وجهة نظر

جريمة الاستعمار ونظام “ما بعد الغرب” .. زلزال لعروش وتهديد لأمم أم مجرد مناورات ابتزاز عابرة؟

في الوقت الذي رفض فيه المرشح الرئاسي الفرنسي إيمانويل ماكرون التراجع عن تصريحاته عن تاريخ الجزائر إبان حقبة الاحتلال الإرهابي الفرنسي، ورغم عاصفة الانتقادات من منافسيه في اليمين و اليسار معا، مؤكدا أنه يتمسك بتصريحاته التي لقيت الكثير من الترحيب في الجزائر و بعض المستعمرات الفرنسية الافريقية التي مازالت تنتظر اعترافا رسميا فرنسيا بمجازر وجرائم الاستعمار الدموي لإبان القرن الماضي، وتأمل الحصول على اعتذار وتعويض فوري.. حيث قال خلال زيارته للجزائر هذا الأسبوع تصريحا لا تلميحا، بأن تاريخ فرنسا في الجزائر كان (جريمة ضد الإنسانية) ورفض التراجع عنها يوم الخميس، وأردف قائلا ( كان أمر الاستعمار الفرنسي  في الجزائروحشيا حقا وهو جزء من الماضي يجب أن نواجهه حتى نعتذر أيضا لمن تضرروا، من الجزائريين، الأمر الذي جعل بعض الاحزاب تحرك الطابور الخامس من ” حَـْركة الجزائر” في فرنسا بالتنديد بهذه التصريحات غير المألوفة في الشارع السياسي الفرنسي، من طرف صبي في السياسة و العمر، لا ننسى فهو من مواليد 1977.

الاستعمار جريمة ضد الإنسانية وعمل وحشي

كما أوضح  إيمانويل ماكرون أيضا و دون تلكأ: ” أن الاستعمار يدخل ضمن ماضي فرنسا.. و إنه جريمة بل جريمة ضد الإنسانية وعمل وحشي وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نشاهده أمامنا ونقدم اعتذاراتنا للذين ارتكبنا بحقهم هذه التصرفات”. وهو تصريح غير مسبوق عند اي سياسي فرنسي مترشح للرئاسيات، فكيف فهم السيد ماكرون أن العالم يجب أن يتغير و هو لم يترشح لانتخابات سابقة و ليس له حزب خاص به كغيره من المترشحين، وينصف الضحية التي لم يرتكب في حقها أي جرم بل لم يشهد حتى عصرها، نعم ينصفها مهما كان دينها و لونها و لغتها وتاريخها.. هل هو لغز ..غريب أمر هذا الفرنسي ؟

الناتو مؤسسة الحرب الباردة، سواء في الفكر أو في القلب

و هذا الحدث، أو التغيير التكتيكي عند ساسة فرنسا، يتناغم هذا الاسبوع مع تصريحات زعماء الغرب، حيث قال وزير خارجية روسيا لافروف يوم السبت الماضي، في كلمة له أمام مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن ، بحسب الترجمة الرسمية: “الناتو لا يزال مؤسسة الحرب الباردة، سواء في الفكر أو في القلب”

وأعتبر لافروف الناتو أشبه بـ“ناد نخبوي من دول” تحكم العالم، مضيفا أن الحلف لن يكون قادرا على الاستمرار على المدى الطويل على هذا المنوال .. كما دعا لافروف الى قيام نظام عالمي جديد اسماه نظام ما بعد الغرب”، مقترحا في نفس الوقت على واشنطن اقامة علاقة “براغماتية” و”احترام“، طالبا من القادة المسؤولين ان يحددوا خيارهم. وآملا ان يكون هذا الخيار هو نظام عالمي ديمقراطي وعادل، وداعيا الى قيام نظام عالمي جديد، أسماه “ما بعد الغرب.”

“ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام” تقرير:

كما يتناغم أيضا هذا الحدث السياسي الكبير مع تقرير بعنوان “ما بعد الحقيقة، ما بعد الغرب، ما بعد النظام”، الواقع في تسعين صفحة وتم الإعلان عنه بموازاة انطلاق الدورة السنوية الـ53 لمؤتمر ميونيخ الجمعة الماضية بحضور رؤساء ثلاثين دولة، ومشاركة الإدارة الأميركية الجديدة بوفد يضم نائب الرئيس الامريكي مايك بينس ووزيري الدفاع جيمس ماتيس والأمن الداخلي جون كيلي، إضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، والأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، ورئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، و المستشارة الالمانية ميركل، و غيرهم..

العالم الغربي بأنظمته ومؤسساته على حافة الانهيار

و بالتالي بات العالم الغربي بأنظمته ومؤسساته على شفير الانهيار على حد تعبير التقرير، نتيجة عوامل عديدة كشف عنها تقرير مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن الأخير، من بينها ضعف تماسك الاتحاد الأوروبي، وخروج بريطانيا من الاتحاد، وصعود القوى الشعبوية، وتداعيات انتخاب ترامب، والفشل بحل الأزمة السورية، وصعود روسيا، وأفول قوة أوروبا والولايات المتحدة تأثرا بظهور أنظمة معادية للديمقراطية، وحملات المعلومات الزائفة، وانتشار التيارات اليمينية الشعبوية الساعية إلى استغلال مخاوف الشعوب الغربية من العولمة والهجرة لتحقيق مكاسب سياسية وتقويض النظام الدولي

وجاء في ذات التقرير الذي أعدته مجموعة من المراكز الإستراتيجية الغربية المؤثرة (تينك تانك) إن الغرب الممثل بمؤسساته العالمية مثل الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وأنظمته الديمقراطية، والتجارة الحرة، والتصورات الليبرالية المنفتحة لشعوبه بات بمواجهة الأخطار الداخلية والخارجية الراهنة مهددا في وجوده وعلى شفير الانهيار.

و”من يحكم العالم ..؟”  نعوم تشومسكي

هل تكون هذه التقارير والاعترافات، هي خلاصة ما ذهب إليه المفكر  المتزن اليهودي الأميركي نعوم تشومسكي في كتابه الاخير “من يحكم العالم؟”

حيث يقول تشومسكي: “إنّ عقولنا عند محاولتها الإجابة عن سؤالنا من يحكم العالم؟ تقع في أسر تصوّر مُسبقٍ، مفاده أن اللاعبين الرئيسيين على الساحة الدولية هم الدول العظمى، وأنّ أكبر العوامل التي تؤثر في المشهد السياسي هي القرارات التي تتخذها تلك الدول.”

ثروة الأمم” و”سادة البشرية” العالم بين

ويرد تشومسكى منتقد بنفسه لهذه الإجابة، وإن كان غير رافض لها تمامًا، فيقول: “بالرغم من أنّ هذا ليس تصورًا خاطئًا بالكلية، لكن من الأفضل أن نضع في اعتبارنا أن هذا المستوى من التجريد قد يكون شديد التضليل؛ لأنّه يحمل بين جوانبه اختصارًا مخلّا للمشهد، فهو يُهمل التأثير الكبير لمن سمّاهم آدم سميث، بـ”أسياد البشرية” في كتابه “ثروة الأمم” عام 1776 . فقد كان الأخير يرى أن السادة الذين يحكمون عالمنا هم التجار والصناعيون في إنكلترا. أما في عصرنا الحالي فإن هؤلاء السادة يتمثلون في تكتلات الشركات العملاقة متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية والتجارية الضخمة، فهي تتمتّع بنفوذٍ هائل، سواءً في موطنها الأم، أو على المستوى الدولي. فهذه الشركات والمؤسسات لا تتحكم في الاقتصاد العالمي فحسب، بل يمكنها تحريك الجيوش لحماية مصالحها وفتح الأسواق أمام منتجاتها

ما هي المبادئ والقيم التي تحكم العالم الآن؟

وانطلاقًا من السؤال السابق، يطرح تشومسكي سؤالًا آخر، هو: ما هي المبادئ والقيم التي تحكم العالم الآن؟ هل هي مبادئ الديموقراطية وقيم العدالة وحقوق الإنسان، أم أنها مبادئ اقتصاديات السوق وقيمة الربح والمنفعة؟ ويميل تشومسكي إلى الخيار الثاني، فهو يؤكد على أن الخطاب الأميركي الداعي إلى العدالة وحقوق الإنسان انحرف عن مساره ليخدم مصالح المؤسسات المالية والشركات الكبرى. ويدلل على ذلك باتفاقية الشراكة العابرة للأطلنطي؛ إحدى الاتفاقيات التي “سُمّيت باتفاقيات التجارة الحرّة”، فيرى أنها نموذج مضاد للديموقراطية، إذ إنها نوقشت في حجرات مغلقة، وكَتَبَ تفاصيلها مئات من المُحامين، بهدف تمريرها سريعًا بلا مناقشة حقيقية، أو مشاركة من أفراد الشعب، الذين يتم تهميشهم عادة عند تقريرها.”

إلى متى و لعنات “الويلات التسع” تطارد أمتنا؟

و رحم الله جبران خليل جبران المسيحي {1883-1931}، الذي كتب يذكرنا منذ أزيد من قرن “الويلات التسع” لتقرأها شعوبنا العربية بعين و تبكي بعين، هذه الويلات متداولة اليوم حتى بين دفات كتب الاطفال بلغات عدة، وقد نَشَرَتها أخيرا حتى المجلة السورية “سنونو” للأطفال. يقول جبران في” ويلاته التسع”:

1- ويلٌ لأمةٍ تنصرف عن الدين إلى المذهب، وعن الحقل إلى الزقاق، وعن الحكمة إلى المنطق

2- ويلٌ لأمةٍ تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر

3- ويلٌ لأمةٍ مغلوبة تحسب الزركشة في غالبيها كمالاً والقبيح فيهم جمالاً

4- ويلٌ لأمةٍ تكره الضيم في منامها وتخنع إليه في يقظتها

5- ويلٌ لأمةٍ لا ترفع صوتها إلا إذا سارت وراء النعش، ولا تفاخر إلا إذا وقفت في المقبرة، ولا تتمرد إلا وعنقها بين السيف والسطح

6- ويلٌ لأمةٍ سياستها ثعلبة، وفلسفتها شعوذة، أما صناعتها ففي الترقيع

7- ويلٌ لأمةٍ تقابل كل فاتح بالتطبيل والتزمير، ثم تشيعه بالفحيح والصفير لتقابل فاتحاً بالتزمير والتطبيل

8- ويلٌ لأمةٍ عاقلها أبكم، وقويها أعمى، ومحتالها ثرثار

9- ويلٌ لأمةٍ كل قبيلة فيها أمة

متى يستيقظ العرب وحكام العرب ومفكري الأمة وقادتها؟

فهل يستيقظ العرب وحكام العرب ومفكري الامة وقادتها لهذه الحقائق وهذا الواقع الجديد، الذي بشر به القرآن الكريم، بأن الأمم دول، إذ أنه من كانوا سادة العالم يوما ما، قد يصبحون تبع أو عبيدا لما تضيع عنهم بوصلة العيش المشترك والعكس صحيح، أي سنة التداول بين بني البشر، مصداقا لقوله سبحانه “إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”.. نحن أصحاب الرسالة الخاتمة و الحمد لله،  نملك هذا القرآن و هذه الحقيقة الناصعة رغم الغدر المتجدد للاحتلال لبلداننا، وعلى حد تعبير المفكر اللواء الركن محمود شيت خطاب الذي كتب يقول عن ذلك “لقد دأبت معاول الاستعمار الفكري على هدم عقيدة المسلمين بدون هوادة ولا تهاون، لكن القرآن الكريم كان الصخرة الصلدة التي تحطمت عليها معاولهم”، مستشهدا بقول أحد كبار سياسيي الغرب بحرقة ومرارة القائل: “لا نجاح لنا في تبديد الكيان الإسلامي مالم نمزق القرآن”، و تمزيق القرآن هنا كناية تعني ما تعني.. وتعني ما لا يغيب عن خلد أحد..

ولولا القرآن الكريم لاقتلع الغرب المسلمين من جذورهم ..

ويقول أيضا المفكر اللواء الركن “لولا القرآن الكريم الذي لا بد أن يقرأه المسلم صباح مساء في صلاته، ولا بد أن يحفظ بعض آياته وسوره لتتم صلاته، لاقتلع الاستعمار الحديث لغة القرآن وتعاليم القرآن من جذورها، ولأصبح المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها مسلمين جغرافيين لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، بينما هم في حقيقتهم يعملون بغير ما أمر به الإسلام”، ثم يسرد المفكر محمود شيت خطاب  أدلة تاريخية لتذكرنا بأيامنا الحوالك، في مقاله القيم “الاستعمار الفكري” الذي نشرته مجلة ” المسلمون ” المجلد التاسع العدد الثالث، الصادرة عن “المركز الاسلامي بجنيف” منذ أزيد من نصف قرن، فيقول رحمه الله :

– في الهند والباكستان مثلًا، بذل الإنكليز قصارى جهدهم لإحلال الثقافة الغربية في محل الثقافة الإسلامية، ولكن نجاحهم لم يكن حاسمًا، إذ رأيت الكبير والصغير من المسلمين حين زرت الباكستان والهند في العام المنصرم يحفظون كثيرًا من آيات القرآن عن ظهر قلب

– وفي شمالي إفريقيا، بذل الفرنسيون كل جهودهم لإحلال لغة الفرنسيين محل لغة القرآن، ولكن نجاحهم اصطدم بعقبة كأداء وهي بذل علماء المسلمين أقصى جهودهم لتعليم لغة القرآن وتعاليم القرآن

– وفي تركستان وأوزبكستان والقوقاز، بذل الشيوعيون جهودًا جبارة قتلًا وسحلًا وتعذيبًا ومحاربة في الرزق، ولكن القرآن كان أقوى من جهودهم كلها، ولا يزال القرآن هو الحارس الأمين للمسلمين هناك

انهارت كل أسلحة الغرب والشرق، أمام سلاح الإسلام الأوحد ومعجزته الكبرى “القرآن الكريم

لقد انهارت كل أسلحة الغرب والشرق وكل جهودهم وكل محاولاتهم، أمام سلاح الإسلام الأوحد ومعجزته الكبرى: القرآن، وصدق الله العظيم القائل في سورة الحجر:

الر تِلكَ آياتُ الكِتابِ وَقُرآنٍ مُبينٍ ﴿١﴾ رُبَما يَوَدُّ الَّذينَ كَفَروا لَو كانوا مُسلِمينَ ﴿٢﴾ ذَرهُم يَأكُلوا وَيَتَمَتَّعوا وَيُلهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوفَ يَعلَمونَ ﴿٣﴾ وَما أَهلَكنا مِن قَريَةٍ إِلّا وَلَها كِتابٌ مَعلومٌ ﴿٤﴾ .. إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ ﴿٩﴾

مستنتجا بقوله، رحمه الله: “إذا كان الاستعمار الفكري نجاحه محدودًا في زعزعة المسلمين عن دينهم بفضل القرآن، فإن هذا الاستعمار كان نجاحه ساحقًا في مجالات أخرى”، و لا حول و لا قوة إلا بالله، فما أشبه اليوم بالبارحة.. !!

مراجع و هوامش:

– كتاب “من يحكم العالم؟” لعالم اللغويات والمفكر الأميركي اليهودي المنصف نعوم تشومسكي، عام 2016

– “أسياد البشرية” في كتاب “ثروة الأمم”، لآدم سميث، عام 1776

– “الاستعمار الفكري” للمفكر الملهم محمود شيت خطاب،  مجلة ” المسلمون ” المجلد 9 العدد الثالث  سنة 1965