منتدى العمق

شمس الخريف

كان الطقس خريفيا متقلبا، و كان ينهمر المطر بشدة في الخارج يومها…و البحر هائج، كنا نراقب ذلك خلف النافذة الشاهقة المؤلفة من قطع زجاجية مربعة صغيرة ،كانت تحدثني و كان السعال يجعل من اللوحة مشهدا متقطعا.

هل يبوح الماء للماء عندما يرتطم الموج بالصخر ؟ هل يبوح البحر بأسرار المتعبين عندما يصل للشط ؟ و هل يوصل الرسائل بأمانة من تحت الماء؟ أم يبتلعها لينتظر المحبين طوال العمر و لا يصلهم خبر .أحيانا يكون البحر يا طفلتي بريد معطل نضع فيه الرسائل التي نريدها ألا تصل أبدا ،لأننا ببساطة بالغة بلغنا من الحقيقة ما يجعلنا لا نتوقع الكثير من هذا العالم، و نحقن إلى الأبد بعقدة الوجود التي تتأسس على فكرة واحدة و هي الوحدانية و نتشارك نحن كبشر مع الله في هذه الصفة، نتناسل و نحب و نرتبط لكن لا مجال للحلول ،لا تحل نفس مكان نفس مهما بلغ التلاحم بين الناس، و هذا يرعب عندما يكون المرء فاضلا و مستعدا أن يتخلى عن أنانيته الكاملة لأجل الآخر، ذلك الآخر الذي لا يستطيع أن يعترف حتى بأتفه عقده ولو أمام نفسه.

اِنه لمن العبث أن تكون لك رغبة عظيمة في تغيير هذا الواقع حتى أن هذا يثير الضحك، الكثير من الضحك و الشفقة.

تكلمت طويلا و أنا مرتمية في حضنها، كنت أنصت فقط، لم أكن أفهم ما الذي تقصده، ربما لصغر سني … كما أن تجاربي في الحياة باتت لا تمكنني من الدخول لعالم شائك كذاك، و في الحقيقة لا يستهويني فعل ذلك …كنت أكتفي بشم راحة يدها و أحكم القبض عليها داخل صدري حتى اذا ما افتقدتها يكون قد تبقى في شيء منها ، بعد سكون دام لدقائق قليلة استرسلت بنبرتها المبحوحة البدوية التي تمسح القلب من كل الشوائب:

أخبرني الصياد كثيرا عن البحر لقد أمضى عمره فيه و لا يعرف الكثير عن اليابسة، أخبرني عن الشمس الحارقة التي تزود النفس بالأمل و ما للإنسان شيء غير الأمل، ذلك السراب الذي يجعل الظمآن يجدف نحو الماء العذب لأن الملوحة لاذعة … أخبرته بدوري عن الأوبئة التي حلت بالعالم في غيابه، حكيت له عن الشخصيات البلاستيكية التي تتكاثر بوثيرة جنونية، و التي أصبح كل منا يختبئ وراءها في عالم افتراضي منتهي الصلاحية، ثم المجاملات الثقيلة و أقراص الحب التي تعطى بالتقسيط، ما إن ينتهي الفوران حتى تختفي كل الآثار …ثم الوطن ! آه من الوطن،إنه يلفظ الموتى بوحشية في كل بقاعه، هنالك من حاول الصراخ لأنه لم يعد يحتمل الإهانة فأخرسوه إلى الأبد … و من حاول النفاذ بجلده للضفة الأخرى فالتهمه الغرق، و كان الماء أرحم من الوطن.

قاطعتها و تمتمت: لا يهمني كل ما تحدثت عنه يا عزيزتي …أنا ابنة فلاحة قلبي أرض رطبة من طين، أتنفس السماء بنجومها و أمسك بها داخل رئتاي، و عندما تمطر تمتد أغصان اللوز الحلو من كفي، تكفيني موسيقى جيدة و كتب ثم الكثير من الورق و الأقلام لأزهر، و سأحتاج أن تحيط بي الحيوانات لتذكرني كلما نسيت أن الإنسان أخبث ما أنتجته الطبيعة، و لن يتوقف عن الدمار حتى يروي نرجسيته و غروره، لأنه في وهمه هو أكرم الكائنات و الكون مسخر له، و كل هذا يمارس تحت كذبة الأخلاق و الكذبة الشهيرة ” الخير سينتصر في النهاية “… آسفة يا عزيزتي لكن لا توجد قاعدة منطقية تفضي إلى نتيجة كهذه. صمتنا فجأة رمقتني بنظرة ارتياب ثم بدت ابتسامة عريضة على محياها كشمس تشرق بعد شتاء طويل ثم همست لي:
لقد كبرت يا محتالة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *