وجهة نظر

أمة اقرأ لا تفهم

لكم صارت لدينا متداولة ومألوفة عبارة “أمة إقرأ لا تقرأ” حيث يتخذها الغالبية أداة نفي فعل القراءة عن أمة نزل فيها قول الله جل وعلا: “اقرأ باسم ربك الذي خلق…”، كون هذا الفعل كان في ما مضى عادة كادت تبلغ منزلة العبادة فتضاءلت، ولإن تتبعنا اليوم عدد المجموعات والصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي والمبادرات المساهمة في محاولة تنمية فعل القراءة وحجم المشاركين فيها الذي يرتفع بشكل ملحوظ ناهيك عن من دأبوا على مشاركة متتبعيهم على حساباتهم كتبهم المفضلة وما نال منها من حظ القراءة، والمعارض الوطنية والدولية للكتب وما تزخر به من أروقة تُتَبادل فيها التعليقات والآراء بخصوص كتب معروضة، لجعلنا العبارة محط تشكيك، ولتساءلنا : “هل فعلا أمة اقرأ لا تقرأ؟”، والجواب هنا يقتضي البحث في مدى تأثير فعل القراءة على القارئ ومحيطه. والمقارنة بين قارئ الأمس واليوم و منه تتبادر إلى أذهاننا أسئلة أخرى من قبيل: ماذا يقرأون؟ ولماذا؟ وكيف؟

عند النظر إلى فعل القراءة لدى عظماء الفكر والفلسفة والعلوم…سالفا سواء من العرب أو الغرب سنجده فعلا منتجا مساهما في التغيير الذاتي والمجتمعي بل والأممي كذلك، فعلا يتأسس على فهم المقروء وتفكيك المركب وتحليل المبهم واخضاع الأفكار المستنبطة للنقد العقلاني، فجلهم يقرأون دون تمييز أو تصنيف للمقروء سعيا لاكتشاف ما تجود به العقول، مؤمنين بأن كل كتاب لابد وأن يجود عقل صاحبه بفكرة ما توخز عقله لتوقظ تفكيره، حتى تجد القارئ بذلك قد أنتج أفكارا خالصة له من قراءاته المتعددة الناقدة الفاهمة التي أبى أن يفصل واقعه وخصوصياته عن مجرى الخوض فيها ، جاعلا مما يقرأه أداة استنارة لعقله فيشتغل بما يتلاءم ومتطلبات الاشكالات المجتمعية التي يعاصرها، فيكون بذلك مساهما في حلها أو خلق تغيير بها، كفلاسفة وعلماء النهضة الاسلامية وعصر الأنوار نموذجا.، .لكن هل قارئ اليوم يحدو حدو أسلافه؟

إن تأمل فعل القراءة اليوم وأثاره على القارئ ومحيطه، تجعلنا نخلص إلى كونها فعل استهلاك مع بعض الاستثناءات، فعلا يراد بها الظهور بمظهر مثقف يقتبس أقوالا وأفكارا وتصورات من كتاب أو ذاك دون أن تترآى لنا أي ثقافة أو وعي تام تسود المجتمع، استهلاك لما أنتج من أفكار السلف واجترارها في أي مناسبة سانحة للنيل من آراء المخالفين في محاولة لعرض الرصيد المعرفي والثقافي، أو استعمالها كحبر أقلام تخط في غير محلها ولغير أهلها، دون أن تسهم في خلق تغيير على مستوى ذات القارئ أو محيطه ومجتمعه، فيكون بذلك ذاتا واعية بدورها التثقيفي والتوعوي والإصلاحي للإسهام في خلق مجتمع ينهض من انحطاطه وينفض غبار رجعيته وتخلفه ليبلغ اصلاحات تعلي من قيمة الفرد والمجتمع عبر جعل الاشكالات المجتمعية مثار اهتمامه ومحط تفكيره، محاولا فهم واستيعاب ما يقرأ متجاوزا عملية الهضم الميكانيكية التي تتم بلا إدراك للمادة المهضومة كما دأب عليها المتمدرسون و“حفاظ الكتاتيب”، ومن ثم انتاج أفكار تتناسب ومتطلبات الوضعيات و الاشكالات الآنية. الأمر لا يقتصر فحسب على قراءة الكتب.

فحتى القرآن الكريم لم يسلم من القراءات السطحية التي يغيب عنها في الغالب الأعم التدبر والتفكر في الآيات لحسن إدراك معانيها وفهم مغازيها، ما قد يخرج آيات بفعل تأويلات “الهوى” عن سياقاتها وغاياتها وادراجها في معارك مذاهبية وايديولوجية لا تخدم قيام الأمة من سباتها في شيء، فالأزمة التي أضحت تتخبط فيها الأمة والمجتمعات العربية والاسلامية خاصة هي أزمة الفهم، تتعدى فيه فهم المقروء إلى فهم المتعين والمأمول، وإرادة الفهم هي الأهم.

فـ“الكبار” حين يقرأون ينتجون أفكارا، وحين يقرأ “الصغار” يستهلكونها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *