منتدى العمق

السؤال وأدواته في القرآن الكريم

يعتبر السؤال ركيزة أساسية من بين الركائز الفلسفية، وفي هذا يقول غالب حسن الشابندر: «يحتل العقل مكانة لا يستهان بها في ميدان الفكر العريض، السؤال على صعيد مادته وآلياته وموضوعه وآفاته وطريقة التعامل معه والجواب عليه، وآفاق أخرى ذات أبعاد تنغرز في قضايا الكون والحياة والتاريخ. ولم يلتفت علماء الإسلام إلى السؤال في القرآن الكريم كقضية وإشكالية كبيرة تختزن الكثير من الأسرار الفكرية، واكتفوا بالمعالجة اللغوية إلى حد كبير» ().

كما نجد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن يميز في تاريخ الفلسفة بين نوعين رئيسين من السؤال؛ «يختص أحدهما بالعصر اليوناني القديم، وهو سؤال الفحص الذي جسده “سقراط” والذي كان يروم اختبار أفكار المحاور وإقحامه وذلك بالكشف عن التناقض الكامن في أجوبته المختلفة، ويختص الآخر بالعصر اليوناني الحديث وهو سؤال النقد الذي يعتبر الفيلسوف الأخلاقي “إيمانويل كانط” خير ممثل له وقد كان نقدا موجها ليس فقط للمعرفة التي ينتجها العقل بل ينتقد العقل نفسه مستهدفا الوقوف عند حدوده في إنتاج المعرفة» ().

وفي نفس الصدد يؤكد حسن غالب الشابندر بقوله: «حقا مما يستدعي الانتباه إليه في القرآن الكريم هذه السياحة الكبيرة لسؤال، سياحة مفتوحة سواء بمادته التي تتألف من هذه الحروف، أو بأدواته المعروفة، فالقرآن الكريم حشد من الأسئلة بكل ألوانها وأنواعها وأغراضها» ().

توضح ذلك العديد من الآيات القرآنية الحاملة للكثير من الأسئلة نذكر على سبيل المثال لا للحصر:

قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [سورة البقرة، الآية: 189].

قال أيضا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [سورة الإسراء، الآية: 85].

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة البقرة، الآية: 211].

{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة النحل، الآية: 43].

{فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} [سورة الأنبياء، الآية: 63].

{واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [سورة الأعراف، الآية: 163].

هذه بعض نماذج من الأسئلة في القرآن الكريم «لأن القرآن اهتم اهتماما مركزا بالسؤال ودوره الكبير بالوجود والحركة والحياة، فالسؤال وأدواته مجال شاسع في شتى المجالات العقدية والطبيعية والتشريعية، نكون قد تأكدنا من موقع السؤال في الفكر القرآني» ().

من هنا يمكننا طرح السؤال الآتي: من أين يستمد السؤال مشروعيته، وما علاقته بالجواب؟

للإجابة على هذا السؤال يقول الشابندر: «لقد وضع القرآن الكريم مشروعية السؤال بالصميم والجوهر، فالسؤال ينبثق طبيعيا من توجيه العقل إلى ملكوت السماوات والأرض»(). ومن هذا التوكيد على التفكير والتدبر، ويقول في موضع آخر أن «السؤال في القرآن الكريم مشروع وحق طبيعي، نابع من طبيعة النظرية القرآنية إلى العلاقة بين الوجود والعقل» ().

كما يبين أن هناك حاجزا آخر لمشروعية السؤال في القرآن الكريم، ذلك هو الشك فإن الشك ظاهرة طبيعية لدى الإنسان في مجالات المعرفة والعلم، والشك مدعاة للسؤال بطبيعة الحال، وقد نهى الكتاب العظيم على العضوية بين الشك والسؤال ذلك في قوله تعالى: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [سورة يونس، الآية: 94]. هذه الآية الكريمة تبين وتؤكد مشروعية السؤال في الكتاب المجيد.

يقول غالب حسن الشابندر: «النظر إلى المشاهد الكونية والتمعن بها يعني تأسيس مشروعية السؤال، يعني تأسيس مشروعية مفتوحة ويضاف لذلك جذر آخر على صعيد هذه المشروعية التأسيسية، ذلك هو نسبية العلم الإنساني» (). فالشابندر يبين المنطلقات الأساسية التي تعطي للسؤال مشروعيته، كما أنه يربط بين مشروعية السؤال ونسبية العلم عند الإنسان.

السؤال والجواب في القرآن الكريم

يمكننا الوقوف عند سؤال طرحه حسن غالب الشابندر هو على الشكل التالي:

الجواب عملية إنقاذ السؤال من الحيرة، والغموض، من الإبهام، هل هذا صحيح؟ 

يقول الشابندر مجيبا على هذا السؤال: «لا يأتي السؤال في القرآن الكريم طبقا للجواب على الدوام، فقد يأتي الجواب أعم من السؤال في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى أنقص وقد يعدل عن السؤال أساساً، لا نريد أن يكون الجواب مصدر صمت، لا نريد أيكون الجواب دائرة مغلقة تخنق السؤال، تمنعه من الحركة بحجة الإشباع من الجواب» ().

ومن جهة أخرى يمكن القول إن الفلسفة تفكير تساؤلي، إذا كان السؤال هو إدارة رئيسية لإنتاج الأفكار داخل الخطاب الفلسفي حتى اعتبر الفيلسوف “كارل ياسبرز” أن السؤال في الفلسفة أهم من الجواب وأن كل جواب يصبح بحوزة سؤالا جديداً.

يقول الشابندر: «العلاقة بين السؤال والجواب هنا علاقة نشطة ليست علاقة مطابقة: علاقة نضج، الجواب يثري السؤال، يحركه إلى الأمام، ثم يولد من داخل أحشائه أسئلة وأسئلة، ومن هنا لا يكون الجواب عبارة عن نهاية مأساوية للسؤال» ().

ويقول في موضع آخر: «تمتلك سلطة البلاغة المدرسية فيما نعت بصدده –فلسفة السؤال– قدرة هائلة على تغيب السؤال، إرساله إلى مصير نهائي يتسم بالسكوت الأبدي، ولذا ينبغي التعاطي مع السؤال على ضوء روح الكتاب الكريم» ().

اتخذ السؤال الاستفهامي في القرآن الكريم تنوعا وتعددا باختلاف أدواته من بينها:

الإثبات: قال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [سورة الزمر، الآية: 36].

التبكيت: قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} [سورة المائدة، الآية: 116].

التسوية: قال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [سورة البقرة، الآية:6].

التعظيم: قال عز وجل: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [سورة البقرة، الآية: 245].

التهويل: قال الحق سبحانه: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [سورة الحاقة، الآية: 3]. 

التسهيل: قال جل جلاله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء، الآية: 39].

التفجع: قال تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [سورة الكهف، الآية: 49].

التكثير: قال عز وجل: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [سورة الأعراف، الآية: 4].

الاسترشاد: قال سبحانه: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} [سورة البقرة، الآية: 30].

الطلب: قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [سورة محمد، الآية: 24].

النفي: قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [سورة الانفطار، الآية: 6].

التحذير: قال تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} [سورة المرسلات، الآية: 16].

التذكير: قال تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [سورة يوسف، الآية: 89].

التنبيه: قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [سورة الفرقان، الآية: 45].

الترغيب: قال تعالى: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [سورة الأعراف، الآية: 53].

التمني: قال سبحانه: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [سورة الأعراف، الآية: 53].

الدعاء: قال عز وجل: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا} [سورة الأعراف، الآية: 155].

العرض والتخصيص: قال تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} [سورة التوبة، الآية: 13].

الاستنباط: قال عز وجل: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الملك، الآية: 25].

التعجب: قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [سورة النمل، الآية: 20].

الاستبعاد: قال عز وجل: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} [سورة الدخان، الآية: 13]. 

التوبيخ: قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ} [سورة آل عمران، الآية: 83].

الإيناس: قال تعالى: {فأين تذهبون} [سورة التكوير، الآية: 25].

نستخلص أن للسؤال أهمية كبيرة في القرآن الكريم، إذ يعتبر السؤال من أهم الأدوات المعرفية إذا تعلمه الإنسان وأتقنه، وعرف كيف يصوغه، ولمن يوجهه أو يثيره، ليكسب بذلك السؤال معرفة صادرة من أهلها لمن يستحقها في الوقت المناسب لصدورها، وآنذاك يكون السؤال عبارة عن إثارة لقضية فكرية أو شرعية يحتاج الناس إشارتها في وقتها لسد حاجة، لها موقعها في حياة المجتمع، ولذلك فإن الإسلام بيان حقيقة السؤال وكيفية صياغته وآدابه وشروطه، لتحقيق ذلك الغرض المعرفي.

الحوار في القرآن.

يهدف الحوار القرآني للعقل إلى تعليمنا أن المراتب التي يرتقي بها العقل في سلم المعرفة من المحسنات الجزئية إلى الأفكار الكلية، وجاء يعلمنا أن العقل قادر على إدراك وجود الله بآثاره في مخلوقاته وإقامة الأدلة الصادقة على ذلك، كما جاء يعلمنا أن الإنسان قادر بعقله على الإدراك المنطقي وغير المنطقي من الأمور. 

«وما تركيز القرآن على الحوار العقلي إلا أن العقل أقرب إلى موازنة الخطأ والصواب وأقرب إلى مفتاح الوعي لوحدانية الله، لأن كان العقل غير كاف وحده، للوصول إلى حقيقة الإيمان بوحدانية الله إلا أنه المفتاح الحقيقي للوعي الكلي الذي تشارك في صنعه النفس والوجدان والإحساس والضمير والقلب حتى الجسد، فمسألة الإيمان بالله وبوحدانيته مسألة وعي، والعقل مفتاحها الأول» ().

كما يقول الفيلسوف طه عبد الرحمن في كتاب له بعنوان: “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”: «إن الاختلاف في الرأي لا يسوى بالعنف، وإنما يسوى بالحوار ولا هو أيضا يؤول إلى الخلاف في الفرقة، وإنما يتسبب في الألفة» ().

ومن خلال قول طه عبد الرحمن يتضح أن من أهم الدعاوى والأطروحات التي يسعى للدفاع عنها في مشروعه الفكري، نجد تلك الأطروحة الشاملة لدعوته إلى الإقرار بالحق العربي في الاختلاف الفلسفي؛ «وسيحتم هذا الحق في الاختلاف على الفلاسفة العرب الدخول في حوار فكري وفلسفي مع الفلاسفة والأمم والأقوام الأخرى وهو حوار اختلافي يتميز بمجوعة من الخصائص والضوابط المهمة» ().

وبناء على هذا يمكن القول إن الحوار يفيد تقليص مساحة الخلاف بين المتحاورين، ويجنبه الفرقة والنزاع كما يجعل كل طرف إلى تجنب الهفوات والأخطاء التي ارتكبها وبالتالي اتخاذ الحوار كمناسبة بتعزيز فكره وتقويمه وفتحه على آفاق واسعة.

فتأتي ضرورة الحوار عند الأستاذ طه عبد الرحمن من كون الحقيقة ليست واحدة كما يعتقد البعض، كما أن الطرق المؤدية إليها هي نفسها متعددة، إذ يقول: «وحيثما وجد التعدد في الطرق، فثمة حاجة إلى قيام حوار بين المستويات بها» ().

كما أن دائرة الحوار القرآني للعقل متسعة وتدخل في التفاصيل فتتعرض لقضايا قد يكون الإنسان نسيها فإذا بالآيات الكريمة تصدم العقل وتلفت الانتباه إليها. 

يقول حسن الباش في كتابه “القرآن وحوار العقل”: «القرآن الكريم يحاور الإنسان أي كان نبيا أو رسولا أو فردا أو مجموعة أفرادا أو أقواما أو شعوبا وأمما، بمعنى أن القرآن يناقش الإنسان يسأله ويجيبه، يعطيه أسس مسائل الكون والحياة ويدله على حلولها، وبهذا المعنى لا يكلف الإنسان لسانه في حوار عقلي تتشابك فيه المسائل» ().

وقد أكد القرآن على أهمية الحوار وثمراته، إذ نجد في القرآن: «”قال” و”قالوا” 13 مرة، و”قيل” 49 مرة، و”القول” 52 مرة، و”قولهم” 12 مرة، وغيرها كثير» ().

وهذه الأرقام مؤشر على حوارية عالية التردد داخل النص القرآني، بشكل لافت النظر. 

كما قال المحلل النفسي والسوسيولوجي الألماني “إريك فروم” «أن ما يجمع العلماء رغم اختلاف التخصصات هو الإيمان العميق لوحدة الجنس البشري وإمكانية تفعيل وتغليب مبدئي الحوار التفاهم بين الشعوب والأمم دون الرجوع إلى إعمال القوة والسلاح وإشغال كتائب الحروب وإطلاق العنان للهدم الإنساني» ().

هذا القول يتضمن المبدأ الذي دفع عنه المحلل النفسي إريك فروم في حياته تنظيرا وممارسة.

كما ذكر عبد الكريم أحميدوش في كتاب له بعنوان: “الحوار ونماذج منه في القرآن والسنة”: «لقد اهتم الإسلام بالحوار وتنوع أساليبه حسب ما تقتضيه الحاجة اهتماما بالغا، حيث جعله عنصرا هاما في المجتمع الإسلامي في الحياة» ().

ومن بين الآيات التي ركزت على الحوار نذكر على سبيل المثال لا للحصر والتقييد: قال تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [سورة الكهف، الآية: 34].

يقول سيد قطب في تفسير هذه الآية:” تنتقص عزة الإيمان في النفس المؤمنة، فلا تبالي المال والنفر، ولا تداري الغنى، ولا تتلعثم في الحق، ولا تجاهل في الأصحاب. وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام الجاه والمال، وأن من عند الله خير من أغراض الحياة”().

وقال أيضا: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [سورة الكهف، الآية: 37].

يقول ” سيد قطب” في تفسير هذه الآية:” يخطو بصاحبه إلى إحدى الجنتين، وملء نفسه البطر، وملء جنبه الغرر وقد نسي الله، ونسي أن يشكره على ما أعطاه؛ وظن أن هذه الجنان المثمرة لن تبيد أبدا، أنكر قيام الساعة أصلا”().

وقال عز وجل في موضع آخر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة الحجرات، الآية: 13].

يتبين من خلال هذه الآيات الكريمات أن التواصل والتعارف لايتحققان إلا بواسطة الحوار والانفتاح على الآخر، هذه فقط بعض نماذج، فللحوار في القرآن الكريم مجال شاسع من الصعب حصره وتقييده. 

يقول أبو زيد المقرئ الإدريسي: «والحاصل أن الحوار في النظرة السطحية العجلى، قد يبدو في صلته بالمستوى الأول: تدبير التعايش وتحقيق التفاهم أكثر بداهة من صلته بالمستوى الثاني: العقل والفكر، ولكن النظر السديد يفضي إلى أن الحوار أداة استراتيجية، تعيش البشرية في الحاجة الملحة إليها بنفس الدرجة في المستويين معا» ().

يوضح أبو زيد كيفية الجمع بين العقل والنقل في الحوار في اصطناع الأدلة والبراهين لإقناع المخالف والتعايش معه. 

ومن جهة أخرى يقول حسن الباش في كتابه “القرآن وحوار العقل”: «القرآن الكريم لايحاور العقل لأن الإنسان لا يسلم ببساطة رغم أن الإيمان في جنينته ينبع من الفطرة، والقرآن لا يريد الإنسان أن يؤمن بالقوة القصرية المفترضة» ().

يمكن القول بناء على رأي الباش أنه بالرغم من الأهمية الكبيرة التي أعطاها القرآن الكريم للعقل، إلا أنه ينبغي لهذا العقل ألا يتجاوز حدوده في بناء المعرفة.

ويضيف أبو زيد المقرئ الإدريسي قائلا: «من التلازمات البديهية، تلازم الحوار مع أشكال عديدة من طرق تدبير الخلاف تحقيق التعايش، وبالأحرى صور التواصل ومستويات التفاعل الإنساني داخل المجموعة الواحدة، أو بين مجموعات بشرية مختلفة. وقد لا يبدو من درجة البداهة نفسها، أن نسعى إلى ربط الحوار بالعقل أو ما يرتبط به من ثقافة أو فكر أو تدبير أو إنتاج معرفي مسدد، إلا بإمعان النظر وتعميق التفكر في جدوى العلاقة القائمة بنيويا ومنطقيا بينهما» ().

في حين يرى الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن «أن مراتب الحوارية تشترك جميعا في كونها [فعاليات] خطابية تقيد القيم بمجموعتين متميزتين من الشروط هما: شروط النص الاستدلالي وشروط التداول اللغوي» ().

فطه حاول أن يبين أسس ومنطلقات كل من النص الاستدلالي وشروط التداول اللغوي بارزا العلاقة بينهما.

يقول حسن الباش: «وما دام القرآن دستورا كاملا وشاملا فإنه يعلم العقل أن يكون الناس على مستوى الحوار العقلي والمنطقي بينهم» ()؛ يعني أنه من الشروط المهمة في الحوار التوازن في القوى، وهذا ما أكد عليه ايضا طه جابر العلواني بقوله: «لا ينبغي للضعيف أن يتوهم أن يكون طرفا في حوار وهو في حالة ضعف» ().

نلاحظ من قول العلواني أنه ينبغي التوازن بين الأطراف المتحاورة في المستوى المعرفي حتى يكون التماسك والانسجام في مستوى الحوار.

كما يقول حمو النقاري: «لا حوار إلا فيما يمكن الكشف عن وجه الحق فيه» (). فما لا يمكن الوصول فيه إلى الحق ورفع اللبس، يظل مجالا ينفر من الحوار وينفر الحوار منه.

نستخلص مما سبق أن الحوار تواصلا وتفاوضا، وأنه وسيلة هامة في العمليتين – التواصل والتفاوض – اللتين ترتكز عليهما الحياة الاجتماعية في شتى المجالات: الدينية والأسرية والثقافية والاقتصادية. 

البيبلوغرافيا

غالب حسن الشابندر، استراتجية السؤال في القرآن الكريم (قضايا إسلامية معاصرة)، دار الهادي للطبع والنشر، ط1، 2003م.
حمو النقاري، منطق تدبير الاختلاف من خلال أعمال طه عبد الرحمن، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2013م.
طه جابر العلواني، الخصوصية والعالمية في الفكر الإسلامي المعاصر، دار الهادي للطباعة والنشر، ط1، 2003م.
طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط2، 2000م.
عبد الكريم أحميدوش، الحوار ونماذج منه في القرآن والسنة، مطبعة أميمة ابن باجا، فاس المغرب، ط1، 2010م.
سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشرق لنشر، المجلد 1، ج2، ط2 1423ه-2003م.
حسن الباش، القرآن وحوار العقل، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية طرابلس، ط2، 2001م.
طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، ط2، 2006م.
طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط2، 2005م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • غير معروف
    منذ 3 أسابيع

    شكرا جزيلا