وجهة نظر

250 مليون سنتيم !

هذه ال”250 مليون سنتيم” الواردة في العنوان أعلاه، ليست قيمة سيارة فارهة لوزير أو “فيلا” لرئيس جماعة ترابية ولا هي ميزانية مشروع تنموي بمنطقة قروية يعود على أهلها بالخير العميم. وإنما هي كلفة إنشاء موقع إلكتروني لا تتعدى قيمته الحقيقية “30 مليون سنتيم” على أبعد تقدير وفق تقييم مختصين في المجال، حسب ما تناقلته قصاصات الأخبار ومنصات التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الأخير من شهر يونيو 2020، وليس صاحب “المشروع” سوى رشيد الطالبي العلمي القيادي في حزب التجمع الوطني للأحرار، قبل إعفائه من منصبه وزيرا لقطاع الشباب والرياضة في التعديل الحكومي الشامل لشهر أكتوبر 2019.

تلكم هي الفضيحة المدوية التي كشف عنها موقع الحزب المعارض الحامل لرمز “التراكتور” الأصالة والمعاصرة، مبرزا أنها تندرج ضمن خلاصات تقرير صادر عن المفتشية العامة للمالية، التي وقفت على عدة اختلالات أخرى مرتبطة بعدم احترام مسطرة الصفقات العمومية، وتنازل “الوزير” عن صلاحيات وزارته في ما أبرمته من اتفاقيات مع الجامعة الوطنية للتخييم خلال عام 2019، خارج الضوابط القانونية المعمول بها.

إذ شدد عبد اللطيف وهبي الأمين العام الحالي لحزب “التراكتور” على عزمه الأكيد في التنسيق مع قيادات أحزاب المعارضة، بهدف تقديم ملتمس يخص تشكيل لجنة برلمانية يعهد إليها بمهمة تقصي الحقائق في ما أسماه “فضائح وزير الشباب والرياضة السابق رشيد الطالبي العلمي”، والقيام بالتدقيق في كل ما له صلة مباشرة بالوزارة من مشاريع وطلبات عروض وصفقات وأوجه صرف الميزانيات المرصودة خلال فترة تحمله مسؤولية تسييرها، معتبرا أن حرمة المال العام خط أحمر لا يمكن التهاون في مراقبته أو السماح بتبديده دون موجب حق…

وكان بودنا أن يمتد طلب تكوين لجنة تقصي الحقاق إلى كافة الأحزاب عوض الاقتصار فقط على أحزاب المعارضة، بعيدا عن المزايدات السياسوية والحملات الانتخابية السابقة لأوانها، مادامت المسألة تتعلق بفضيحة من العيار الثقيل تهم الإخلال بالواجب والمس بالمال العام. ومع ذلك لا يسعنا إلا استحسان مثل هذه الخطوة الجريئة، وندعو إلى تكثيف الجهود في اتجاه الوقوف على جميع الملابسات وإبراز الحقيقة كاملة للرأي العام، والحرص على أن لا يلقى التقرير نفس مصير تقارير اللجن السابقة، التي ظلت حبيسة الرفوف. إذ من غير المقبول أن تتقدم بلادنا على مستوى التشريع وتظل القوانين عاجزة عن ردع المفسدين، وعدم إخضاع المسؤولين العموميين للمحاسبة على حصيلة أعمالهم المنجزة خلال تقلدهم المسؤولية.

فالمتهم هنا ليس وزيرا سابقا وحسب، بل كان أيضا رئيسا لمجلس النواب، وسبق للمحكمة الإدارية بالرباط أن أدانته ابتدائيا خلال يناير 2017 في قضية “التهرب الضريبي”، وامتناعه عن أداء مستحقات الخرينة العامة المقدرة بحوالي مليار و200 مليون سنتيم عن شركة في ملكيته. إذ رغم دخول مصالح الضرائب معه في تسوية، استفاد بموجبها من تخفيض بلغ 400 مليون سنتيم، فإنه بقي متشبثا برفض تبرئة ذمته بدعوى التقادم، في الوقت الذي كان يتعين عليه أن يكون قدوة في الاستقامة والنزاهة.

ولا نعلم كيف سيكون رد فعل رئيس الحكومة سعد الدين العثماني تجاه هذه الفضيحة الجديدة، وهو الذي لم يقبل يوما انتقادات مستشارين في الغرفة الثانية بخصوص تفاقم مظاهر الفساد في البلاد، حيث أنه دعاهم إلى التوقف عن “جلد الذات” والتعامل مع الظاهرة بموضوعية دون تهويل ولا تهوين. ناسيا أن تولي حزبه قيادة الحكومة جاء إثر رفعه شعار “إسقاط الفساد” إبان انتخابات في 25 نونبر 2011. فأين نحن من الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد، والرفع من منسوب الشفافية والنزاهة، إذا كان “حاميها” هو نفسه “حراميها”؟

نعم هناك جهود تبذل وهناك استراتيجية وطنية أنفق من أجلها ميزانية ضخمة، لكن وتيرة الفساد في ارتفاع متواصل، حيث أن التقارير الوطنية والدولية لم تفتأ تدق ناقوس الخطر، بعد أن تحول الفساد إلى معضلة مقلقة تحول دون تحقيق أي تقدم أو إقلاع اقتصادي، أمام صمت الجهات المسؤولة وتورط بعض كبار المسؤولين، ولا أدل على ذلك أكثر من أن بلادنا باتت تعيش وضعية فساد عام وخطير، مؤسس وبنيوي على عدة مستويات، منها التعمير والصفقات العمومية في الهيئات الرسمية، وانتشار اقتصاد الريع في كافة الميادين، كما تشهد بذلك تقارير تقييم الشفافية وإدراك الفساد… ثم إن تقارير المجلس الأعلى السنوية لا تخلو من قضايا فساد فظيعة، لكن الشرطة والقضاء مازالا يتلكآن ويماطلان في تفعيل الملاحقة القضائية، مما أفقد المغاربة الثقة في المؤسسات وقدرة الحكومة على مكافحة الفساد، الذي أمسى من أكبر المعيقات في التطور والتنمية. فأين نحن من ربط المسؤولية بالمحاسبة المنصوص عليه دستوريا؟

إن معضلة الفساد تكلف البلاد حوالي 5 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، وهو ما يعادل 50 مليار درهم سنويا. وأن الرشوة والتلاعب في الصفقات العمومية تستنزفان حوالي 27 مليار درهم، حسب أحد تقارير الجمعية المغربية لحماية المال العام، التي حذرت في عدة مناسبات من مغبة تواصل التطبيع مع الفساد وسيادة الإفلات من العقاب، ونبهت في بيان لها أن أي نموذج تنموي جديد مهما كانت مواصفاته ومخرجاته، لن يكون مجديا ما لم يتم القطع مع الفساد والمفسدين وتفشي الرشوة واقتصاد الريع وربط المسؤولية بالمحاسبة. فهل تكون “محاكمة” رشيد الطالبي العلمي انطلاقة حقيقية نحو التغيير المأمول؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *