منتدى العمق

قراءة تداولية في المساعدات الطبية المغربية الموجهة نحو إفريقيا

اجتاح فيروس كورونا مختلف أنحاء العالم ونهش اقتصاد كثير من الدول خصوصا الدول النامية في إفريقيا، والتي تعاني شعوبها من غير جائحة كورنا الفقر والهشاشة، فازداد طينها بلة بعد توقف عجلة الاقتصاد إثر انسحاب كثير من المستثمرين العالميين خوفا من انشار الوباء، الشيء الذي أثر بشكل واضح على الوضعية الاقتصادية الاجتماعية مثلما فعل بالوضعية الصحية لتلك الدول الإفريقية، وأظهرت دراسة للاتحاد الأفريقي أن نحو 20 مليون وظيفة في أفريقيا باتت مهددة، إذ من المتوقع أن تنكمش اقتصادات القارة هذا العام بسبب تأثير وباء كورونا… وجاء في الدراسة أن “نحو 20 مليون وظيفة، في القطاعات الرسمية وغير الرسمية على السواء، مهددة بالدمار الذي سيلحق بالقارة إذا استمر الوضع”.[1] بالإضافة إلى غياب الوسائل الطبية والصحية لمواكبة وباء كورونا والعناية بالمرضى، والنقص الملحوظ في الكمامات والأقنعة الواقية والوسائل اللوجستية اللازمة.

وفي خضم هذا السياق أعطى الملك محمد السادس يوم الأحد 14 يونيو 2020، تعليماته السامية لإرسال مساعدات طبية إلى عدة دول إفريقية شقيقة، بحسب ما أفادت به وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج. وهي مساعدات تتكون من حوالي ثمانية ملايين كمامة، و900 ألف من الأقنعة الواقية، و600 ألف غطاء للرأس، و60 ألف سترة طبية، و30 ألف لتر من المطهرات الكحولية، وكذا 75 ألف علبة من الكلوروكين، و15 ألف علبة من الأزيتروميسين وهي مساعدات شملت خمس عشرة دولة.[2] وهنا تساءل كثير من المحللين للأوضاع حول الغاية من هذه المساعدات المقدمة من المغرب نحو تلك الدول.

فكما هو معلوم أنه لا توجد عطاءات مجانية، وحتى الهبات التي تبدو من ظاهرها أنها مجرد عطاء من جانب المرسل فقط، تعد نوع من الأفعال الإنجازية والإلزامية التي تتم عبر التواصل غير المباشرة وتقتضي أيضا رد فعل من المرسل إليه (المؤول طبعا)، والأفعال الإنجازية كما وصفها اللساني الفرنسي ديكرو(Oswald Ducrot) “مؤسسة على مواضعات من النوع القضوي، حيث تترتب على المتكلم والمستمع حقوق وواجبات، وهما مطالبان بالالتزام بها”[3] ويكتسي المضمر طابعا خاصا عند ديكرو بحيث “إن للمضمرات عملا أكثر ضمنيا وأبرز تداوليا، فالمضمر هو ما نقوله زائدا عن الملفوظ بمجرد قولنا للملفوظ، وتشتغل الأفعال غير المباشرة على المضمرات”[4] ، وقد استنتج الأنثروبولوجي الفرنسي مارسال موس (M.Mauss) “الذي اشتهر بمقالته عن الهبة المنشورة سنة 1923. من خلال دراسته للمجتمعات البدائية المتنوعة أن الهبة والهدية عمل يستدعي التبادل أي إجبارية إعطاء هبة مقابلة (لا يمكننا أن نعطي دون أن نأخذ والعكس بالعكس)، فاستنتج موس أن ذلك أساس كل صلة اجتماعية ويعرفها بكونها عقدا تبادليا”[5] وقد أكد من خلال دراسته تلك أن للهبات أو الهدايا إلزامات ثلاث أولها تقديم الهبة وهو متعلق بالمرسل (المعطي)، ثانيا قبول الهدية وهو أمر متعلق المستقبل (بالمعطى إليه) ثم في الأخير يوجد أمر غاية في الأهمية ألا وهو الرد على الهدية[6] والرد ليس بالضرورة رد هدية بمثلها، فقد يكون تغيير موقف أو كف أدى بمثابة رد فعل غير مباشر. إذن فالهبة نوع من أنواع الخطاب غير المباشر وهي بذلك تقتضي تأويلا بالرجوع إلى السياق، إذ يعد السياق من أهم الأعمدة التي تقوم عليها التداولية بما له من دور مهم و بارز في إجلاء و توضيح دلالة ومعنى ذلك الخطاب، كما تعتبر “الهدايا الدبلوماسية تقليدا قديما بين الدول ووسيلة للتعبير عن الواقع المأمول، وتحمل الهدايا في طياتها أكثر من مغزى ومعنى حسب نوعها، وزمنها، وظروف تقدميها، ووسعت بشكل كبير مضمون الشؤون الدولية وغيرت من طبيعتها للبحث عن الأمن والسلام بين الدول، أو للتعبير عن التفاعل والتكامل والتعاون، وغيرها من الأغراض التي تحكمها العلاقات الدولية في مجال السلم والحرب”[7]، لذلك فالسؤال الذي يطرح هنا ه،وما الغاية من وراء تلك المساعدات؟

إن السياق العام والمعلوم لدى الجميع بالنسبة للمغرب وإفريقيا هو قضية الصحراء المغربية، التي تعد القضية الوطنية الأولى فوق كل اعتبار، وإذا نظرنا في المساعدات المقدمة من طرف المغرب إلى إفريقيا فسنجدها شملت دولا تعترف أو سبق لها واعترفت بجبهة البوليساريو كدولة قائمة كموريتانيا وغينيا بيساو وجزر القمر، جمهورية الكونغو…، الشيء الذي استفز الجبهة الوهمية وبعض المساندين لها لإنهم استنبطوا ما وراء الحجب وفطنوا إلى مقصدية المغرب من وراء تقديمه تلك المساعدات، وهذا الأمر أظهرته بعض الصحف التابعة لتلك الجهات من ضمنها صحيفة “المستقل الصحراوي” التي قالت بالحرف “ويبدو جليا أن المغرب يحاول التأثير من خلال هذه المساعدات على مواقف هذه البلدان من قضية الصحراء”[8] وهذا الأمر لا يستفز أبدا المغرب باعتباره جزءً من العلاقات الدبلوماسية التي سبق وآتت أكلها مه كثير بعض الدول من أمريكا اللاتينية التي اعترفت بادئ الأمر بالجمهورية الوهمية ثم سحبت اعترافها لما تعرفت على المملكة المغربية بشكل جيد وفهمت ملف الصحراء بشكل واضح من خلال الدبلوماسية المغربية الناجحة.

وعموما فإن الدوافع من جراء تقديم المساعدات الدبلوماسية باعتبارها نوعا من الأفعال الاستلزامية المضمرة تتمثل في:

· الدوافع السياسية: من خلال الدعاية للجهة المعطية و تغيير المزاج الرسمي والشعبي في الدولة المتلقية اتجاه الجهة المانحة، كما تساهم في بناء صورة ذهنية داخلية وخارجية قائمة على التفوق والريادة العالمية.[9]

· الدوافع الاقتصادية: الحفاظ على استثمارات الشركات في الدول المستفيدة، حيث تحرص الدول المانحة على عدم انهيار الأنظمة السياسية في الدول التي تتواجد فيها شركات الدول المانحة. رفع مستوى الطلب على منتجات الدول المانحة أو الحيلولة دون انخفاضه.[10]

والمغرب قد جمع بين هذه الدوافع المشار إليها أعلاه من حيث محاولته تغيير الموافق الأولية لتلك الدول المتلقية والمبنية على عدم فهم لملف الصحراء المغربية، مع تصحيح وبناء صورة ذهنية للمملكة المغربية حول مكانة المغرب في إفريقيا، وكذلك ضمان استثمارات مستقبلية واستيرادات من طرف تلك الدول للمنتوجات المغربية باعتبار أن تلك المساعدات الطبية جلها مغربية الصنع وذات جودة عالية، مما سيضمن للمغرب في المستقبل القريب طلبا متزايدا على منتوجاته وهذا بحد ذاته تسويق للمنتوج الوطني في إفريقيا والعالم.

