وجهة نظر

التطاول على النبي بين الحظوظ النفسية واستدعاء التاريخ

بين الفينة والأخرى تنتهك الحرمات، ويستهزأ بالمقدسات، ويستخف بالنبي والشعائر. يقع ذلك كله تحت شعار حرية التعبير، ودعوات إلى نشر قيم التعايش والانفتاح، ونبذ الغلو والتطرف، وإعادة بناء المفاهيم بناء سليما يتماشى مع التحولات العالمية. وإن بدت العبارات في ظاهرها سالمة من النقد؛ لكنها من حيث القصد منحرفة عن سياقها ومعناها تنزيلا. ومن نتائج أزمة المفاهيم والتحريف الذي طالها؛ التطاول والاستخفاف بالمقدسات، وخدش المشاعر وصناعة الغباء المعرفي.

ليس جديدا أن يُسخر من النبي – صلى الله عليه وسلم – في العدوة الأخرى وغيرها عبر مسرحيات أو كلمات تنفث سما ناقعا، أو رسومات خطتها يد حاقد مشحون بنكبة تاريخ كله بكاء وعويل، وصراخ على عهد أفل ببزوغ شمس الرسالة المحمدية، ونكبة حلت بديار قوم طغوا وبغوا وحرّفوا.

الإنسان الغربي (الروم) الذي عاش حضارات تغنت بها الأسفار، وحول رسالة سماوية إلى صدام مع أخرى بسبب الهوى والحظوظ النفسية، وذوبان ما طالها من تحريف أمام الحضارة الإسلامية، وسقطت عواصمها وولاياتها أمام فئة قليلة في العدد، لكنها قوية بما تحمله من قيم تتماشى مع الفطرة الإنسانية السليمة؛ يرى أن الطريق الأسلم لاسترجاعها أو محاولة تناسي وقع الصدمة يبدأ بالسخرية ممن كان السبب في انهيارها وأفولها، لصرف الأنظار عن الحقيقة المستورة، ورسالة الله للعالمين.
وفي نظري ينحصر الحديث عن مقاربة هذه العاصفة والنار الموقدة فيما يلي:

1 – البعد السياسي.

كل سياسي رام الوصول إلى هدف؛ يعرض برنامجا يراه مقنعا لاستقطاب الأصوات، وتحقيق تطلعات الناخبين. كما أن السياسي الذي وصل إلى منصب حصل من خلاله على امتيازات لم تتحقق له في غيره؛ يحرص على إتمام المدة الممنوحة في بلاد تحترمها، وطريق ذلك تنفيذ البرنامج الانتخابي، وذلك بوعد الناخبين بتوفير فرص الشغل، والحد من الأزمات، والتخفيف من أثر مخلفات سلبية موروثة. لكن ماكرون أراد أن يرمي بفشله في معالجة أزمات عاشها في ولايته الأولى (أشهرها أزمة أصحاب السترات الصفراء) في شيء يمكن أن يحفظ به ما تبقى من أصوات شريحة أوصلته إلى سدة الحكم، ويعوض ما خسره باستقطاب أصوات أخرى، وقد لمس ذلك في اللعب على وتر الإسلام، واتهام من استنكر التطاول على شخص النبي المعظم بالتطرف، لأنه وسيلة لكسب أصوات اليمين المتطرف، عدو الإسلام والآخر.

2 – البعد التاريخي.

بولادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هبت رياح التغيير في عالم يموج بفتن وخرافات وجور وحيف، وسفك دماء بريئة ووأد البراءة. وعلى أساس الحضارة الإسلامية التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان فوق كل اعتبار، واحترام الآخر ومعتقداته، وضمان الحرية الدينية بنص كلام رب العالمين؛ بدأت حضارات أخرى في الأفول والتقهقهر، وسقطت عاصمة إمبراطورية الدولة البيزنطية ببشارة نبوية، وقد كان ذلك يوما منكوبا في تاريخ أروبا عموما. فبوفاة من أسقطها قرعت الأجراس في الكنائس فرحا وإظهارا لموقف استبطن شرا.

هذا التغيير الذي وقع في التاريخ بسبب رجل وقائد اسمه محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل هؤلاء يسلكون هذا المسلك لما يلي:

أ – حجب الحقيقة عن شعوبهم البعيدة عن شحنات تاريخية وأهداف سياسية.

ب – إبداء العداوة الأبدية وعدم إمكانية التقارب بين المسيحية المحرفة والإسلام بين الفينة والأخرى، من طرف فئات تتبنى هذا الطرح وتصر على الاستماتة في الدفاع عنه.

ج – إثبات أن سنة التدافع قائمة، وإن تمّ رفع شعار حرية التعبير والتدين واحترام الآخر.

د – الحد من ظاهرة انتشار الإسلام ودور العبادة واعتبارها خطرا على قيم ومستقبل بلاد ما وراء البحر الأبيض المتوسط.

3 – البعد التعاملي مع العاصفة.

الأنبياء والرسل من أسس العقيدة الإسلامية ومرتكزاتها، وأحد أركان الإيمان الستة التي تواتر الحديث عنها في نصوص قطعية صريحة. فلا فرق بين النبي عيسى وموسى ومحمد عليهم السلام عند أتباع الديانة المحمدية عموما، فمن أنكر نبوة عيسى عليه السلام كمن أنكر نبوة محمد عليه السلام، هذا موقف المسلم فيما يتعلق بالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما يجب عليه أن يعتقده في حقهم، عملا بقوله تعالى:” لا نفرق بين أحد من رسله”.

ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم بناء على ما سبق واجب شرعي، والذب عنه وعن أهل بيته الأطهار أمر رباني، وعبادة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى، لكن المسلك الأنسب، والطريقة القويمة في تحقيق ذلك يجب أن تنضبط بالشرع، وبما يحقق الزجر والنكوص، وعدم التطاول والتمادي في الغيّ، وخدش المشاعر واستفزاز المؤمنين، بعيدا عن الحماس والزائد، وردة فعل طائشة، وشعارات سرعان ما تذوب بذوبات العاطفة الجياشة، وإن كان القصد حسنا.

والوسيلة الأسلم والأنسب في الظرفية الحالية هي المقاطعة، وقد نادت بها شرائح في مختلف بلاد الإسلام، وأصبحت حدث الإعلام ليل نهار، ودُفعت وزارة الخارجية الفرنسية إلى استنكارها. إنها رسالة سلمية ممن عرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، وأدرك واجبه تجاهه حسب المستطاع وما يناسب الوقت، بعيدا عن المظاهرات ورفع الشعارات، لأن الساخر ما سخر إلا بعد معرفته مكانة من سخر منه في قلوب أتباعه.

وقد يظن البعض أن الاستهزاء بالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر لا يستوجب الاستنكار، لأنه لا ينقص من قدره ومكانته شيئا، هذه سفسطة ومغالطة معرفية، لأن التطاول على النبي المعظم وسيلة لهدم المقدسات، وطريق لإسقاط الهيبة، وعدم احترام مشاعر حشود هائلة من أتباعه ومن يهتدي بهديه، ويعتبره قدوته بلا امتراء، ورمزا مقدسا لا يقبل النقد، لأنه معصوم من الخطأ كما ورد في القرءان العظيم، ولأن السخرية فتح باب الفوضى والتسيب، وكسر الحواجز، وطريق ردة فعل قد لا تحمد عقباها، واعتداء على مشاعر الآخر، وهم الأتباع المسلمون، وعليه تنتهي حرية التعبير أمام هذا الأمر الذي يحسبه البعض هينا؛ وهو عند فئة عظيم لا يقبل النقاش.

هذه كلمات حاولت من خلالها تقريب ما بدا لي دافعا لكسر قيم التعايش واحترام الآخر، باعثها البيان، ومحاولة الإسهام، ودعوة لكشف أثر البعثة المحمدية على من ادعوا اتباع عيسى وموسى عليهما السلام، من خاطبهم الله بقوله:” قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله”.

وخير ما أختم به هذه الكلمات قوله تعالى:” إن الذين يوذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاخرة وأعد لهم عذابا مهينا”.

وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

*أستاذ باحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *