وجهة نظر

قيادي سابق بالبوليساريو يروي مشهدا مؤثرا لحرمانه من وداع والدته الراحلة بسبب رأيه

* مصطفى سملى

وتريدون مني أن أصمت.. رجاء اسمحوا لي أن أتنفس

واصلت رحلتي شمالا إلى بادية “أم اشكاك” غرب “بير أم اغرين” على خط التماس مع حدود الجبهة، ولا يبعدنا “امهيريز” حيث تسكن والدتي بأكثر من 100 كلم. نزلت عند خالي سيد أحمد بندار. وعنده وصلتني رسالة أن والدتي ستأتينا في الغد، حيث نحن داخل الأراضي الموريتانية.

توقعت أن سبب مجيء الوالدة إلي، بدل انتظاري، أنها ستكون محملة برسالة الجبهة الأخيرة.

وصلت الوالدة وخالي بوزيد الذي يكبرها سنا. أمضينا يوما وليلة، وكانا يحملان رسالتين: واحدة مكشوفة كما الرسائل السابقة، والأخرى مبطنة وغير أخلاقية. فقد جاء أحدهم وأتحفظ عن ذكر اسمه، لأني ابتداءً من هذا الجزء سأبدأ بذكر الأسماء، حتى يتسنى لإخواني في المخيمات التحقق من كل ما سأورده في حكايتي.

والدتي التي وجدت نفسها كما أبنائي محاطة بجو مشحون من العدائية والتحريض العلني والهمز واللمز ضد ابنها، اختارت كما هو دأبها أن تلتجأ إلى الله وتقابل كل ما تسمع وتشاهد وتعيش من سلوكات عدائية بالصمت وعدم التعليق.

كانت متيقنة من شيء واحد أنها تعرف ابنها الذي ربته على يديها، وبأنه إن لم يكن يحمل خيرا فبالتأكيد لن يكون شرا. فالشر ليس من طبعه أصلا.

قلت، والدتي جاءتني مرعوبة من هول ما قيل لها أنه سيحصل لي، ولا يحول بيني وبينه غير أن تطأ قدمي حدود المناطق الصحراوية شرق الحزام من أي مكان. أو أن أحاول دخول المخيمات.

سألت والدتي هل لاحظت أي تغيير في طبعي أو سلوكاتي، هل لاحظت دبابة أو جيش معي منذ وصولها. لم تلاحظ أي شي.. ما زلت أنا.. أنا ابنها الساذج الذي غالبا ما تنعته بأنه بلا عقل.

كان أصعب لقاء مررت به هو ذاك اللقاء، فعندما ترى والدتك مرتعبة خشية عليك مما سيصيبك، وليس بيدك ما تخفف عنها تكون في موقف حرج.

أخذت والدتي إلى خارج الخيمة، وكمن لا يعرف المنطقة طلبت منها أن تسمي لي الجبال والوديان التي تتراءى أمامنا حتى جبال “ارغيوة”، ضحكت المسكينة، وقالت لي: “أتحسبني ازددت بالأمس، وبدأت كمن يريد التفاخر بأنه ابن البلدة، تسمي ما بيننا وبين امهيريز”.

كالمتعجب سألتها: كيف تعرفين كل هذه الأسماء؟. فبدت كمن لاح أمامه شريط حياته من يوم ولادته حتى اللحظة التي نقف فيها. وعادت لتسمي الجبال والوديان والشجر والحجر، مع تاريخها فيه. هناك ازداد فلان وهناك تزوج فلان وهناك نزلنا عام كذا وهناك فعلنا كذا وكذا.. دون أن تدري لماذا أجرها؟ ودون أن أسالها قالت لي: كيف تسألني عن مكان ولادتك وولادة إخوتك؟، فمثلك يحفظ كل هذه الأسماء فهذه أرضك وأرض أبيك وجدك.

هنا سألت والدتي: هل يحق لأي أحد في العالم بعد ما قلته للتو، أن يمنعني من دخول امهيريز؟

هل السمارة التي فيها والدي هي المحتلة؟ أم امهيريز الذي أنت فيه هو المحتل؟

هل المغرب هو من شردنا من أرضنا، أم هؤلاء الذين يريدون أن يشردوني الآن من أرضي؟

بالأمس اختطفونا من السمارة وقتلوا منا من قتلوا وفرقونا عن والدنا. واليوم يعيدون الكرة من جديد.. بالأمس فرقوني عن والدي واليوم يعيدون نفس الكرة.. وعن من سيفرقوني؟ عنك أنت! وعن أبنائي محمد والمهدي وسلمة والحافظ ومريم التي لم أرها بعد، كما فعلوا مع والدي منذ سنين حينما اختطفوك أنت وأنا ومحمد الشيخ وفالة والحافظ ومحمد الأمين الذي لم يره بعد لأنه ازداد في المخيمات.. من لك ولهم بعد الله غيري؟ و من لي من بعدكم.. آ السجن أحب إلي مما يدعونني إيه.. أكون في سجن أو قبر في امهيريز، تزورينني فيه أرحم من ما يريدون مني. أين سأذهب أنا الآن؟.. و عن من سأذهب؟. عن والدتي وأطفالي وأنا البكر!

الدمع الذي لم أذرفه وقتها خشية على والدتي ها أنذا أذرفه الآن بعد أن رحلت إلى دار البقاء دون أن أودعها.. لأن الجبهة أبعدتني عن أمي وأبي وكل ماهو عزيز علي.. لأني تكلمت..

وتريدون مني أن أصمت.. رجاء اسمحوا لي أن أتنفس.

…وللحكاية بقية…

الصورة المرفقة كانت لآخر مرة رأيت فيها والدتي في منفاي منذ سنوات..

* مصطفى سملى ولد سيدي مولود / قائد شرطة جبهة البوليساريو سابقا – يعيش في منفاه بموريتانيا منذ 10 سنوات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *