وجهة نظر

الصفة الوظيفية والاحتماء بالسلطة

رصد الظاهرة

نصادف في مقروءاتنا اليومية ، وبردهات مرافقنا الإدارية خاصة ، مسؤولين بصفات وظيفية جد حساسة ؛ يحرصون ـ أشد من حرصهم على طعامهم ـ على أن ترفق بأسمائهم ، ويتوقون إلى أن تنضاف لوثائق هوياتهم الثبوتية ، ومنهم من لا يتورع عن أن تأخذ صفته سطرا أو سطرين ويوشح بها صدره أو كتفه كنياشين أو ضوء عبور حتى لا يطاله لا قانون ولا مراقبة ولا متابعة . وإلى وقت قريب ؛ كنا نرى الزجاجات الواقية الأمامية لبعض السيارات تعج ببطاقات وهويات من هذه الحمولة ، تزدان أحيانا بخطوط حمراء وخضراء !

عينات من هذه الصفات الوظيفية

كلما دلفنا إلى دهاليز المؤسسات المركزية ومرافقها ، وقبل أن نلج إلى مكتب مسؤول ، إلا وداهمتنا نماذج من الصفات الوظيفية لهؤلاء ؛ تتوسط مكاتبهم بإطارات فضية ومذهبة ؛ تغنينا عن مشاهدة الملفات والأوراق والحواسيب التي تؤثث جوارها ، حتى ليخال الزائر أنه أمام مسؤول ؛ من العيار الثقيل ؛ اجتمعت بيده سلطات الحل والعقد ، والمتحكم في رقاب جيوش جرارة من الموظفين ؛ وحتى نقترب أكثر من هذه الظاهرة لسبر أغوارها ؛ نورد فيما يلي عينة منها :

* “… الرئيس المدير العام للإعلام الجماهيري المكلف بتدبير الاتصالات والمواقع الفضائية ” ؛
* “… مهندس الزراعة والبيطرة وعلاج المياه والأتربة ” ؛
* “… الرئيس المنسق العام لجباية الضرائب العامة ومراقبة الأملاك المخزنية ” ؛
* “… طبيب إخصائي في أمراض القلب والشرايين والدورة الدموية ” ؛
* “… طبيب عشاب إخصائي في أمراض النساء والتوليد والعادة الشهرية والتداوي بالحبة السوداء” ؛
* “… طبيب خبير في التحليل النفسي للمجتمع المغربي والعربي ” ؛
* “… طبيب جراح لكسور الدماغ وعظام الجمجمة ، معتمد لدى المحاكم الشرعية ” .

ملاحظات تشريعية

نلاحظ آنفا أن هناك مهام إدارية ومهنية ؛ مثقلة بإضافات غير واردة في أي منظومة تشريعية ؛ بيد أن أصحابها مزهوون بحملها ، لما تنطوي عليها من قوة سلطوية أو معرفية ؛ لا يكاد يوجد لها نظير في المجتمع ، فيحتمون وراء بريقها ؛ إما لتحميهم من سلطة القانون أو تمنحهم لمعانا في سوق الشغل ، أو بالأحرى هي قوة جاذبية لاستقطاب الزبناء ، كما الحال عند الأطباء خاصة .

فما زالت هناك أجيال إدارية تعيش بيننا ، تحس بتراتبية السلطة ووقعها في آذان المسؤولين وأفراد المجتمع عامة ؛ مثال هذه الصفة الوظيفية “… الرئيس المنسق العام لجباية الضرائب العامة ومراقبة الأملاك المخزنية ” ؛ التي يخالها المرء أن حاملها يتحكم في ممتلكات الناس ومستتبعاتها ، وكلها تصب في محيط هذا المسؤول المتحكم في روافد حساسة ؛ تجمع بين التنسيق والجبايات والضرائب والمراقبة والأملاك ، وصديق للمخزن .

أما أصحاب المهن ذات العناوين البراقة ، فهي بالكاد ماركيتينغ Marketing لتسويق منتوج معين ؛ مثال هذه الصفة المهنية ” … طبيب عشاب إخصائي في أمراض النساء والتوليد والعادة الشهرية والتداوي بالحبة السوداء ” ، وقراءة لوحة ؛ على هذه الشاكلة على باب “عيادة” بعمارة سكنية ؛ يولد لدى المشاهد والزائر معا أهمية “الحبة السوداء” كإكسير الحياة في علاج كثير من الأمراض المستعصية ، مع أن مدلول اللوحة ؛ في عمقه ؛ يمكن أن يكون مرادفا للتحايل على المواطن واستغلالا لسذاجته وثقافته العامية .

عينة من الصفات الإدارية التي طالها الصراع

نقتصر ؛ فيما يلي ؛ على ذكر حالات لصفات وظيفية إدارية ؛ طالها الصراع النقابي مع الحكومة ، ويهم الأمر أولا صفة “المرشد التربوي” التي وردت في مشروع إعادة هيكلة التشريع الإداري التربوي ، والتي تنص ـ على أن هذه الصفة ـ من اختصاص المسؤول الأول على رأس كل مؤسسة تعليمية ؛ في التعليم الأساسي والإعدادي والتأهيلي ؛ إلا أن النقابات التعليمية ؛ وبنظرة مسطحة ومتعجرفة ؛ رأت في هذه الصفة “المرشد التربوي” تبخيسا “وإجهازا” على حقوق “الشغيلة التعليمية” ، وبقيت مصرة على صفة “مدير” ، وهكذا رضخت الحكومة للمنظور السلطوي النقابي ، فأبقت على صفة المدير بدلا من “المرشد التربوي” ، وكذلك جرى الأمر بالنسبة لصفة “معلم” وتحويله إلى صفة “أستاذ” !

البطاقة الوطنية والهوية

عاصرت وثيقة البطاقة الوطنية أجيالا إدارية عديدة ؛ كانت حاملة الصفة المهنية لصاحبها ؛ تبدأ بخمس كلمات وتنتهي بكلمة واحدة “بدون” ، ثم انتقلت في الجيل الماضي أن خضعت إلى الحصر بين موظف ؛ مستخدم ؛ ومقاول ؛ وعاطل ، لكنها ما لبثت أن اختفت في الجيل الإداري الحالي ، ولم يعد هناك ما يشير إلى “مهنة” حاملها ؛ وزيرا كان أو مستخدما ، وهو ما أثار حنق وغضب شريحة كبيرة من المواطنين الذين ألفوا الاحتماء بالصفات المهنية ذات الوقع السلطوي في النفوس ، والتي منحت لهم امتيازات كبيرة ، عدا الضوء الأخضر الذي لازمهم في صولاتهم وجولاتهم .

وبإيجاز …

مر المواطنون المغاربة بعقود ؛ صادفوا خلالها أو انتقلت إليهم عبر النظم التربوية ؛ قيما سلطوية تراتبية ؛ اجتمعت بيد الأب أو المسؤول ، وهكذا ؛ مع مر الأزمنة ؛ صارت صفة ملازمة لهذا المواطن ، وأصبح التحكم في الآخر أو “الخضوع” لأوامر الرئيس وتعليماته أمرا لا مندوحة عنه . لكن ؛ وكيفما كانت هذه الصفات الوظيفية /المهنية ، ودفعا لكل احتيال أو انتحال صفة سلطوية أو مهنية ما ؛ أصبح من الضروري إعادة تقنينها لتنحصر في كلمة أو ثلاثة مدعمة بتشريع زاجر لكل من يتقمصها أو ينتحلها خارج حدودها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *