وجهة نظر

افتقاد وتفقد لمعاني الأسماء ومعنى العمل في إطار الدعوة إلى الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد فإن أقوالنا وأفكارنا وشعاراتنا تظل بلا معنى إذا لم نترجمها سلوكا في الواقع وفي تفاصيل الحياة.. ليس تعالما على أحد وإنما تذكيرا لنفسي ولإخواني .. “فلنتذكَّر أسماءنا” كما قال شاعر يوما..

في افتقاد معاني الأسماء :

لا معنى لأن أحمل فكرا ثوريا وأنا دودة لزجة تدوسها الأقدام تحت طائلة الخنوع والخضوع لسلطة الأقوى ماديا ومعنويا ..

لا معنى لأن اكون ليبراليا وأنا غارق في التقليد والارتهان للجهة التي تمثل خياراتي الفكرية واختياراتي الاجتماعية .. أعاني جنوحا حادا نحو اليمين .. مسارعا الى اللِّواذ بالدولة أو السلطة لتضبط لي رقعة تدافعاتي السياسية والاقتصادية متى تزحزت تحت قدمي..

لا معنى لأن أرفع شعار الديموقراطية إذا كنت لا أرضى إلا بديموقراطية على مقاس قناعاتي السياسية والايديولوجية ولا تأتي إلا بمن يشبهونني سمتا وصوتا ..

لا معنى لأن اكون اشتراكيا وأنا غارق في نمط استهلاكي معاكس ابتداءا وانتهاء، وإجمالا وتفصيلا لكل ما أدَّعيه وأرفعه من شعارات وأتبناه من خيارات ..

لا معنى لأن أكون صوفيا متزهدا مع أن قلبي مليء بالكراهية والجشع والأثرة .. محتفيا بالمظاهر قليل الاحتفال بالمخابر .. شديد الإذاية للناس .. بليد الإحساس .. باردا .. لا أكاد أبصر غلوائي أو أحاسب نفسي على أخطائي ..

لا معنى لأن أكون مثقفا، ثم أكون إمعة لا أُحسن إلا ترجيع الأصداء وانتظار الشكر من الأصدقاء وبلوغ النكاية من الأعداء .. لا أتمعر للبلوى تنزل بالناس، ولكن أتقعر القول في طلب الخلاص لهم .. طلبي على رضى الخليقة ولو على حساب ما أراه من الحقيقة .. قليلَ الادب .. وفي لساني ذَرَب .. عقربيَّ السلوك في الخصام .. أُفْعُوانيَّ المسالك عند الوئام .. مُدَّعِياً علماً لا أحسنُه، ناقفا فكراً لا أتقنه .. الثقافة عندي لقاءات ومجاملات، وخلافات ومجادلات، ونوادٍ وصالونات، ومنصات ومكرفونات، وصورٌ تَلْمَع، وبطاقاتٌ تُرْفَع، وكلماتٌ مهما تجوَّفَتْ تُطْبَع..

لا معنى لأن أكون مناضلا عن الحق سالكا إليه بالباطل .. وعن الجمال دالفا إليه بالقبح .. وعن الإنصاف متوصلا إليه بالإجحاف .. وعن العدالة مرتقيا إليها بالظلم .. وعن الدين متجَلْبِباً فيه بِقِلَّةِ الدين .. وعن الدَّعوة مُتَوَسِّلاً بتنفير الناس مما أدعو إليه، وبسلوك نقيض ما أدعو إليه ..

في تذكُّر معنى العمل في إطار الدعوة إلى الله تعالى :

ولا معنى لأن أكون ابنَ الحركة الاسلامية، وربيبَ الدعوة الاسلامية التي رأسُمالها بالأساس الأخلاق التي يُثْمِرها الالتزام بالدين المحمدي الداعي إلى مكارم الأخلاق، وإلى الدعوة بالحسنى، وإلى قول التي هي أقوم، وإلى الدفع بالتي هي أحسن .. إذ الأمرُ عنده ” قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ”(سورةالبقرة 263) .. وتحذيرُه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ” (سورة البقرة264) ..

فأية دعوة إلى الأخلاق والالتزام من قليلي الأدب ضعيفي الاتزان؟ .. وأيُّ التزام بالدين ممن لا يعمل بقول رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”؟ .. وأية دعوة ممن لا يقرأ قول الله تبارك وتعالى: ” ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (سورةالنحل125)، هذا مع الكافرين، الملحدين في الكليات والمعلومات بالضرورة من الدين، فكيف مع المسلمين، والمومنين المخالفين في الجزئيات والفرعيات؟ بل وفي المسائل التي هي مناط الاختلاف تبعا للتباين في التقدير والتفوات في الفهم والنظر؟ ! وهو ما يزكيه بعد ذلك قوله تبارك وتعالى : “وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ” (سورة النحل 127-128) .. وأي شيء يريده الذي يزعم العمل للإسلام في سبيل الله أكثر من معية الله له؟ ألا إن معية الله تكون للذين اتقواْ والذين هم محسنون !!

فأيُّ عمل إسلامي يُرجى ممن تضيق صدروهم بأحبابهم من إخوانهم زعما بأن قد شَطَحَتْ بهم أفكارهم وفهومهم؟ .. عجبا! .. أَوَ لَمْ يَروا كيفَ تشطح بهم دوما نفوسُهم، وتَشِطُّ بهم ألسنتهم، فيفلتون سهامَها ولا يملكون زمامَها؟ همزا تارة؟ ولمزا تارة؟ وقذفا تارة؟ وشتما؟ غيرةً لله زعموا وهيهات ! .. فأينهم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أخذ بلسان سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه معلما: كُفَّ عليك هذا! فقال سيدنا معاذ : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال عليه الصلاة والسلام:”ويحك يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوهِهِم إلا حصائد ألسنتهم؟!” .. وكيف بهم في غَدٍ قريب يراه بعضُ من دَرَاه ويعمى عنه من انتقضت عُراه، وقد أتتهم البلوى في عقر دورهم خلافا شديدا مُمِضًّا مع فلذات الأكباد الذين قطعا لن يجدوا لديهم مع فقرهم المعنوي الشديد أجوبةً تشفي ولا أخلاقا عند عجز الأفكار تفي؟ .. فلسوف يرون حينها متأخرين كيف أن منهج قلة الأدب يُحَوِّلُ الاختلاف إلى خلاف، والخلافَ إلى خلافٍ شديد، والخلافَ الشديد إلى شملٍ بديد ! ومصداق ذلك في الكتابِ العزيز وهو عمدتنا نأرز إليه ما حزبتنا الدنيا وضيَّقَ علينا الناس لننهل الحكمة .. قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم :”فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ” (آل عمران 159) .. وهي سنة ماضية تقضي بأن يتنفض عن هؤلاء القليلي الأدب (ولا فرق فيها بين شبِيبَة وشَيْبَة) النفوس الحرة الأبية، والعقول الوقادة الذكية، ليلتفّوا بالرّداءات وأرباب الحماقات من أصحاب النفوس الضعيفة والعقول السخيفة ولو على صلاح عام، فهم يُرَجِّعون الصدى ولا يُجَلُّون الصدا..
ولقد آن للدعوة الى الله أن تنتفض لنفسها .. وأن تغارَ على حقيقتها .. وأن تصدَح بكلمتها .. لقد آن لطريق العمل الاسلامي أن تتسدَّد بوضع نقاط الحقائق والأذواق على حروف الشعارات والأشواق .. بل لقد آن الأوان أن نقولها صريحة .. لا عمل إسلامي بلا دعوة .. ولا دعوة بلا تربية .. ولا تربية بلا حقيقة .. ولا حقيقة بلا سلوك .. ولا سلوك مع الرضى بالعاهات والقبول بالتشوهات والتغافل عن الزلات …
ألا إن الدين النصيحة .. ألا إنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر -كما قال سلفنا الصالح رضوان الله عليهم- إلا من توجد فيه ثلاث خصال: أن يكون عالما بما يأمر عالما بما ينهى، رفيقا فيما يأمر رفيقا فيما ينهى، عدلا فيما يأمر عدلا فيما ينهى ..
والحمد لله رب العالمين