يمكن للإستاذ إظهارها إن دعت الحاجة لذلك.
8- إعطاء المتعلم والمتعلمة فترات استراحة بينية بين وضعيات التعلم ومجزوءاته.
9- توفير تطبيقات تستدعي مختلف الكفايات وعدم الاقتصار فقط على المعارف والمعلومات.
10- إدماج بعد التحدي والتشويق في تطبيقات التعلم عن بعد.
11- إدماج اللعب التفاعلي في وضعيات البناء والتقويم ووضعيات الدعم في التعليم عن بعد.
12- المواكبة النفسية للمتعلمين والمتعلمات من خلال المناظرات المرئية ومن خلال الاتصال المباشر بهم, أو من خلال الإجابة عن الروائز النفسية الإلكترونية.
13- التشجيع المستمر بأوسمة إلكترونية على بطائق المتعلمين الالكترونية أيضا.

سابعا: حدود تعويض التعليم الإلكتروني للتعليم الحضوري في الأقسام والفصول الدراسية

لا يختلف اثنان عن أهمية التعليم الحضوري في إكساب المتعلم المعارف ومعارف الفعل والمهارات والكفايات والخبرات, فالتعليم الحضوري محدد بنسق وبمرجعيات اجتماعية وسوسيومعرفية وأيضا بمرجعيات سوسيواقتصادية تتفاعل عناصرها تفاعلا مستمرا, فلا يمكن حصر ظاهرة التعليم والتعلم فقط داخل كيان مؤسساتي واحد بل يتعداه لكي يتشكل عبر روابط متعددة منها ما هو ظاهر زمنها ما هو خفي على العامة.
وبهذا فإن شخصية المتعلم وهويته الدينية والوطنية والإنسانية تتشكل وفق مجموعة من المحددات المتداخلة والمتفاعلة فيما بينها.

لكن وحتما يعترف الجميع بأهمية الوسائل التكنولوجية الحديثة في تيسير التعليم والتعلم لدى الأطفال ولدى الراشدين على حد سواء, فهو ذو قيمة مضافة ونوعية لتجويد الفعل التعليمي التعلمي داخل المؤسسات التعليمية, فيمكن مثلا استغلال التعليم عن بعد كإضافة مهمة في الأقسام المعكوسة أو الفصول المعكوسة, بحيث يتم تزويد المتعلمين والمتعلمات بالموارد الرقمية سواء عن طريق شبكة الاتصال أو عن طريق الحوامل, ويطالب من المتعلمين رؤيتها او تطبيقها, ويمكن لهده الوارد أن تكون تفاعلية بين مختلف المتدخلين, فيعرف الأستاذ درجة ووتيرة تقدم المتعلمين والمتعلمات في تعلماتهم, وعند عودتهم للقسم يتم مناقشة الصعوبات والاكراهات التي اعترضتهم أو إغناء النقاش إن دعت الضرورة لذلك, فالأقسام المعكوسة تم تطبيقها في مجموعة من الدول فأعطت نتائج إيجابية على مردودية تعلمات المتعلمين, ونسرد هنا تجربة تم القيام بها بمدرسة عليا بولاية ديتروا الأمريكية Clintondal high school (Detroit) فتم إعطاء المتعلمين والمتعلمات ثلاث أشرطة فيديو رقمية في كل أسبوع لها علاقة بالدروس المقدمة, بحيث مدتها لا تتجاوز عشر دقائق فقط وتم التركيز في القسم على أعمال المختبر والتجارب أو على المناقشة وتحليل الوضعيات, أو لإعطاء أمثلة حول المفاهيم العلمية المدروسة في الأشرطة, وكانت النتائج إجابية من البداية, بحيث ازدادت حافزية المتعلمين والمتعلمات للدروس المقدمة لهم, وتم إشراك أكبر عدد من المتعلمين بحيث أن الأستاذ يمكن أن يشرح للمتعلمين مرة أخرى في القسم, وتم ربح الوقت لمساعدة المتعلمين, أما النتائج الإحصائية فكانت كما يلي:
قبل إجراء التجربة: 50 في المئة من الطلاب يفشلون في التحرير بالانجليزية, و44 في المئة يفشلون في الرياضيات, مع ظهور 736 مشكل خاص بالأقسام والطلاب.
بعد إجراء التجربة: تم الوصول إلى أن 19 في المئة فقط فشلوا في الأنجليزية و13 في المئة فقط في الرياضيات, وعدد المشاكل التي ظهرت بين الأقسام كانت فقط 249 في المئة .
وبهذا نرى أن نسبة تأثير التعليم عن بعد ودمجه مع التعليم الحضوري له قيمة إيجابية بحيث تقلصت التعثرات بأكثر من 50 في المئة.
وهناك عدة تجارب نذكر منها:
1- تجربة وارتر بريز ودونجWarter-Perez et Dong في 2012 وكانت في المهارات الرياضياتية.
2- تجربة بابادولوس ورومانPapadalos et Roman في 2010 في الهندسة الإلكترونية.
3- تجربة ستراير Strayerفي 2012 في الإحصائيات الوصفية.
4- تجربة مومبيرMumper في 2013 في مجموعة من الدروس والمجزوءات.

وخلاصة القول فإن التعليم عن بعد يمكن أن يعطي دفعة قوية لتجويد تعلمات المتعلمين ولتجويد مشاريع المؤسسات التعليمية في مختلف الأسلاك, إلا أنه يجب توفير الوسائل والموارد لذلك والاهتمام بتكوين جدي للأطر البشرية في البرمجة المعلوماتية وفي إنتاج التطبيقات التفاعلية مع تدريب المتعلمين المستمر على استعمالها والتفاعل معها بكيفية سليمة وملائمة.

المراجع:
1- محمد احمد الكسج, الجودة في التعليم عن بعد, دار أسامة للنشر والتوزيع.
2- عبدالجواد بكر, قراءات في التعليم عن بعد.
3- محمد سعيد حمدان, التعليم المفتوح والتعليم عن بعد مفهومه, فلسفته, أهدافه وأهميته , مجلة اتحاد الجامعات العربية.
4- جنبي، كمال 2019 ، التعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد، https://www.noor-book.com/كتاب-التعليم-الإلكتروني-و-التعليم-عن-بعد-pdf
5- https://www.researchgate.net/publication/263657315_altlym_almftwh_waltlym_n_bd_fy_alwtn_alrby_nhw_alttwyr_walabda

6- https://www.tech-wd.com/wd/2015/10/20/نظرة-سريعة-في-تاريخ-التعلم-عن-بعد/
7- http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/6bf73820-4ffc-4190-b4d0-e0f302094e16
8- https://www.slideshare.net/drablehsh/ss-85461200
9- https://flippedlearning.org/site/default.aspx?PageID=1
10- http://college.emory.edu/main/index.html

معلومات عن الباحث: ذ. عبالرحيم الهرنان
1- باحث في علوم التربية وفي البيداغوجيات والديداكتيك
2- مكون ومؤطر لأساتذة سلك التعليم الابتدائي.
3- مكون ومؤطر لمربي ومربيات التعليم الأولي.
4- مكون لمكوني ومنشطي خلايا مناهضة العنف بالوسط المدرسي

5- مؤلف لعدة كتب مدرسية في التعليم الأولي.
6- ناشر معترف به على مواقع التواصل الاجتماعي وله مجموعة من المواقع التربوية والمفيدة.
7- ناشر وصاحب قناة تكوين على يوتوب وعلى تويتير
8- مواقعه التكوينية المجانية:
https://www.youtube.com/channel/UCLgb3cEKz3ppCOW6PqQlrgA

https://web.facebook.com/groups/777educa/

https://web.facebook.com/groups/115893449065353/

https://web.facebook.com/groups/1057245244315143/

https://web.facebook.com/Formathèque-education-1170676959743455/

* باحث في علم التربية ومفتش تربوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • تربوي
    منذ 4 سنوات

    مقال شامل جامع لمن يبحث في مجال التعليم عن بعد شكرا جزيلا سي عبدالرحيم الهرنان المفتش المتميز

  • منار كريمط
    منذ 4 سنوات

    شكراً لك أستاذ عبد الرحيم مقال أكثر من رائع يشمل كل مايتعلق بالتعليم عن بعد أعانك الله.

  • شكري عبدالمجيد
    منذ 4 سنوات

    موضوع رائع شكرا على هذه المقالة

  • ادريس مورادي
    منذ 4 سنوات

    مقال ممتاز وشامل عن التعليم عن بعد وأبعاده والمتطلبات المستقبلية ... شكرا لكم