وجهة نظر

لون التيار اليساري الشعبي في الأفق

لأن الأستاذ صلاح بوسريف واحد من المثقفين العضويين المتنورين والمفكرين الملتزمين بقضايا الوطن وبالفكر اليساري الرصين، كان لا بد لي أن أتفاعل مع مقاله المعنون ب “كل الألوان ولا لون” المنشور على صفحات جريدة المساء للثاني من غشت 2021، والذي خصصه للأزمة التنظيمية التي يمر بها الحزب الاشتراكي الموحد نتيجة خيار الانشقاق الذي تبناه مجموعة من الرفاق والرفيقات بقيادة الرفيقين الساسي ومجاهد عشية الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. ولا نشك قيد أنملة أن اهتمام الأستاذ بوسريف، كغيره من المثقفين والإعلاميين بالعملية الانشقاقية التي كان ضحيتها الحزب الاشتراكي الموحد، نابع من غيرته الصادقة على مستقبل اليسار في بلادنا والذي لا يمكن أن يكون قويا وفاعلا في الحياة السياسية إلا بوحدته الفكرية والتنظيمية.

ولأن منهجية بناء المقالة ارتكزت حصرا على مقتطفات من رسالة الاستقالة التي تقدم بها الرفيق الساسي، دون سعي الكاتب إلى تقصي الحقائق والبحث عن وجهات نظر أخرى من داخل الحزب، فقد كان طبيعيا أن تزيغ خلاصات المقال عن سكة الموضوعية لتنتصر لدفوعات الطرح الانشقاقي. فإلى جانب التشبيه المعيب الذي سوغه الأستاذ بوسريف، من باب المقابلة والاستقراء التاريخي، بين ما يحدث بالحزب الاشتراكي الموحد وما عرفته الأنظمة الاشتراكية من عمليات تصفية للأصوات المعارضة أو ما فعله ستالين بمعارضيه لإرضاء نزواته الشخصية في الانفراد بالسلطة، إلى جانب ذلك أثارت انتباهي ودهشتي أيضا مجموعة من أحكام القيمة ذات الدلالة القطعية بما لا يترك للنسبية مجالا للتنفس، كالحكم مثلا على مضمون الاستقالة كونه ليس “إنشاء أو كلاما خاليا من المعاني”، وكذا أن الرفيق الساسي “يعرف ما الذي يناضل من أجله” و”ما يمكن أن يكون عليه اليسار إن هو التم حول بعضه”، وأن “رسالته كانت تنبه وتحذر من السقوط في براثن السلطة أو ما تغري به السلطة من استفراد وزعامة وأمر”، وأن “كلامه عن التعاقد وعن التحالف والنضال من أجل دولة القانون واحترام المواطنين، كان في صميم ما أدى إلى الخلاف والشقاق”.

إن الحقيقة هي غير ذلك تماما عزيزي الأستاذ بوسريف. ولا يمكن لأحد أن يزايد همزا أو لمزا عن الإرادة الوحدوية الصادقة لمناضلات ومناضلي الحزب الاشتراكي الموحد. ويمكنني الجزم أن الحزب الاشتراكي الموحد اليوم أكثر تماسكا ووحدوية من أي وقت مضى، وأن واقعة الخلاف والشقاق بريئة من المسوغات سالفة الذكر براءة الذئب من دم يوسف، إن الثقافة التنظيمية للحزب الاشتراكي الموحد هي ثقافة خاصة ومتميزة، وهي غير مناسبة إطلاقا لتقنية الرموت كونترول أو التحكم عن بعد التي ألفها البعض نهجا وممارسة. فمفهوم القيادة في الحزب الاشتراكي الموحد هو تكليف رفاقي ووطني ومسؤولية تاريخية، وليس امتيازا معنويا لممارسة سلطة توجيه الأتباع لكسب المعارك الذاتية أو تسييد المواقف الشخصية. وفي هذا الإطار ومن باب التذكير، لا بد من العودة إلى سنة 2011، سنة الحراك الشعبي السلمي المجيد، حيث كان الرفيق الساسي من أكبر المدافعين عن مقاطعة انتخابات 2011 ، بينما كان لرفاق آخرين رأيا مختلفا يقول بضرورة المشاركة الانتخابية في تلك المرحلة، ومن بينهم برلمانيو الحزب وكذا الرفيق المجاهد بنسعيد أيت يدر. وحين احتكم الرفاق آنذاك إلى المجلس الوطني للحزب بحضور كتاب الفروع والجهات، كان قرار الأغلبية بمقاطعة الانتخابات، فالتزمنا جميعا بقرار المقاطعة ولم يسعى حينئذ أيا كان للانسحاب من الحزب أو الانشقاق أو لمهاجمة الأغلبية الداعمة لخيار المقاطعة. بل كان انضباط الرفاق درسا تنظيميا بليغا في احترام قرارات الهيئات الحزبية.

وخلال المؤتمر الأخير للحزب، عرف موضوع الاندماج في إطار الفيدرالية نقاشا عميقا وساخنا بين الرفيقات والرفاق، انتهى إلى صياغة “الأجل المنظور” كأفق زمني لتجسيد الاندماج الفعلي بعد الاشتغال على توفير الشروط الضرورية لإنجاح هذا الاندماج، اعتبارا لكون عملية الاندماج ليست غاية في حد ذاتها أو رغبة ذاتية لفلان أو علان بقدر ماهي وسيلة لتقوية الحضور السياسي لليسار المغربي كضرورة تاريخية ملحة.

وفي اجتماع المجلس الوطني للحزب لــ 30 نونبر 2019، كان هناك شبه إجماع على ضرورة إنضاج الشروط الوحدة الاندماجية (وكان ذلك بحضور نساء ورجال الإعلام) مع التشبث بخيار الوحدة، في وقت كان الرفيق الساسي يسعى إلى استصدار قرار الاندماج قبل انتخابات 2021 وتأجيل الحسم في بعض القضايا الخلافية إلى ما بعد الوحدة، وهي المقاربة التي رفضها المجلس الوطني واشترط إنضاج الشروط أولا ثم الانتقال إلى الاندماج بعد ذلك. فلماذا إذن لم يحترم الرفيق الساسي قرار المجلس الوطني واختار سلك طريق الانشقاق والانتصار لــ”مزاج شخص أو مجموعة من الأشخاص”؟ وبعد أن اتضح للرفيق الساسي، وهو بالمناسبة منسق لسكرتارية المجلس الوطني، استحالة إقناع أعضاء المجلس الوطني بطرحه القاضي بالاندماج قبيل موعد الانتخابات، عمل على تجميد عمل السكرتارية وتأجيل الدعوة لاجتماع المجلس الوطني مقابل البحث عن توافقات بين “القيادات الحزبية” اعتقادا منه أن القيادة الحزبية قادرة على اقتياد مناضلات ومناضلي الحزب الاشتراكي الموحد بسهولة نحو هكذا قرار مصيري، إذ لم يدرك رفيقنا حجم الإصرار القاعدي على ضرورة إنضاج شروط الإندماج كمدخل أساسي لتحقيقه واعتبر أن ذلك تقدير يقتصر على “آل البيت” على حد تعبيره، ولا زلنا لحدود اليوم نجتهد لفهم من هم “آل البيت” في الحزب الاشتراكي الموحد.

وبالتوازي مع كل ذلك، تجندت مجموعة قليلة من الرفاق للتهجم على مؤسسات الحزب وتركيز النبال نحو رأس الرفيقة الأمينة العامة وتصويرها كأنها أصل كل الشرور، واستصغار الحزب وكأنه لعبة تملكها الأمينة العامة… والأنكى من ذلك أن ينضم الرفيق الساسي إلى هذه الحملة، حيث كشف في حواره مع إحدى المواقع الالكترونية، و بشكل غير مقبول على الأقل من الناحية الأخلاقية، على ما كان يدور بينه وبين الرفيقة الأمينة العامة في لقاءات عائلية أو حزبية (والمجالس أمانات كما يقال) ويكيل لها من الاتهامات ما يجعل رأسها مطلوبا للعدالة قربانا لــ”أنوات طفت على السطح” بعدما كانت مدثرة في عباءة الحكمة. وما يؤكد تهرب الرفاق الذين اختاروا ركوب موجة الانشقاق من تقديم الجواب الحقيقي حول الاستعجال غير المفهوم في ترجمة وتفعيل الإندماج قبل موعد الانتخابات رغم فشل لجان الفيدرالية- وهم أعضاء فيها – في تقديم إجابات واضحة ومسؤولة بخصوص الخط الساسي والهوية الفكرية والايديولوجية للحزب المنتظر، وكذا شكل التنظيم، إضافة إلى المسألة النقابية، وهي مواضيع خلافية ليست بالهينة ولا يمكن تأجيل الحسم فيها إلى اللاحق من الأيام. ما يؤكد ذلك هو التركيز على استهداف الرفيقة الأمينة العامة للحزب (لأسباب شخصية ونفسية في غالبية الأحوال)، وهو ما يمكن تبيانه من رسائل الاستقالة أو من مشروع أرضية “التيار” التي صاغها الرفيق الساسي ورفاقه، والتي تتمحور في أكثر من 90 بالمئة منها حول انتقاد الأمينة العامة (وكأننا أما مداخلة أمام هيئة حزبية ولسنا أمام مشروع أرضية يفترض فيها تقديم أجوبة سياسية وفكرية وتنظيمية)، إضافة إلى حملات منتظمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

إن مستقبل اليسار اليوم رهين بمنسوب الجرأة والوضوح لدى المناضل والفاعل والمثقف اليساري والتقدمي. فالتعاقدات الحقيقية، سواء داخل الحزب أو في إطار التحالف أو مع المواطنين، لا تقبل أن تكون “رمادية” بل يجب أن تقوم على أساس الصدق والوضوح التام والنقاش الحر والبناء القاعدي لخيار الوحدة، بعيدا عن ثقافة الكولسة والتجييش والتوافقات الهشة في غرف “قيادات الخمس نجوم”، بشكل يجعل اليسار تيارا مجتمعيا واسع الأفق يلتحم فيه – ليس فقط الفاعلون الحزبيون- بل يشمل كل الطاقات والفعاليات الفنية والثقافية والرياضية والجمعوية القادرة على تملك الفكر التقدمي التنويري وتمثل قيم اليسار الحقيقية الكامنة في التضحية والتواضع ونكران الذات وانصهار الفرد في الجماعة واستثمار الذكاء والوعي الجمعيين في بلورة استراتيجيات نضالية تتماشى ومتغيرات مجتمع القرن الواحد والعشرين، وتنخرط إيجابا في دينامية المجتمع وما يكتنزه من تحولات وأحداث في اتجاه البناء الديمقراطي الحقيقي والإسهام في دمقرطة الدولة والمجتمع والوفاء للنضال الجماهيري والمؤسساتي عبر الالتحام الدائم بالحراكات الشعبية السلمية والعمل من داخل المؤسسات التمثيلية.

وتبقى الأسئلة التي تؤرق مناضلي اليسار والمتعاطفين معه هي ما الغاية من الانشقاق في هذا الظرف بالذات؟ ومتى كان الانشقاق مدخلا للوحدة؟ وبأي منطق نستعجل عملية الاندماج رغم عدم الحسم في النقاط الخلافية؟ وما العيب في العمل على إنضاج الشروط لإنجاح الوحدة؟ وكيف نفرض اندماجا فوقيا وفق مقاربة عددية مفتقدة للعمق والمضمون السياسيين؟ أما حكاية “طاحت الصمعة علقو منيب” فأضحت تثير الشفقة بأصحابها وتكشف العجز عن المحاججة الفكرية في الهيئات الحزبية وعن ضيق النفس الديمقراطي والانضباط لرأي الأغلبية. وعلى أي حال، لا يمكن إلا أن نأسف على حدث الانشقاق، خاصة أن مسوغه الأساسي كان تحقيق الوحدة الاندماجية قبيل الانتخابات، وهو أمر مستحيل التحقق بقوة الواقع، فاندماج رفاق الساسي في الإطار الجديد لا يمكن أن يكون إلا بعد الانتخابات المقبلة، وهو نفس ما كان متوقعا لو التزم رفاقنا المنشقون بقرارات المجلس الوطني واستمروا في الحزب وخاضت أحزاب التحالف هذه الانتخابات مجتمعة بما يقوي اللحمة القاعدية بين مناضليها في تفاعل مع المحيط الداعم لقوى اليسار، لتذهب بعقلانية أكبر إلى محطة الاندماج بعد الانتخابات. فما الفرق بين الخيارين على مستوى زمن أجرأة الاندماج؟ علما أنه لا مقارنة مع وجود الفارق خاصة من حيث الضرر المعنوي الذي لحقه القرار الانشقاقي سواء بالفيدرالية أو بالحزب الاشتراكي الموحد أو باليسار عموما.

الأستاذ صلاح بوسريف، وأنت واحد من المئة الذين نعتز بتوجيههم رسالة الأمل إلى الرفيقة نبيلة منيب خلال انتخابات 2016، لا أريد أن تتسرب خيبات الأمل إلى شعب اليسار، وأتمنى صادقا أن يتسلح مثقفو ومناضلو اليسار ومحيطه الحداثي والتقدمي بسلاح الأمل في بناء أفق أرحب لتيار يساري شعبي قادر على إعطاء المعنى الحقيقي لقيم وممارسات وتضحيات اليسار، وأن يظل المثقف والمفكر اليساري حصنا منيعا لحماية صرح اليسار. فاليسار كما قلتم “هو اختيار ليس بالضرورة تنظيما او انتماء” بل هو أوسع ذلك: رؤية، موقف، ثقافة، اقتناع واختيار…وهذا بالضبط ما نتوخاه في توحيد اليسار حتى يتسع محيطه الشعبي ويتمكن من تغيير موازين القوى لصالح الطبقات الشعبية وتحقيق الديمقراطية الحقيقية والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية.

وعلى سبيل الختم، سأرجع على مقدمة المقال، لأؤكد كمناضل في الحزب أنه لا وجود “للزعيم”، ولا “استفراد” لأي زعيم بالقرار، ولا خرق للقوانين، ولا تراجع عن التعاقدات، ولا تجريم لخلق أي تيار بالحزب، ولا أحدا دعى أحدا لمغادرة الحزب، وبالتالي لا وجود للإخفاق إلا في مخيلة من يريد تصوير تقديراته الخاصة على أنها حقيقة مطلقة، والحقيقة أن مصير اليسار واحد مهما تعددت تياراته ومساراته، وقوته تكمن في قوة كل أطيافه، فكفى من تدمير الذات ولنلتقط البوصلة ولنتوجه إلى مهامنا الأساسية، حينها سينقشع الضباب وسنتمكن من رؤية لون التيار اليساري الشعبي في الأفق، وإلى ذلك الحين لنشعل شمعة بدل أن نلعن الظلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *