وجهة نظر

هل ستسرع “كورونا” تنزيل الجهوية المتقدمة بالمغرب أم ستؤجله؟

لم يعد خاف على الإنسان العادي مثل المختص، الوقع القوي لجائحة كورونا على الاقتصاد والمجتمع في كل بلد من بلدان العالم. وبالنسبة لنا في المغرب، فإن سؤال الساعة الذي يتعين طرحه قبل فوات الأوان هو: هل ستسرع ” كورونا ” تنزيل الجهوية المتقدمة ببلدنا، أم ستؤجله، ويصبح هذا الورش الوطني في خبر كان؟
يوحي التمعن في وجهات نظر الخبراء والباحثين في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام التي يقدمونها بمختلف وسائل الإعلام السمعي والبصري والمكتوب حول تأثيرات جائحة كورونا وتبعاتها في المستقبل على مختلف الأصعدة، أن هناك تصورين واضحين يتعين التأمل فيهما. ولكن ذلك لا يمنع من التمعن في كل رأي يفيد في هذا الشأن.

يرى أصحاب التصور الأول، أنه لن يتم تنزيل الجهوية المتقدمة ببلدنا في القريب المنظور. وتتجلى دفوعاتهم عن هذا الموقف في أن تأثيرات جائحة كورونا قوية جدا، على مالية الدولة ومالية الجماعات الترابية بما فيها من جهات وعمالات وأقاليم وجماعات. فهذه الجائحة، أدت منذ بدايتها إلى فقدان التوازن المالي لكل هذه المؤسسات بما فيها مؤسسة الدولة.

وحسبهم، فتدخل الدولة كبير منذ بداية الجائحة، وكأننا نعود إلى مرحلة المركزية، حيث يتضح ذلك من خلال القراءة المتمعنة في المرسوم بقانون رقم 292.20.2 المؤرخ في 23 مارس 2020 المتعلق بسن حالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، والذي ينص صراحة على أن الحكومة تتخذ، في مرحلة الاستعجال، كل التدابير الضرورية لتدبير هذه الوضعية الاستعجالية بواسطة المراسيم والقرارات الإدارية والدوريات والمناشير.، والمرسوم رقم 293.20.2 المؤرخ في 24 مارس 2020 بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا – كوفيد 19، الذي ينص في مادته الثالثة على أنه ” على الرغم من جميع الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، تقوم الحكومة، خلال فترة إعلان حالة الطوارئ ، باتخاذ جميع التدبير اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة، وذلك بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات، من أجل التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض، وتعبئة الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم (…)”.

كما توصلت الجهات وباقي الجماعات الترابية بمجموعة من الدوريات الوزارية والمناشير الصادرة من الحكومة حول التدبير الأمثل للنفقات، وهي كلها تدعو رؤساء الجهات وباقي الجماعات الترابية إلى اعتماد ميزانيات ” التقشف ” حيث يتعين تعليق وتأجيل الالتزام بالنفقات غير الضرورية في الوقت الراهن. لكن مع ضمان تنفيذ النفقات الإجبارية وتلك المتعلقة بمواجهة هذه الجائحة وآثارها.

وتم الإذن لهؤلاء الرؤساء بإجراء تعديلات على ميزانياتهم عند الاقتضاء دون تداول مجالسهم. وتمت الدعوة إلى اتخاذ مجموعة من التدابير الوقائية مثل: اعتماد الإدارة الالكترونية كأحد أنماط الإدارة المعاصرة لما يتوفر عليه من سرعة وجودة في أداء الخدمات، وضمان للشفافية.

أما التصور الثاني، فيرى أصحابه، أنه مهما وصلت، وتصل، تأثيرات جائحة كورونا على اقتصاد المغرب، وعلى المواطنين والمواطنات. ومهما تكون تبعاتها المستقبلية اقتصاديا واجتماعيا، فهي تشكل ، بكل ما لها وما عليها، فرصة تاريخية لذوي القرار السياسي، لاستخلاص الدروس والعبر، لبناء الجهوية المتقدمة على مرتكزات قوية تنضاف إلى المرتكزات التي حددتها الخطب الملكية، خاصة في خطابي 2008 و 2010.

ويرى أصحاب هذا التصور الثاني، أن المشكلة ليست في النصوص القانونية، إنها في العقليات المدبرة للشأن المحلي والجهوي. وبناء عليه، يقدمون الآليات التي تمكن من تسريع وثيرة تنزيل الجهوية المتقدمة، على اعتبار أنها تشكل المدخل الحقيقي للخروج من أزمة كورونا، والحد من آثارها وتبعاتها في أقرب الآجال.

وتتمثل هذه الآليات في مبدأ التدبير الحر للجهات ولباقي الجماعات الترابية الذي ينبغي تفعيله. وهل يمكن تصور جماعات أو جهات مستقلة ومجالس حرة في تدبير شؤونها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في غياب الاستقلال المالي. إن التبعية المالية تؤدي حتما إلى التبعية للدولة وللمنظمات المالية الوطنية مهما كان حجمها، ومن تم يصبح الحديث عن التدبير الحر للجهات وباقي الجماعات الترابية مجرد حبر على أوراق القوانين التنظيمية الثلاثة.

ويدعو كذلك أصحاب هذا التصور الثاني، إلى التنزيل الصارم لقواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر بالنسبة للجهات ولباقي الجماعات الترابية. وهي 10 قواعد منصوص عليها في كل قانون من القوانين التنظيمية الثلاثة في باب خاص، نظرا لأهميتها القصوى فيما يتعلق بمستقبل التنمية المحلية والجهوية. ومن أهمها: قاعدة الشفافية، وقاعدة المصداقية، وقاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة.

وليس من باب التطبيل القول إن دخول الصفقات العمومية مرحلة الرقمنة، سيسهم بقدر كبير في شفافية الصفقات التي تبرمها الجماعات والجهات (…)، وذلك مقارنة مع المرحلة السابقة حيث سادت العديد من ” التحايلات ” على قانون الصفقات العمومية من خلال التحالفات غير المرئية، والتي لا يمكن للجان المكلفة بدراسة الصفقات ضبطها لأنها غير مادية.

لذلك، يجمل أصحاب هذا الموقف (الثاني) رأيهم في أن كورونا تشكل فرصة تاريخية، لبناء مستقبل مختلف عن ماضينا، من خلال تسريع وثيرة تنزيل الجهوية المتقدمة.

فالمرحلة القادمة، تتطلب حزما سياسيا كبيرا. ولنا في التعيينات الأخيرة من طرف ملك البلاد وخاصة منها ما يتعلق بالمجلس الأعلى للحسابات، إشارة ورسالة قوية لمن يريد أن يستوعب مضامينها وحسها الوطني.

ونعتقد، أن القراءة المتمعنة في هذين الموقفين وكذا في مساهمات مجموعة من الباحثين في دورة ” الجماعات الترابية في ظل جائحة كورونا ” التي نظمتها ابتداء من الأسبوع الأخير من شتنبر 2020، مقاطعة المعاريف بالدارالبيضاء بشراكة مع جمعية الأعمال الاجتماعية لموظفي ومتقاعدي هذه المقاطعة ومركز المنارة للدراسات القانونية والإدارية، تفيد على أكثر من مستوى:

فمن جهة، كشفت جائحة كورونا بشكل جلي عن مجموعة من الثغرات والنقائص والفراغ القانوني خاصة على مستوى النظام المالي للجهات، حيث اتضح أن الاستقلالية المالية للجهات جد محدودة. وهو ما يعني أنه يتعين تمكين هذه الوحدات الترابية من الاستقلال المالي وامتلاكها للسلطة التقريرية، لبناء جهوية متقدمة فعلا، لا متقادمة. ونخاف أن لا نستفيد من هذا الدرس، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة. وفي ذلك، ظلم للوطن. وظلم للفقراء والموظفين والفلاحين في كل جهة من الجهات 12 بالمملكة، فهم من أدى الفاتورة الاجتماعية عندما تم تطبيق برنامج التقويم الهيكلي في الثمانينيات من القرن الماضي. وهم الضحية في كل الأزمات.

واليوم، انضافت إليهم المقاولات الصغرى والمتوسطة. وهو ما يوحي بالفعل أنه في حالة عدم استيعابنا لدروس هذه الجائحة، سنكون قد وقعنا بما لا يدعو إلى شك على تأجيل تاريخ تنزيل الجهوية المتقدمة ببلدنا. وهو ما لا يتمناه أي غيور على هذا الوطن.

ومن جهة ثانية، هنالك إشارات قوية من أعلى سلطة في البلاد على أن القادم، أي ما بعد كورونا، يعد بالحزم السياسي للقطع مع الماضي والضرب على يد المفسدين. وهي إرادة سياسية قوية لتنزيل قواعد الحكامة الجيدة التي ينص عليها دستور 2011، باعتبارها الأسس الصلبة لبناء جهوية متقدمة ببلدنا.

وبناء على ما تقدم، يتبين بجلاء أننا مقبلون على مرحلة، ينبغي أن تكون مختلفة جذريا عن سابقاتها، إن نحن نريد فعلا أن نتجاوز في أقرب الآجال التبعات الاقتصادية والمالية والاجتماعية لجائحة كورونا. ولن يتحقق هذا الإنجاز إلا بتنزيل الجهوية المتقدمة التي حدد الخطابان الملكيان لسنتي 2008 و 2010 مرتكزاتها الثابتة وآليات تنزيلها، وغايتها، وتمت دسترتها في 2011. وسيبقى هذا الإنجاز الوطني مشروطا بالتنزيل الفعلي لقواعد الحكامة المنصوص عليها دستوريا.

وقد أوصى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مؤخرا، بإحداث طبقة متوسطة قوية لبناء نموذج تنموي جديد.

وأخيرا، إن الجهوية اختيار سياسي، ثابت، منذ بداية استقلال المغرب. ولنا أن نرجع إلى الخطابات الملكية المتعلقة بمرحلة الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي. والجهوية المتقدمة، ليست مرحلة ظرفية، فهي تشكل مستوى متقدما في بناء الجهوية وفي بناء اللامركزية الإدارية. وقد تم التنصيص عليها في دستور 2011 وذلك في الفصل الأول حيث مما جاء فيه: ” (…) التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة “.

وإذا كان من درس بليغ الدلالات والمعاني السياسية قد أجادت به جائحة كورونا إذ ” رب ضارة نافعة “، فمضمونه: لم يعد تنزيل الجهوية المتقدمة بالمغرب يحتمل المزيد من التأخير، لأنها هي المدخل الحقيقي لتجاوز تبعات كورونا اقتصاديا واجتماعيا ولبناء نموذج تنموي جديد يجعل من التنمية الجهوية غايته. والمطلوب تسريع وثيرة هذا التنزيل حتى لا نخلف موعدنا مع التاريخ مرة أخرى.

ويبقى الرهان الحقيقي في بلدنا هو: تغيير العقليات، لبناء مغرب الجهات.

لكن، دعنا نتساءل ونحن نقبل على الانتخابات الجهوية والمحلية: ما هي مسؤولية الأحزاب السياسية في تغيير عقليات التدبير الجهوي والمحلي؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *