خارج الحدود

فرنسا: بعد تصويت 85% منهم للرئيس الفائز.. هل يسعد المسلمون بقرارهم؟

بعد مشاركتهم الكثيفة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الأخيرة بفرنسا، والتي أعطت الفوز لإيمانويل ماكرون، يتوقع المسلمون من هذا الأخير أن يغير سياساته المعادية للإسلام التي انخرط فيها والحد من تنامي الإسلاموفوبيا في بلده، خاصة بعد أن أظهرت الانتخابات صعودا كبيرا لليمين المتطرف بزعامة مارلين لوبان، يتوقع أن تسجل اختراقات مقلقة في الانتخابات التشريعية المقبلة.

ورغم القيود التي فرضتها فرنسا على عهد ماكرون على المساجد بممارسة الحياد السياسي الذي يتجاوز مجرد دعم طرف سياسي ضد آخر إلى عدم التطرق نهائيا إلى السياسات العام حتى حين تهم المسلمين. إلا أنه سعد كثيرا بانخراطها في الدعوة إلى تغليب كفته ضد مرشحة اليمين المتطرف، في الدور الأخير من الانتخابات الرئاسية.

ويحاول مسجد “السلام” بمدينة بوردو جنوب غربي فرنسا، وغيره من المساجد في فرنسا، البقاء على الحياد السياسي. بيد أن إمام المسجد خرج قليلا عن هذا الحياد مؤخرا حينما دعا بُعَيد صلاة الجمعة ثم قُبَيل التراويح المسلمين إلى الذهاب للتصويت في الانتخابات الرئاسية واختيار الأنسب، حتى لا يصل المعادون للوجود الإسلامي لكرسي الحكمّ، حسب الجزيرة نت.

كان الإمام يقصد بأعداء المسلمين غالبا مارين لوبان وإيريك زمور، حسب نفس المصدر. وعلَّق بعض المصلين بأن الإمام كان يدعو الناس للتصويت لـ”جون لوك ميلانشون” زعيم حزب فرنسا الأبية اليساري الراديكالي غير المعادي للمسلمين، لكن لا يمكن لأحد الجزم بما كان يدور في نفس الإمام تجاه إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي القديم الجديد، الذي يستعد لبداية ولاية ثانية قد لا تكون رحيمة بالجالية الإسلامية في فرنسا.

قفاز يميني في يد يسارية

قبل الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بدأت الجالية الإسلامية في فرنسا الحشد للتصويت لصالح جون لوك ميلانشون، مرشح اليسار الراديكالي، فالرجل وإن كان له موقف سابق مُعادٍ لأحد مظاهر الإسلام وهو الحجاب، حيث تعجَّب من أن “الله” مهتم به لهذه الدرجة، إلا أن برنامجه الانتخابي كان الوحيد الذي لا يستهدف المسلمين، بل يدافع عنهم ضد ماكرون واليمين المتطرف.

كان اختيار جون لوك ميلانشون من طرف 85% من المصوتين المسلمين عاديا ومتوقعا، فالجالية الإسلامية في فرنسا لا تبحث عن مرشح يدافع عنها، بل هي قنوعة بمرشح يعاملها بعدل ليس إلا، ولا يُفرِّق بين المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات. بيد أن رغبات الجالية الإسلامية ضاعت بعد أن فشل ميلانشون في الوصول إلى الدور الثاني إثر تخلُّفه بنسبة ضئيلة عن مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني اليميني التي فازت ببطاقة الدور الثاني رفقة إيمانويل ماكرون. وقد عادت هذه النتيجة بعجلة الزمن إلى سنة 2017، حيث بات الخيار الوحيد أمام المسلمين هو إيمانويل ماكرون، ولو أن الاختيار لم يكن سهلا هذه المرة، فقد تغيَّر الرئيس الفرنسي في السنوات الخمس الماضية، وأظهر ميولا يمينية مضادة للمسلمين.

قدَّم ماكرون نفسه سنة 2017 بوصفه مرشح صوت العقل أمام التيارات الفاشية، وأتت مشاركته في حكومة هولاند الاشتراكية لتُظهِره بمظهر اليساري الذي توقَّع الجميع أن تكون مشكلاته أقل مع الجالية الإسلامية، لكن ما حدث في الأخير هو عكس المنتظر حينئذ، فلم يُضيّع ماكرون الوقت، وسرعان ما بدأ العمل بسرعة على خطة تركز وتراقب الأقلية المسلمة عبر التضييق على فعاليات المجتمع المدني الإسلامي؛ ما جعل عمل هذه الجمعيات (وتحتها عدد من المساجد) شبه مستحيل.

انطلقت في عهد الولاية الأولى لماكرون حملة إغلاق كبرى للمراكز الإسلامية والمساجد في شتى الجهات، وتشير أحدث الأرقام إلى وجود أكثر من 718 مسجدا ومركزا إسلاميا ومدرسة مستقلة تم الإجهاز عليها بعد أن فُتِحت تحقيقات تستهدف 24 ألف مؤسسة إسلامية، فيما بلغ حجم الأموال التي وضعت السلطات الفرنسية يدها عليها حوالي 50 مليون دولار، ونحن نتحدث هنا عن جالية تعيش أعلى معدلات الفقر والعوز الاقتصادي في البلاد، وتجد صعوبة كبيرة في الإبقاء على مشاريعها قائمة في ظل العجز المالي الكبير. ومن ثَم ضاعت وعود ماكرون بالعمل على خلق مجتمع أكثر انفتاحا وسط الحسابات السياسية.

في فرنسا، سوف يُنظَر إليك على أنك نازي أو فاشي إذا خرجت بتصريحات عنصرية وكان اسمك هو “جون ماري لوبان”، لكن يمكنك الخروج بالتصريحات نفسها وإقناع الناس بها إذا كان لديك اسم آخر، “نيكولا ساركوزي” مثلا، أو “فرانسوا هولاند”، وبالطبع “إيمانويل ماكرون”. لقد استغل الأخير بالتحديد تحوُّلات الساحة السياسية في ولايته الأولى لتتحول معها إدارته إلى مرتع للأفكار الفاشية، مثلما جرى مع “قانون الانعزالية الإسلامية” سيئ السمعة الذي أوضح بجلاء نوايا الرئيس الفرنسي السياسية للتضييق على المسلمين.

باتت فرنسا في عهد الرئيس الحالي بلدا مجهزا بترسانة قانونية حديدية لمحاربة الوجود الإسلامي، وأصبح الفاعلون المسلمون بين خيارين، إما الخنوع التام وممارسة أنشطتهم حسب مذهب فرنسا في قراءة الإسلام، وإما التضييق ثم السجن أو الغرامة. وقد استعملت الحكومة الفرنسية بجانب هذه القوانين خطوات موازية، مثل وثيقة “إسلام فرنسا” التي فُرضت على الجمعيات الإسلامية، بالإضافة إلى تأسيس بعض الهيئات الإسلامية التابعة مباشرة لوزارة الداخلية منها منتدى “إسلام فرنسا”. ولم يتوقف التغيير عند هذا الحد، فقد تميَّزت فترة ماكرون بمنع الحديث عن “الإسلاموفوبيا”، إذ خضعت الحكومة للأفكار العنصرية التي تجد أن معاداة الإسلام أمر مبرر، وهو ما حفَّز الفرنسيين للنظر إلى المسلمين على أنهم خطر يهدد سلامتهم الشخصية وسلامة مجتمعهم.

الدفاع عن المسلمين.. مجددا

اختار ماكرون مدينة مارسيليا في فبراير/شباط الماضي لتنظيم منتدى “عالم البحر الأبيض المتوسط”، لم يكن اختيار هذه المدينة المعروفة بجالياتها العربية الكبيرة اعتباطيا، فقد عمل ماكرون ولو بطريقة غير مباشرة على إعادة ربط خيوط التواصل مع الشباب المغاربي المسلم لأنه يعلم جيدا أن أصوات الجالية المسلمة تلعب دورا أساسيا في حسم السباق الانتخابي، خصوصا في الدور الثاني. بدت إستراتيجية ماكرون شبيهة بتلك التي نهجها عام 2017 حينما داعب الجالية العربية بإدانة “جرائم حرب فرنسا في الجزائر”، وحصل الرئيس الفرنسي حينها على 90% من أصوات المسلمين.

لا يُخفي الرئيس الفرنسي فخره بما قدمه حتى الآن في ملف محاربة “الانعزالية الإسلامية”، لكنه يرى أن فرنسا التي تحترم نفسها لا يمكن أن تمنع الحجاب في الشارع رغم موقفه السلبي منه، كما أنها لا يجب أن تمنع المسلمين واليهود من أكل اللحم المذبوح وفق شريعتهم. وخلال الحوار الانتخابي، اتهم الرئيس الفرنسي منافسته مارين لوبان بالعمل على إشعال فتيل حرب أهلية في حال أصرت على منع الحجاب إن انتُخبت رئيسة للبلاد معلقا: “ما تحاولون القيام به، سيدة لوبان، هو خيانة لفرنسا، كيف يمكنكم الدفع بملايين المواطنين إلى خارج الفضاء العام؟”.

أدرك رئيس حزب “الجمهورية إلى الأمام” أن الإطاحة بمارين لوبان لن تتم إلا بالعمل على الظهور كصاحب مشروع حقيقي مُعادٍ للتطرف اليميني، لكن دون المخاطرة بخسارة القاعدة الشعبية اليمينية في الوقت نفسه. وفيما يبدو، استند ماكرون إلى سياساته المناهضة للمسلمين خلال ولايته الأولى لطمأنة الجمهور اليميني دون دفعه تماما إلى التصويت لصالح عائلة لوبان سيئة السمعة. أما “مارين” فأبدت من جهتها نوعا من التلطف والرفق خلال حديثها عن المسلمين، مؤكدة في أكثر من مناسبة أنها ستحمي المسلمين من الإسلاميين الأصوليين، وفي هذا الصدد أتى عملها على منع الحجاب، إذ تعتبره لباسا أيديولوجيا إسلاميا لا زيا دينيا، مستثنية من هذا المنع الجدات والأمهات اللاتي عشن حياتهن يرتدين وشاحا يعبر أكثر عن ثقافتهن وبلدهن، لا عن عقيدة وأيديولوجيا بالضرورة.

في آخر حواراته مع قناة تشتهر بنشر مقاطع “الراب”، عبر ماكرون عن رفضه تصريحات بعض وزراء حكومته، وخصوصا وزير التعليم “جون ميشيل بلانكير”، الذي أكد أنه لا مكان للحجاب في المدارس الفرنسية، والذي عُرفت حقبته الوزارية بفتح نقاش حول منع الأمهات المحجبات من مرافقة أبنائهن لـ”الخرجات المدرسية”. وقد أبدى الرئيس الفرنسي في هذا الحوار تفهُّما لقناعات الناس الدينية، معتبرا أن منع المسلمات من الاندماج في حياة أبنائهن المدرسية يعني إخراج الأبناء من مدارس الجمهورية، وهو أمر يعني خسارة جيل جديد من أبناء المهاجرين. ولم يُبدِ الرئيس الفرنسي في اللقاء نفسه أي ندم حول تصريحاته السابقة بخصوص “الأزمة التي يعيشها الإسلام”، معتبرا أن الخطوات التي أقدم عليها واعتبرها الكثيرون استهدافا للإسلام والمسلمين لم تكن سوى محاولة إيجاد مكان لهذا الدين في الفضاء الفرنسي، قائلا إنها لم تكن سوى اعتراف صريح بأهمية الإسلام في المجتمع الفرنسي.

سؤال الولاية الجديدة

مع وصول ماكرون ولوبان إلى الدور الثاني، لم يجد الرئيس الفرنسي حرجا في الاستعانة بأصوات المسلمين من أجل الفوز في الانتخابات، فلم يستنكر خروج مسجد باريس لتنظيم إفطار بهدف الدعوة إلى التصويت لصالح ماكرون ضد مارين لوبان ممثلة اليمين المتطرف. كان الرئيس الفرنسي سعيدا ربما وهو يشاهد المقطع الذي يدعو فيه “شمس الدين حافظ”، الرجل الأول في مسجد باريس الكبير، المسلمين إلى التصويت لصالحه والوقوف في وجه لوبان من أجل الحفاظ على كرامة أبناء المسلمين في المستقبل والتصدي لمشاريع الكراهية.

أسفرت النتائج عن تصويت 85% من المسلمين لماكرون بالفعل، ولم تكن غالبية المصوتين من المقتنعين بمشروع الرجل، خصوصا فيما يتعلق بالدفاع عن الجالية المسلمة، بل كان تصويتا اضطراريا لمنع صعود لوبان الأسوأ بالنسبة إليهم. لكن، وبما أن الرئيس الفرنسي لم يُبدِ ندما كبيرا على التضييق الذي عاشه المسلمون في ولايته الأولى، يتوقع مراقبون أن تواصل موجة “الإسلاموفوبيا” الصعود في فرنسا خلال ولايته الثانية، إذ إن جميع الأسباب الموضوعية لها حاضرة وقائمة، فمن المستبعد جدا أن تتغير بعض سياسات ماكرون الداخلية، وهو الذي يعمل على تمريرها داخل الاتحاد الأوروبي مستغلا ترؤُّس فرنسا للاتحاد في الدورة الحالية.

صحيح أن هناك فارقا واضحا بين ماكرون ولوبان في فلسفة الحكم، فالأول يستغل العنصرية المنظمة لتثبيت أركان حكمه، أما الثانية فتحلم بالعكس، استغلال الحكم لوضع أسس عنصرية واضحة لتسيير المجتمع، فإن الخيار بالنسبة إلى المسلمين بات ينحصر بين تضييق وتضييق أشد. في النهاية، ليس من المتوقع أن تتبدَّل سياسات ماكرون رغم قطعه بعض الوعود على نفسه بفتح تحقيق في انتشار الكراهية والعنصرية ضد الأديان، فالرجل لن يتردَّد في مواصلة خطواته المضطردة لتشديد الخناق على المسلمين، وعلى الأقل هذا الذي يبوح به برنامجه، إذ يعد الرئيس القديم الجديد بمواصلة العمل على مشروعه الرامي لتتبع ما يسميه “الانعزالية الإسلامية”.

تبدو خطط ماكرون للجالية المسلمة واضحة للكثيرين إذن، وهوما دفع  “غالب بن شيخ” نفسه، رئيس مؤسسة “إسلام فرنسا” المُقرَّبة من الدولة، والمُصنَّف في فرنسا على أنه مسلم ليبرالي متوافق مع قيم الجمهورية؛ إلى القول إن ميلانشون كان اختيارا منطقيا للمسلمين لأنه الأقرب للدفاع عن وجهة نظر المسلمين كما هو حال اليسار دوما، فيما يتنافس المرشحون الآخرون على استهداف هذه الجالية التي تعيش على هامش المجتمع.

على كل حال، لن يكون من المنتظر أن يعيش المسلمون في فرنسا أجواء حرية أكبر، فقد دفعت السياسات الحكومية والتغطيات الإعلامية المنحازة المجتمع إلى النفور من المظاهر الإسلامية، فزادت وتيرة الاعتداءات على المسلمين منذ سنوات، وباتت شرائح كبيرة من المسلمين تفكر في الهجرة إلى الخارج بوصفها حلا أخيرا، ليس فقط بسبب سياسات ماكرون، ولكن لأن حزب لوبان -طال الزمان أو قصر- بات يقترب رويدا رويدا من الحكم إن ظل هو على الوتيرة نفسها وواصل حصد أعداد أكبر من الأصوات في كل استحقاق.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • بنعباس
    منذ سنتين

    لم ينخرط كل الفرنسيين المسلمين في الانتخابات الأخيرة لعزوفهم الكبير عن العملية لهذا وجبت التعبئة الجماعية إعلاميا وفي جلساتهم لفرض وجودهم بكل الوسائل المشروعة طبعا من كتابة وتوضيح وانخراط في السياسة لكونهم لحد الساعة غائبين عن الردود لكل الاتهامات الباطلة الموجهة إليهم أصبح انخراطهم ضرورة وليس اختيار منظمين، مدافعين عن حقوقهم