وليس المغرب البلد الوحيد الذي قدم مساعدات إنسانية في خضم هذه الجائحة العالمية، بل قامت بذلك عدة دول ومنظمات. وها هي تركيا برزت بدورها كفاعل رئيسي من خلال تقديم المساعدات والمعدّات الطبية إلى قرابة 57 دولة، فيما تنشد أن يصل الدعم إلى قرابة 90 دولة كانت قد تلقّت منها طلبات لذلك[11] ، كما قامت بذلك كل من الصين وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا… وهذه دول ذات تنافس عالمي وغايتها أيضا واضحة من جراء تقديم مساعدات إثر جائحة كورونا وهي إثبات صمود اقتصادها أمام الوضع الراهن، وبسط النفوذ الاقتصادي والسياسي على أبعد مدى، كما قدمت دول الخليج كالسعودية وقطر والإمارات مساعدات لعدة دول عالمية وغايتها في ذلك واضحة لعلمنا بالأحداث والسياقات المرتبطة بهم (حصار قطر، قضية خاشقجي، ملف اليمن…إلخ) هي التنافس فيما بينهم وتلميع الصورة الخارجية لدى العالم.

عموما هذه لمحة سريعة حول المساعدة الدبلوماسية والهدية من وجهة نظر تداولية كنوع من أنواع الخطاب الضمني المضمر، وإلا فالموضوع أكبر بكثير ويحتاج تعمقا أكثر، واختيارنا للمساعدات الطبية المغربية لإفريقيا كان وليد السياق الحالي نظرا لأهميته، ونتمنى أن نكون قد ساهمنا شيئا ما بدلونا ضمن الرأي العام وأسهمنا بوجهة نظرنا المتواضعة فيه.

ـــــــــــ
[1] مجلة العربي الجديد ، عدد 5 أبريل 2020، توقعات بخسارة 20 مليون أفريقي وظائفهم بسبب كورونا – نظر بتاريخ 17 يونيو 2020 على الساعة 23:48.

[2] بلاغ وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج.

[3] مقال بعنوان نظرية أفعال الكلام عند أوستين . مجلة اللغة والأدب ع 17ص/ . 81يناير 2006م

[4] كتاب التداولية من أوستين إلى غوفمان “فليب بلانشيه، ترجمة صابر الحبشي ص165

[5] نفسه ص91.

[6] بحث في الهبة، شكل التبادل وعلنه في المجتمعات القديمة – مارسيل موس- ترجمة المولودي الأحمر ص129.

[7] مقالة بعنوان: الهدايا الدبلوماسية وأغراضها بين المغرب الأوسط والعالم الإسلامي- د.تواتية بودالية -رابط المقال : https://www.asjp.cerist.dz/en/article/64581

[8]موقع المستقل الصحراوي- مقال بعنوان “الاحتلال المغربي يستغل جائحة كورونا للتأثير في مواقف بعض البلدان الافريقية” – نظر بتاريخ 18-06-2020على الساعة 12:01.

[9] دبلوماسية المساعدات الإنسانية خلال جائحة كورونا الدوافع والأثر- موقع جسور للدراسات.

[10] المرجع نفسه

[11] “لمواجهة كورونا.. 88 دولة تنشد دعماً طبياً تركيا”. وكالة الاناضول، 2-4-2020، نظر بتاريخ 18-06-2020 على الساعة 12:09

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *