وجهة نظر

النموذج التنموي الجديد وسؤال الديمقراطية التشاركية

أحمد بلمختار منيرة

إذا كان دستور المملكة المغربية لسنة 2011، وهو أسمى قانون في البلاد، ينص على الديمقراطية التشاركية، فأين نحن منها على أرض الواقع؟ فهل أصبحت آلية معتمدة بشكل دائم في تدبير شؤون بلدنا، في تدبير جهاتنا وجماعاتنا ومجالسنا الإقليمية وفي كل مؤسساتنا العمومية؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فماهي الأسباب والمعوقات والحلول لنصحح تدبير الشأن العام في وطننا؟ هي أسئلة من بين أخرى سنتلمس الإجابة عنها في ضوء النموذج التنموي الجديد؟ وسنحاول بعد ذلك تسجيل بعض الخلاصات والاستنتاجات، قد يبدو للبعض غيرها وفي ذلك توسيع لمعرفة القارئ والمهتم.

بداية، الديمقراطية التشاركية هي اليوم، شأن عام. ونخلص من خلال القراءة المتمعنة في مجموعة من معانيها ومقاصدها إلى أنها شكل من أشكال الديمقراطية.

وهي تعني بالملموس مجموع الآليات والإجراءات والمساطر والقواعد المنصوص عليها قانونيا، التي تمكن المجتمع المدني والمواطنات والمواطنين من التشارك الفعلي مع الممثلين السياسيين لهم، في اتخاذ القرارات وصنع السياسات العامة، سواء على الصعيد الوطني أو على الصعيد الجهوي أو على الصعيد المحلي. والديمقراطية التشاركية تكمل الديمقراطية التمثيلية التي كان بوساطتها يعبر المواطنون عن إرادتهم من خلال ممثليهم المنتخبين. وقد أبانت هذه الأخيرة عن سلبيات جسيمة منها تدني ثقة الناخبين والناخبات في المنتخبين.

فما الذي يتضمنه التقرير العام للجنة الخاصة بالنموذج التنموي الذي تم تقديمه لملك البلاد حول سؤال، أو على الأصح حول الأسئلة المتعلقة بالديمقراطية التشاركية والتي يمكن تجميعها في سؤال واحد وهو: ما مدى تطبيق الديمقراطية التشاركية في بلدنا؟

تعتقد اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي أن الأسباب الكامنة وراء التعبئة الضعيفة لمؤهلات بلدنا التنموية تعزى إلى أربعة معوقات ذات طبيعة نسقية. وعند أخذها مجتمعة، فإن هذه المعوقات بما طبعها من استمرارية أو تفاقم خلال العقد الأخير، ساهمت في تعميق التفاوت بين وعود السياسات العمومية والمعيش اليومي للمواطن، وفي تغذية ضبابية الأفق المنشود وضعف الثقة في المؤسسات، مما أفضى إلى نوع من انطواء الفاعلين على ما هو خاص وذاتي بدلا مما هو جماعي حول أهداف واضحة.

ومن أهم المعيقات التي نسجلها علاقة بالديمقراطية التشاركية انطلاقا من التقرير العام: التسيير من القمة إلى القاعدة، وضعف استشارة المواطنين وإشراك المجالات الترابية. وغياب رؤية تنموية شاملة ومندمجة تشكل محددا لضمان التقائية وانسجام الاختيارات وتيسير التملك الجماعي لرهانات التنمية من قبل مختلف الأطراف المعنية. وفي هذا الصدد، تقر اللجنة بأنه غالبا ما يتم إعداد الاستراتيجيات والإصلاحات بصفة معزولة دون مقاربة إدماجية ومندمجة، مما لا يساعد على التآزر وعلى تقاسم الوسائل.

ومن النقائص التي يعرفها تصور السياسات العمومية في بلدنا أنها لا تدعو إلى مشاركة كل الفاعلين سواء أكانوا عموميين أو خواص، وكذا المجالات الترابية على أساس مقاربة عرضانية ونسقية.

ويتضح مدى الديمقراطية التشاركية في بلدنا من خلال ما عبرت عنه اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد بوضوح تام حيث سجلت أن مشاركة المواطنين في الشأن العام، ما تزال محدودة على الرغم من الضمانات التي أقرها الدستور لصالح آليات الديمقراطية التشاركية. فسبل المشاركة كثيرا ما تظل غير مفعلة أو يصعب الولوج إليها، مما يتسبب في خلق نوع من تنازع الشرعية بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني ولا يشجع على تطوير ثقافة التعاون وانخراط المجتمع المدني في التنمية.

وتضيف اللجنة المعنية إن محدودية النقاش العمومي في سياق ضعف الولوج إلى المعطيات والمعلومات وضعف جودة العرض الإعلامي، لا يشجعان على التملك الجماعي لرهانات التنمية. ويؤدي عدم التفعيل الحقيقي للآليات التشاركية والإدماجية إلى ضعف جودة بلورة وتنفيذ الإصلاحات والسياسات العمومية ولا يساهم في كبح مظاهر مقاومة التغيير في بدايتها.

ومما يتضمنه التقرير العام المقدم إلى ملك البلاد علاقة ب ” انتظارات وتطلعات المغاربة ” أن غالبية المواطنين أعربت عن انتظاراتهم في المجالات التالية: جودة الخدمات العمومية، والولوج إلى الفرص الاقتصادية والتشغيل، وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة. كما أبرزت جلسات الإنصات للجنة المعنية، مطلب توسيع سبل المشاركة لاسيما على المستوى المحلي والترابي. ويرغب المواطنون في الحصول على المزيد من الفرص للمشاركة بشكل فعال في تنمية محيطهم من خلال آليات الإنصات والمنصات الرقمية وآليات التظلم التي يمكن الولوج إليها. كما يدعون إلى المزيد من التشاور معهم وأخذ مقترحاتهم بعين الاعتبار خلال إعداد السياسات العمومية والبرامج التي تعنيهم.

لقد خلصت اللجنة المعنية من خلال ما تقدم وغيره من معطيات واقعية وميدانية، إلى أن التغيير ضروري وذو طابع استعجالي. وحسبها، إن خيار التنمية المتبع حاليا لا يستجيب كليا لتطلعات المواطنين وللتحديات المستقبلية المطروحة على بلادنا، اعتبارا لأن هذا المسلك يساهم في تغذية مناخ أزمة الثقة التي تكبح خلق القيمة المضافة، وتشكل، في حال استمرارها، مخاطر تهدد بشكل كبير الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.

لذلك، يتمثل التوجه التنظيمي الجديد لمغرب الغد والذي يدعو له النموذج التنموي الجديد في الجمع بين ” دولة قوية ومجتمع قوي “. توجه يعبئ كافة القوى ضمن توازن يخلق المزيد من فرص التقدم. دولة استراتيجية، دولة حامية، دولة ضابطة تحرر مختلف الفاعلين وتضمن لهم الاستقلالية في التصرف وتحملهم المسؤولية (…)، يقابلها مجتمع يحشد كل طاقاته ويستغل فرص المشاركة الواسعة بروح من المسؤولية.

وفيما يتعلق بتعزيز فعالية الدولة، ترى اللجنة المعنية أن الأمر يستدعي اعتماد مبادئ جديدة للعمل كفيلة بتحقيق أحسن النتائج، تتجلى في القيادة بواسطة النتائج والأثر على المواطن مما يفسح المجال بشكل واسع للتجريب والابتكار ولاعتماد مقاربة نسقية وعرضانية وتشاركية أثناء بلورة وتنفيذ الاستراتيجيات والسياسات العمومية، وفي تقوية قدرات الفاعلين على جميع المستويات، وفي نقل مسؤوليات التفعيل إلى المجالات الترابية والفاعلين المحليين. ويتعلق الأمر إجمالا بدولة أكثر قوة، تستمد قوتها من التوجيه والتدبير والتسيير بانسجام مع أفق منشود واضح وجلي للجميع.

ولعل السؤال الذي يراودنا اللحظة هو: كيف يجب تعزيز الديمقراطية التشاركية في منظور اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد؟

ترى هذه اللجنة، أنه يجب تعزيز الديمقراطية التشاركية عبر مضاعفة قنوات الوساطة التقليدية أو المبتكرة الموسومة بهاجس الإدماج والتعددية والقرب. ويتعين توسيع نطاق الديمقراطية التشاركية قصد الأخذ بعين الاعتبار بشكل أفضل الإشكاليات الخاصة بالمجالات الترابية والفئات الاجتماعية، من خلال اللجوء إلى بعض الآليات، كما هو الشأن بالنسبة للميزانيات التشاركية على المستوى الجماعي أو التدبير المفوض لمرافق القرب لفائدة التجمعات السكنية المستهدفة.

ولإحداث التغيير المجتمعي المنشود، تقترح اللجنة المعنية أربعة محاور استراتيجية للتحول، منها المحور الرابع المتعلق بالديمقراطية التشاركية وقد جاء فيه: من خلال وضع البعد التشاركي في قلب أولويات النموذج التنموي الجديد، تقترح اللجنة، في أفق معين، إحداث مجالس اقتصادية واجتماعية وبيئية جهوية تعمل على دعم مشاركة الفاعلين الجهويين في إعداد السياسات العمومية. كما توصي أيضا بتعزيز الديمقراطية التشاركية أثناء إعداد وتقييم برامج عمل الجماعات قصد الاستجابة بشكل أفضل لانتظارات المواطنين. ويمكن في هذا المنظور، ربط نقل جزء من موارد الدولة إلى الجماعات الترابية بمدى احترامها لبعض معايير الحكامة الجيدة ومنها اللجوء بشكل ممنهج إلى المشاركة على جميع المستويات، واحترام المناصفة، وإدماج الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، واحترام البيئة، وإخبار المواطنين.

ما تقدم، يوحي بتسجيل مجموعة من الخلاصات والاستنتاجات يمكن تجميعها في أربع رسائل كبرى تبعث بها اللجنة المعنية لذوي القرار السياسي:

أولها: ضعف مستوى الديمقراطية التشاركية، داخل وبين، الإدارات العمومية والجماعات الترابية، وبين الفاعلين العموميين في بلادنا، هو السمة البارزة في تدبير الشأن العام ببلدنا.

وثانيها: تدني الديمقراطية التشاركية يعني تدني مستوى التواصل داخل إداراتنا العمومية وجماعاتنا الترابية وبين الفاعلين المعنيين بشؤون التنمية. ولا يمكن تحقيق التواصل الخارجي في غياب التواصل الداخلي للمنظمات سواء كانت عمومية أو خاصة.

وثالثها: تدني مستوى الديمقراطية التشاركية، خطر يهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. ولنا أن نتصور تبعات ذلك على المستوى السياسي.

ورابعها: تدني مستوى الديمقراطية التشاركية سبب جوهري لتدني مستوى ” الالتقائية ” بين الفاعلين المعنيين بإنجاز المشاريع والبرامج التنموية في بلادنا. وهو ما يفسر إلى حد بعيد، عدم نجاحنا في تنزيل الجهوية المتقدمة. فما زالنا نسجل ضعف العمل الجماعي، واعتماد السياسات القطاعية، واتخاذ القرارات بشكل منعزل دون استشارة الأطراف المعنية، وغيرها من السلوكات البيروقراطية التي مازالت تسيطر على أذهان العديد من مسيري الشأن العام جهويا، ومحليا، ووطنيا.

وما يحز في النفس هو أنه بالرغم من أن دستور 2011 ينص على التشارك والحوار والتشاور، فيما يخص تدبير الشأن العام. وبالرغم من أن القوانين التنظيمية الثلاثة المتعلقة بالجماعات الترابية تنص على الإجراءات والآليات والمساطر والكيفيات التي تمكن من تنزيل الديمقراطية التشاركية. وهناك المراسيم التي تشرح المقتضيات القانونية المتعلقة بها، فما زال تفعيل هذه الآليات موضع تساؤلات وانتقادات. ونزعم أن استشارة المواطنين وجمعيات المجتمع المدني والتنسيق بين الجماعات والجهات وباقي الإدارات المعنية بتدبير الشأن العام محليا وجهويا، مازالا ضعيفين ودون المستوى الذي يطمح إليه المشرع المغربي.

فأين نحن من تطبيق المقتضيات المتعلقة بتقديم العرائض التي ينص عليه الدستور في الفصل 139؟ وأين نحن من الاستشارات الفعلية/ الحقيقية لهيئات المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع؟ وما هي الجمعيات التي ” تستمع ” إليها المجالس الجماعية خاصة، ومتى؟

مجمل القول، تثير اللجنة المعدة للتقرير العام الخاص بالنموذج التنموي الجديد الانتباه – إن لم تكن تدق ناقوس الخطر- إلى أن تفعيل قاعدة الديمقراطية التشاركية هو اليوم، ضرورة تاريخية. وينبغي ربطه بالمساءلة والمحاسبة القانونية، إن نحن نريد فعلا تصحيح مسارنا على المستويات الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ونستعيد ولو بصيصا من ثقة المواطن(ة).

وتبقى مصداقية القول والفعل، وتحقيق الوعود الانتخابية، والتواصل الدائم مع السكان، مؤشرات حقيقية من بين أخرى بالنسبة للمواطن(ة) لمدى بداية مسلسل التغيير الإيجابي، ومقياس حقيقي لمدى تحسن فعل الديمقراطية التشاركية في وطننا.

وفي هذا الصدد، ونحن على مشارف الانتخابات التشريعية والمحلية والجهوية، تقع المسؤولية التاريخية على عاتق الأحزاب السياسية إن هي تريد فعلا التصالح مع ذواتها ومع المواطنين والمواطنات، لأنها هي المسؤولة عن مدى فعالية ونجاعة السياسات العمومية التي يتم تنفيذها على المستويات: الوطني، والجهوي، والمحلي.

* أحمد بلمختار منيرة/ إعلامي وباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *