وجهة نظر

حل النواب وانتخابات سابقة لأوانها

بعد تعثر تشكيل الحكومة لأكثر من شهرين، وتأكد عدم مصادقة البرلمان على ميزانية 2017 قبل نهاية 2016، ستستعمل حكومة تصريف الأعمال الإجراءات الدستورية الاستثنائية وذلك بفتح “بمرسوم الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية، والقيام بالمهام المنوطة بها، على أساس ما هو مقترح في الميزانية المعروضة على الموافقة” (الفصل 75 من الدستور). هذا الاستثناء يعطل دور البرلمان في مناقشة الميزانية، وأيضا يعطل نفقات الاستثمار التي لا يمكن صرفها إلا بعد مصادقة البرلمان، ناهيك عن تعطيل تنمية الاستثمار الداخلي والخارجي، نظرا لعدم وضوح الرؤية.

يذكر أن الدستور (الفصل 75) أورد حالة واحدة لعدم التصويت على قانون المالية قبل نهاية السنة المالية وهو “بسبب إحالته على المحكمة الدستورية، تطبيقا للفصل 132 من الدستور”. هنا يكون الدستور قد حصر الحالة وبالتالي ما يترتب عنها يتطلب هذا الشرط، ونظرا لعدم وجود الشرط فأتساءل عن المبررات الدستورية لفتح الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية بمرسوم. ويذكر أن القانون التنظيمي للمالية 130.13 (المادة 50) اكتفى بالشرط الدستوري كما ورد في الفصل 75 ، أي عدم التصويت على قانون المالية أو عدم صدور الأمر بتنفيذه، بسبب إحالته على المحكمة الدستورية (ولم يذكر أي سبب آخر). لذا، هل سيتم عدم تمويل المرافق الحكومية (government shutdown) مثلما حدث مؤخرا في الولايات المتحدة؟

السؤال أمام الحكومة والمجلس الدستوري، وربما من يحق لهم أن يسألوا المجلس الدستوري بعدما تعطل دور البرلمان قسرا في مناقشة الميزانية[1]!

ومع هذا، هل سيستمر المغرب شهورا أخرى بدون حكومة وبدون برلمان وبدون ميزانية مصادق عليها من طرف البرلمان؟ أو سيبصم على سابقة في تاريخه السياسي الحديث، ويعود من جديد للناخب من أجل استجلاء رأيه في المؤهل لقيادة الحكومة، بعد ما اتضح من بوادر فشل حزب العدالة والتنمية في تشكيل حكومة أغلبية مستقرة؟

وإذا ما أعيدت الانتخابات، هل ستخرج عن منطق الصراع بين الأشخاص المؤهلين لرئاسة الحكومة؟ وهل ستأتي بجديد أم ستكون مضيعة للوقت والموارد؟

تركزت انتخابات مجلس النواب ليوم 7 أكتوبر حول من سيقود حكومة ما بعد الانتخابات، ولهذا انزلق النقاش في الحملة الانتخابية إلى التركيز على الأشخاص، عوض الأحزاب والبرامج، وكان حزب العدالة والتنمية هو البادئ بتوجيه أنظار الناخبين إلى شخص أمينه العام من خلال التمديد له في الأمانة العامة عوض اختيار شخص غيره. وإن كان هذا الاختيار ليس عيبا في الديمقراطية مادام يتماشى مع قوانين نفس الحزب، ولأن الناخبين ينتخبون شخصا وليس أفكارا على ورق، إلا أنه يُضعف النقاش السياسي بين الأفكار والتوجهات والذي يمكن أن تحبل به الانتخابات، وخصوصا النقاش حول العمل الحكومي السابق، والبرنامج الحكومي المقبل، النقاش على ضوء النتائج.وأثبتت خطوة حزب العدالة والتنمية هذه أنه لم يكن مقتنعا بإمكانيته في الفوز في الانتخابات من دون أمينه العام.

نفس التركيز على الأشخاص هو الذي ولد التقاطب بين أمين عام العدالة والتنمية وأمين عام الأصالة والمعاصرة، وهذا ما دفع إلى الظل كل رؤساء الأحزاب الأخرى. وفي تقديري، هذا ما يصعب التحالفات اليوم، ليس فقط في إطار الحكومة، بل حتى بين مكونات المعارضة، لأن كل حزب يضع أمام عينيه منذ الآن الانتخابات النيابية لسنة 2021، وخصوصا الأحزاب التي تراجعت شعبيتها في انتخابات أكتوبر الماضي ومن ضمنها الإستقلال، والأحرار، والإتحاد الإشتراكي. ونفس المنطق سيحكم حتما اختيار رؤساء الأحزاب من خلال مؤتمراتها القادمة. وبالنسبة لهذه الأحزاب، فالسنوات المقبلة مسألة حياة أو موت، وبالتالي لن يكون اختيارها لمواقفها أمرا سهلا.

في نظري، هذا ليس عيبا في الديمقراطية، ما دام الجميع يمارس “تكتيكاته” في إطار القانون. يمكن أن تناقش القضايا من زاوية أخلاقية ونقول إن على هؤلاء أن يسهلوا تشكيل رئيس الحكومة لحكومته. لكن، لماذا عليهم أن يسهلوا؟ منطق الديمقراطية يتطلب اتخاذ المواقف دون محاباة، وإلا لماذا يتم تنظيم الانتخابات.

اليوم، لم يعط الناخب أغلبية لحزب العدالة والتنمية، وبالتالي عليه أن يكون قادرا على العمل مع الآخرين، وإذا لم يتمكن، فلا خيار غير الانتخابات النيابية السابقة لأوانها.

خلافا لبعض التوقعات، فإذا ما جرت الانتخابات السابقة لأوانها، فليس بالضرورة أن حزب العدالة والتنمية سيتبوأ مكانة أولى أو يزيد عن عدد مقاعده الحالية، لأن فشله في تشكيل الحكومة سيحسب عليه. وبالتالي، هل سيكون الناخب قادرا على انتخاب من فشل في تشكيل الحكومة؟ هذا مجرد سؤال علما أن إسبانيا أجرت انتخابات جديدة مؤخرا ولم تستطع تغيير خارطتها السياسية. أما إذا فاز حزب العدالة والتنمية بأكثر، ولو حصل على الأغلبية المريحة، فما المانع أن يشكل الحكومة ولو لوحده إن أراد !

وفي جميع الأحوال، أعتقد ألا مفر من انتخابات سابقة لاوانها لأعضاء مجلس النواب آجلا أم عاجلا.

يذكر أن الدستور المغربي يربط بين تعذر توفر أغلبية حكومية داخل مجلس النواب، وإجراء انتخابات جديدة ولو في الحالات القصوى التي تكون فيها الانتخابات قد أعيد إجراؤها بعد حل لمجلس سابق (الفصل 98)، أي إمكانية حل مجلسين متتاليين؛ في المرة الأولى قد يُحل لأي سبب كان (بما في ذلك عدم توفر أغلبية حكومية)، وفي الثانية لا يحل إلا إذا لم تتوفر أغلبية حكومية داخل مجلس النواب.

معنى هذا، إذا لم يتمكن رئيس الحكومة المعين من تشكيل أغلبية، فالحل الوحيد وفق الدستور هو الذهاب إلى انتخابات جديدة لأعضاء مجلس النواب، بعد شهرين من الحل كأجل أقصى. وللعلم، فحكومة أقلية، و حكومة بدون معارضة لا دستوريتان بموجب نفس الفصل، وفصول دستورية أخرى أهمها الفصل 10 الذي نص على حقوق المعارضة. وبالتالي فعدم وجود معارضة سيعطل مقتضيات دستورية ويحدث فراغا في بعض المهام من قبيل رئاسة لجنة التشريع بمجلس النواب التي تعتبر حكرا – بالدستور – على المعارضة، وعدم وجود معارضة يعني أن هذه اللجنة ، مثلا، ستبقى بدون رئيس.

الذهاب نحو انتخابات جديدة قد يكون أكثر إيجابية، لأن الفسيفساء الذي ظهر من انتخابات 7 أكتوبر سيقود لعدم توفر أغلبية مستقرة. حتى لو تشكلت حكومة “مرقعة” اليوم، فلا أحد يضمن عدم انسحاب أحد الأطراف لاحقا والذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها. وأيضا قد تغلب سياسة جبر الخواطر على السياسة الصارمة المطلوبة في التدبير الحكومي، وهذا أكبر ضررا للشأن العام. اليوم مر أكثر من شهرين عن انتخابات 7 أكتوبر ولا شيء في الأفق. إذن لماذا عدم الذهاب إلى إعادة الإنتخابات؟

يذكر أن تعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي يتصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب (الفصل 47) يعتبر مكسبا مهما للديمقراطية بالمغرب بغض النظر عمن يؤهل إليه انتخابيا. لذا، لا يجب أن يكون محل نقاش، ولا اجتهاد مع وجود نص دستوري. ودعوات تغيير هذا الفصل تجر المغرب إلى الخلف. بالعكس، هذا الفصل من بين أهم، إن لم أقل أهم، ما جاء به دستور 2011، وهو فصل يمنح الفرصة لكل الأحزاب للتباري على رئاسة الحكومة لتنفيذ برامجها، مما يجعل الانتخابات ذات معنى، بما في ذلك الانتخابات التي تعاد.

ولهذا، أرى أن من مصلحة المجتمع المغربي بكل مكوناته السير نحو إعادة انتخابات مجلس النواب، ليتمكن الناخب من اختيار جديد لمن يمكنه أن يقود الحكومة، ولنخرج من واقع الهشاشة الذي أفرزته انتخابات أكتوبر الماضي.

[1] هذ ه هي الفقرة التي تهمنا من الفصل 75 كاملة وورد فيها ما يلي: “إذا لم يتم في نهاية السنة المالية التصويت على قانون المالية أو صدور الأمر بتنفيذه، بسبب إحالته على المحكمة الدستورية، تطبيقا للفصل 132 من الدستور، فإن الحكومة تفتح بمرسوم الاعتمادات اللازمة لسير المرافق العمومية، والقيام بالمهام المنوطة بها، على أساس ما هو مقترح في الميزانية المعروضة على الموافقة.”

وضع العبارة بين فاصلتين (بسبب …ألخ) يجعل منها السبب الوحيد، لأن المشرع كان بإمكانه أن يضيف عبارة “أو لأي سبب آخر” أو يحتفظ بالنص كما جاء في دستور 1996 (المادة 50) وهو دون فاصلة بين كلمة بتنفيذه وكلمة بسبب. لأن الإحالة إلى المحكمة الدستورية أو المجلس الدستوري تؤدي إلى وقف التنفيذ وأجله، وهذا ما أكده دستور 2011 في فقرة من الفصل 132 ورد فيها ما يلي: “تؤدي الإحالة إلى المحكمة الدستورية في هذه الحالات، إلى وقف سريان أجل إصدار الأمر بالتنفيذ.”

أعتقد أن المشرع قصد جعل الإحالة إلى المحكمة الدستورية سببا وحيدا، مما يعني إلزام البرلمان بالمصادقة قبل نهاية السنة المالية (31 دجنبر)، نظرا للأهمية القصوى لإقرار القانون المالي الجديد قبل بداية السنة المالية (1 يناير) لضمان حسن تدبير المالية العمومية وخصوصا البدء بتنفيذ ميزانية الاستثمار.

وضع الفاصلة في أية جملة لا يكون عبثيا، والمثال الذي يقدمه النحاة هو الفرق البين بين عبارتين اختلف فيها موقع الفاصلة فقط . ويتعلق الأمر بحكم قاض دونه كاتبان، الأول دون: “العفو، مستحيل الحكم بالإعدام” والثاني دون: “العفو مستحيل، الحكم بالإعدام”.
تفسير الدستور بأن الإحالة على المحكمة الدستورية هو وحده ما يبيح صرف الاعتمادات بمرسوم، سيكون بمثابة حكم بالإعدام على المرفق العمومي.