منتدى العمق

الواقع المهترئ للصحافة الجهوية وانعكاسه السلبي على خريجي شعبة الإعلام

وأنت طفل .. يسألونك ما الشخص الذي تريد أن تكونه عندما تكبر؟ وببراءة لا متناهية تطلق العنان لمخيلتك، وتفصح عن المهنة الأحب إلى قلبك، تقول مثلا: أريد أن أصبح صحافيا..! وفعلا تعمل من أجل ذلك، بعد أن يكون هذا الطموح قد تنامى يوما بعد يوم في نفسك، وبعد أن تكون قد تغذيت على نماذج صادفتها في جهاز تلفاز بيتك أو في جريدة أصرت على الاصطدام بقدمك وأنت ماض في حال سبيلك… نماذج تعزز رغبتك في الظفر بهذا الحلم.

تشق طريقك نحو حلمك، وتدرس خطواتك جيدا، كأن تهتم أكثر باللغات، تحاول جاهدا تحسين أسلوبك، وتسير في طريق بناء شخصيتك الواعدة بأن تصبح صحافيا ذا وزن، وصاحب صيت مأثور.

من حسنات حظك، يتصادف وجود شعبة تدرس الإعلام في مدينتك، صوت ما بداخلك يقول هذا قدرك يبحث وإياك عن سبل تحقيق ذلك الحلم، حلمك..! تكافح من أجل الولوج إلى تلك الشعبة، التي ليست بالمتاحة للجميع، وبإصرار كبير تنتزع مقعدا لك من بين طلبة لا يتعدى مجموعهم الثلاثين. وعند الشروع في تلقي المعرفة الكفيلة بإدخالك سوق الشغل الذي ترنو إليه، تستفيق من نومك ساعتين قبل موعد المحاضرة، تركب حافلتين، تمضي، تدرس، تسهر الليالي، تنفق من طاقتك ومن مالك الكثير، تواجهك عقبات، تتجاوزها بعزم وإصرار، ولا تتخلى! إلى أن تتخرج، وكلك أمل في أن تجد لنفسك موطئ قدم وسط هذا الكم الهائل من زملاء المجال، لكن ثقتك في نفسك، ورضاك عن الحصيلة التي استجمعتها طيلة سنوات دراستك تثلج صدرك، وتعزز من شحنة إرادتك، وعمق رغبتك في الوصول، إلى بر الأمان، كي تصير مناك حقيقة معاشة.

وفي ظل كل هذا وذاك، تخرج إلى الميدان، ميدانك الذي تنتمي إليه، ذلك أن الفرد يرغب دوما في الانطلاق من واقعه المعيش، لينفض الغبار عن القضايا التي يشهدها محيطه، والتي تشكل بالنسبة إليه قضايا ذاتية أكثر منها قضايا مجتمعية، ذلك أن الفرد حينما يترعرع في بيئة معينة يجعلها أخت ذاته، ويجعل من همها همه، ولا يستطيع بأي شكل كان أن يغض الطرف عنها، ومحركه في ذلك نزعة انتمائه أكيد. بالعودة إلى حديثنا عن القطاع، قطاع الإعلام، وعلاقته بالصحافي أو الإعلامي الذي تخرج حديثا، فإن الواقع الجهوي الذي ننتمي إليه عموما (جهة فاس مكناس)، والواقع الإعلامي لمدينة فاس على وجه التخصيص يجعل الفرد خريج تخصص الإعلام عائما في حالة من الصدمة المنبثقة عن واقع بعيد كل البعد عن كل ما رسمه هذا الصحافي المتخرج حديثا في ذهنه، واقع يضم قطاعا لا يستجيب حتى لعرض ضئيل، عرض طلبات تدريب أكثر منها طلبات عمل، لذا يضطر الكثير من خريجي هذه الشعبة إلى مغادرة جهتهم الأم، وترك كل أحلام وآمال التطرق لمشاكل الجهة – على مختلف الأصعدة – معلقة على رهان انتعاش هذا القطاع ذات يوم، وتظل تلك الآمال آمالا مع وقف التنفيذ..! ويضطر هذا الشاب أو الشابة إلى الانطلاق نحو مصير مجهول في مدينة يجهل دروبها، ويجهل طباع أناسها، ويجهل حتى الكيفية والوسيلة التي سيعيش من خلالها في تلكم المدينة. هذا بالنسبة للشاب، أما هموم الشابة فتتضاعف في مجتمع يضيق الخناق عليها باستمرار، فمن المعيب بالنسبة لهذا المجتمع استقلال الأنثى بنفسها، وخوضها في مسار البحث عن ذاتها في مدينة لا تعرفها، مدينة تجدها موحشة في غياب أي كتف تستند عليه، وكما هو معلوم، فالتنشئة الاجتماعية التي تتلقاها إناثنا تجعل منها كيانا شبه عاجز، مقيد، من الصعب عليه خوض غمار التحدي والانطلاق في وجهة مجهولة، فلا الأب ولا الأم، ولا حتى الأخ، بل ولا الجار سيتقبل فكرة خروج الفتاة من مدينتها إلى مدينة أخرى سعيا منها إلى معانقة حلمها. وهذا موضوع آخر، يلزمه نقاش مستفيض، سنرجئه إلى مناسبة لاحقة.

حلم العمل بشكل عام في جهة فاس مكناس أمر صعب التحقق، والأمر يزداد صعوبة عندما نحدد مجال العمل في الحقل الإعلامي، فالمؤسسات الإعلامية ضئيلة جدا بهذه الجهة، وبالتالي فرص الشغل أكثر ضآلة، وهو الأمر الذي يحد من فيض طموح عدد كبير من الأفراد المنتمين إلى هذه الجهة.

عندما ظهرت الجهوية المتقدمة بالمملكة، استبشر الصحافيون خيرا بتنزيل أسس هذا التنظيم الهيكلي والإداري الرامي إلى تحقيق التوازن التنموي والاقتصادي بين الجهات التي تنتمي إلى الدولة المغربية، اعتقد الصحافيون أن هذا التنظيم من شأنه أن يوجه اهتمامه أكثر إلى هذه الجهة التي باتت من بين أكثر الجهات المظلومة على جميع المستويات والأصعدة، كما راودتهم حينها فكرة مفادها تدخل هذه الجهوية المتقدمة لخلق بعض التوازن بين الجهات الأكثر استقطابا للمشاريع التنموية من قبيل جهة الرباط وجهة البيضاء، لكن هذا ما لم يحدث أبدا، بل زادت حدة التهميش المتعرضة لها هذه الجهة، التي ما استمر وهجها السابق، وراح بريقها يتلاشى يوما بعد يوم.

بجهة فاس مكناس، المنابر الإعلامية على اختلاف أنواعها، ضئيلة جدا، مثلما أشرنا سابقا، وإصداراتها محدودة بشكل كبير، ذلك أن “جل” المنابر المأثورة بهذه الجهة، كما هو الشأن “تقريبا” بالنسبة لكافة الجهات، تلجأ إلى سلك أقصر الطرق ابتغاء تحقيق النجاح المرجو، الطريق الذي يقوم على اقتناص الفضائح، والنبش في أعراض الناس وعدم احترام خصوصية الأفراد والمجتمع، أي تغييب تام لأخلاقيات المهنة، فبتغاض كبير عن التطرق للقضايا الحقيقية، وبتمسك شديد بأشباه القضايا، لا يُلجأ إلى تعرية الواقع وتقريب المتلقي من هذا الواقع الذي ينتمي إليه، بل يتم جرفه نحو متاهات وغيابات التعتيم دون منحه حقه في الحصول على المعلومة وتلقي الرأي المعبر عن رأيه، والصوت النائب عن صوته.

منابر جهتنا تجعلك في حيرة من أمرك، بين أن تسلك نهج من سبقوك في التملص من أخلاقهم وأخلاق مهنتهم، وبالتالي النجاح السريع والجني الكثير والمثمر لمبالغ مالية هامة، انطلاقا من الشروع في تلميع صورة شخصيات معروفة لا تستحق تضمين أسمائها في مقال من المقالات فما بالك بالتنويه والتلميع، مع عدم تغطية الأحداث التي من شأنها أن تكشف عن ثغرات مجموعة من القطاعات، وتشي للجميع بالكثير من العيوب التي تسم سير عملها، هذا من جهة.

أما من جهة ثانية فيظل اختيار آخر في انتظار أصحاب المبادئ الذين يميلون إلى أن يصدقوا الله ما عاهدوه عليه عن طريق انتهاج الصدق، والامتناع عن الوقوف في صف الجهات المستبدة على حساب الجهات المستضعفة، وبالتالي يضطر هذا الصحافي إلى الاكتفاء بتداريب في مؤسسات تشق طريقها نحو النمو بشكل عصيب جدا، وتحمل هذا الشاب أو الشابة مشاقا كثيرة، تفقده كمّا كبيرا من حماسه الأول، ذلك أنه يضطر إلى الإنفاق من جيبه بدل أن يجني ثمار كده وجهده ليضعها في ذلك الجيب، بل والأدهى من كل ذلك، هو أن هذا الصحافي الذي ولج الميدان وكله أمل في تزكية وإغناء سيرته الذاتية قد يتعرض في مرات عديدات لعملية سلب لهذا الحق الطبيعي والمشروع، إذ قد يمتنع مديره عن تقديم شهادة تدريب كأدنى حق لهذا الصحافي، فيحس بأن الظروف ومديره في العمل تظافرا من أجل تعزيز الشعور بالإقصاء، وتسريب الإحباط إلى نفسه. لكن ورغم كل ما ذكر، أكيد الزمان يشهد للنبيل بنبله، ويسجل على الذليل انحطاطه ووضاعته، ومهما سار الحليم حيرانا، سيأتي عليه يوم يجني فيه ثمار ما زرع، وتعطي معاملاته الشريفة أكلها، ذات يوم، حتما!

في إطار حديثنا عن واقع الإعلام أو الصحافة الجهوية، لا يفوتنا أن نذكر أن هذه الأخيرة تقل فيها التكوينات الداعمة للشباب، والمعززة لكفاءاتهم، والمرسخة لما درسوه سابقا، والمفندة لدراستهم على أرض الواقع، بل وحتى التكوينات التي نجدها في الجهة، مادام حديثنا متبلورا بالأساس حولها، فهي تكوينات تستهدف إدرار الأرباح على أصحابها أكثر منه خدمة الراغبين في تلقي تلكم التكوينات، إذ أننا وطيلة سنتين من بحثنا عن تكوين يراعي الظروف المادية المهترئة لخريجي شعبة الإعلام، عدنا بخفي حنين، وباءت محاولاتنا الجادة في ذلكم البحث بالفشل، مما عمق من حجم الفجوة الكائنة بين طلاب المعهد المتواجد بالعاصمة وبين خريجي الشعبة بالمدينة العلمية، ذلك أن أولئكم الأولين يجدون الطريق معبدا أمام غالبيتهم، في حين يجد خريجو مدينتنا طريقا مليئا بالأشواك، وهو ما لا يخدم مبدأ تكافؤ الفرص الذي طالبت به الجهوية المتقدمة، ويظل مسؤولونا يطبلون ويغردون بهذا المبدأ كلما أتيحت لهم فرصة ذلك، وهو الشيء الذي نراه مجرد ضحك على الأذقان، ومحض حبر على ورق، لا يرقى إلى مستوى التفعيل الواقعي، فأين نحن من تكافؤ الفرص؟!

في الصدد ذاته، وغير بعيد عن كل ما انشغلنا بذكره في السابقات من الفقرات، تجدر الإشارة إلى أن جهة فاس مكناس تضم العديد من “المتطفلين” على الميدان، إنهم أناس ولجوا هذه المهنة دون أن يتلقوا تكوينا واحدا حول أبجدياتها حتى، يشتغلون دون أن يمتلكوا ولو مكتبا يمارسون فيه إعلامهم الجائر ذاك، والأكثر من ذلك أنهم يستقطبون شرائح اجتماعية عديدة، يعملون على طمس ما تبقى من هويتها، ويغذونها على المحتويات التافهة، كما يحرصون على توجيه أذواقها على نحو يخدم مآربهم الدنيئة، ومن تم جعل هؤلاء المتلقين “أصناما” مسلوبي الإرادة، مشدوهين أمام أخبار الفضائح، وأبصارهم شاخصة نحو المحتويات المنحطة، مع تحريضهم ضمنيا على البحث في الحياة الخاصة للناس، وتجاوز الأحداث الهامة للاهتمام بالأحداث غير المهمة، كأن يتم توجيه فكر المتلقي نحو الاهتمام بحياة ممثل مثلا، والخوض في مشاكله الشخصية، في الوقت الذي يتوجب على الإعلامي العمل على حث المتلقي على التخلي عن هكذا ممارسات شنيعة، والاهتمام فقط بما يقدمه هذا الممثل من رسائل، نتمسك بأرقاها، ونتغاضى عن أدناها.

في الأخير، لا يسعنا إلا أن نعبر عن رجائنا في تدخل الجهات المعنية للنهوض بهذا القطاع الهام جدا، هذا القطاع الذي يشكل صوت من لا صوت له، ومنبرا من خلاله يعبر الصحافي النزيه عن هموم مجتمعه، وآمال مختلف الشرائح الاجتماعية المكونة لهذا المجتمع، دون التحيز لجهة على حساب أخرى، ودون الانسياق في موجة الأقلام المأجورة، التي أضحت أقصى أمانيها تكديس الأموال والجني السريع، في مقابل طمس القيم والأخلاق التي إن هي غابت غاب المجتمع بمختلف شرائحه، ومن هذا المنطلق لا بأس من استحضار هذا البيت الشعري المأثور لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي يقول فيه: {وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا}.

* صحافية وباحثة في تحليل الخطاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *