وجهة نظر

انـفــــراج ..

بدايـة لابد من الإشـارة  إلى أن الخوض في تفاصيل موضوع  هذا المقال، ليـس من باب تجاوز سلطـة القضاء الذي لابد أن نحـرص أفرادا وجماعات في أن يكــون قضاء حـرا ونزيــها ومستقلا ضامنا للحقـوق والحريات، وليـس من باب الترامي على سلطة القانون، الذي لابد أن يكـون  كالموت “لا يستثنـي أحدا” كما قال الفيلسوف الفرنسي مونـتــسكيو، ولا حتى من باب  فتح النقــاش  بشـأن  قضية أو قضايـا جنائيـة  قـال فيها القضـاء كلمتـه، و لم يعـد ممكنـا من الناحية القانونية والقضائيـة على الأقل، مسـاءلة ما صدر فيها من  أحكــام ، بعضها لازال يثيـر لعـاب الجــدل ويفتـح شهيـة الإدانـة والرفـض تحت يافطـة “الحقوق والحريات”.

ما دفعنا إلى الكتابـة أو النبــش بقلمنا في حفريـات الموضوع، يتجــاوز حدود كاتب الرأي الذي يتفاعل مع قضايـا مجتمعه بالانخـراط في النقـاش السياسي والحقوقي والدبلوماسي والحزبي والاجتماعي والتربوي والإعلامي، ويتخطى عتبـات  المساندة  الفولكلورية  والتضامــن  الحماسي مع  الأشخــاص المدانيــن، وحتى لانـتيـه بين  متاهـات التعبيــر أو نـذوب  بسلاسـة في  بحــور التوصيـف، يكفي قـولا  أن  القـوة الدافعة  المحركة لكتابة هذا الموضوع، نابعـة من  عمق رغبتنـا المواطنـة في إدراك ما يمكن تسميتـه أو توصيفـه بالانـفــراج السياسي والحقوقي  الذي بـات اليوم، ضـرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، فـي ضـوء ما تعيشـه الساحة السياسية والحقوقية والإعلاميـة من نقـاشات ساخنـة  متعددة الزوايـا ذات صلة بملفـات اعتقال  وإدانـة عدد من الوجـوه الإعلامية ونخص بالذكر “توفيق بوعشرين” و “عمر الراضي” و”سليمان الريـسوني”، ونضيف إليهم وجوها أخرى  مرتبطة بملف ما بات يعـرف بمعتقلي حراك الريف .

وإذا طالبنا اليوم  بتحقيق نوع من الانفراج السياسي والحقوقي عبر حلحلة وزحزحة هذه الملفات  المثيـرة للجدل، فمـرة أخرى نؤكد أن  هذا المطلب ليس  تجـاوزا  لسلطة القضــاء الذي  قال كلمته في هذه الملفـات، ولكـن من منطلق  حرصنا الشديـد على سمعـة البلـد ومصداقيتـه القضائيـة والحقوقيـة، خاصة  وأن بعض الملفات  تجـاوز صداها حـدود الوطن، كما هو حال ملف الصحافي “سليمان الريسوني” الـذي دخل في إضـراب عن الطعام  منذ أسابيــع  احتجاجا على ما طالـه من اعتقـال وعقوبـة سالبـة للحريـة، ونشيـر في هذا الصدد، إلى  تصريـح  المتحدث باسم الخارجية الأمريكيـة حول “العدالة المغربيـة وحرية الصحافة”، وهذا التصريح وإن كان تدخلا في الشؤون الداخلية وخاصة في السيادة القضائية الوطنية، فلا يمكن تجاوزه أو المرور عليه مرور الكرام أو حتى التقليل من شأنه وأهميتـه، لما له من تأثيـر متعدد الزوايا على مصداقية قضائنا وعلى ما حققناه من مكاسب حقوقية منذ تجربة الإنصاف والمصالحة.

لكن، إذا ما تركنا البعد الحقوقي جانبا، نرى أن هناك مبررات موضوعية أخـرى تجعلنا نؤمن بأية خطوة أو مبادرة من شأنها إحداث الانفراج المأمول، أولها: اعتبارا لحجم المؤامرات والدسائـس التي تحاك ضد الوطن من قبل خصوم وأعداء الوحدة الترابية للمملكة، مما يستدعي الرهان على تقوية وتحصين الجبهة الداخلية، التي بدونها يصعب الوقوف في وجه أعداء الوطن من جيران السـوء، ثانيها: ضرورة تحصين وتـثمين ما حققته وتحققه الدبلوماسية المغربية المتبصرة من نجاحات متعددة المستويات، بالحرص على تخطي وتجاوز المشاكل الداخلية العالقة بما يلزم من الحكمة والتعقل وبعد النظر، بعيدا عن الحسابات الضيقة، ثالثها: استحضارا لـما ينتظره المغرب من رهانات اقتصادية واجتماعية وتنموية مرتبطة في مجملها بالنموذج التنموي الجديد، الذي لابد أن تـتم إحاطته بكل ظروف وشروط الثقة والتلاحم والتجانس والتعبئة الجماعية، لأن صناعة المغرب الممكن أو المأمول، لايمكن أن تـتم إلا بانخراط كل مغاربة الداخل والخارج وكل القوى المغربية الحية من فاعلين سياسيين واقتصاديين واجتماعيين وإعلاميين وتربويين وغيرهم، وكلها مبررات من ضمن أخـرى، تجلعنا نراهن على  الانفراج السياسي والحقوقي، لأن التحديات أكبر والرهانات أقوى ومصلحة الوطن لابد أن تكون فـوق كل اعتبار.

إذا طرحنا اليوم موضوع “الانفراج السياسي والحقوقي”، فليس معناه أننا نـتدخل في شأن القضاء أو نضع ما يصدر عنه من أحكام تحت المجهر، أو نشرعن “الانـتقائية” في تعامل القضاء مع الأشخاص المتورطين في قضايا جنائية، أو نمنــح الصحافيين نوعا من “الأفضلية” أو “الامتياز” أثناء مثولهم أمام القضاء، لكن في ذات الآن، نعول على الإرادة السياسية في طي هذه الملفات المثيرة للجدل أو على الأقل في زحزحتها وتحريكها بشكل يمـهد للانـفراج  المنتظر، لأن مغرب اليوم في حاجة إلى أبنائه وإلى كل قواه الحية أكثر من أي وقت مضى، وفي هذا الإطار، بقدر نـثمن مغرب الإنصاف والمصالحة والعدالة الانـتقالية، وننــوه بمغرب المنجزات  الرائـدة والمشاريع الكبـرى والدبلوماسية الناجعة والمتبصـرة، بقـدر ما نأمل أن تحضر الحكمة والتبصر وبعد النظر، في تعامل الدولة مع بعــض القضايا الجنائيـة التي من شأنها المساس باللحمة الوطنية ووحدة الصف والتشويـش على ما نـتطلع إليه من ارتقــاء تنموي لايمكن تصوره إلا في ظل دولة الحق والقانون والمؤسسات.

نشير في خاتمة المقال، أننا لسنا بقضاة  لنـوزع صكوك الاتــهام والإدانـة، ولا بمحاميـن  لندافع ونترافـع  عن هذا الطرف أو ذاك ، وليـس من عاداتنا أن نـتموقـع في صف المـؤيدين أو معترك المندديـن والمعارضيـن في قضايا جنائية تفـرض  “الحياد” احتراما لسلطـة القضـاء الذي لابد أن يكـون حرا ومستقلا ونزيـهـا، لكننـا بالمقابل، نمتلك  السلطتين : سلطة “الرأي”  الذي اتجه نحـو ضـرورة   إعادة النظـر في هذه القضايـا والملفات المثيـرة للجدل  لما لها من آثار حقوقيـة، بما يضمـن  كسب رهـان “الانفـراج” الذي بات  اليوم  مطلبـا ملحـا استحضارا لحجم الرهانات والتحديات القائمـة، وسلطة  “الترافع”  بالقلم الحـر، دفاعـا عن المصلحة العليـا للوطـن التي لابد أن ترقـى  وتسمو فـوق كل الاعتبـارات مهمـا صغـر حجمها أو كبـر،  وبيـن السلطتيـن، مساحة  من الأمل في أن تحمل الأيام والمناسبات القادمة بشـرى “الإفراج” و”الانفراج”، من أجل مغرب العدالة والإنصاف والمصالحة والمساواة والحقوق والحريات .. من أجل مغرب رحيم و رؤوف ومتسامح وغفور وفخـور بكل أبنائـه…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *