منوعات

التفكير بدون توقف أكثر الشكاوى النفسية شيوعا.. هل هو مرض أم تجربة بشرية طبيعية؟

يعاني البعض من التفكير الزائد عن الحاجة، فلا يخرج من سيناريو “ماذا لو؟” حتى يدخل في آخر، ليبقى رهين دوامة من التفكير لا تنتهي.

ويتمنى هؤلاء لو أن أدمغتهم تريحهم من خوض غمار التفكير الزائد، والذي عادة ما لا يفيد لا في حل مشكلة ولا في إبداع أفكار خلاقة، بل يسبب لهم القلق، ويمنعهم من التركيز. وتكون مشكلة التفكير الزائد أخطر لأنه يمتد إلى الليل، ولا يشفع تعب الجسد في استجداء بعض النوم في الاستمتاع بالقدر الذي يشبع الحاجة إليه.

فلماذا هذا التفكير الزائد؟ ولما تسيطر علينا مسلسل السيناريوهات الخيالية ولا نستطيع الفكاك منها؟  لماذا يأسرنا الماضي حتى حين لا يكون له أي تأثير على الحاضر والمستقبل؟ ونغرق في تأنيب الذات بشكل مفرط؟ وما هي أهمّ الخطوات التي قد تساعد على التغلّب عليه والحدّ مما يرافقه من أعراض وأعباء نفسية سلبية؟ وما هي المهارات والعادات التي يستطيع أيّ شخص أن يتعلّمها ويطبّقها للتحرّر من أسرِ هذه المشكلة؟

المقال التالي، حسب الجزيرة نت، يقارب الإجابة عن تلك الأسئلة، وتسليط الضوء على ظاهرة التفكير الزائد، أو ما يُدعى بالإنجليزية بالـ”Overthinking”.  مستعينا بأقرب المفاهيم والمصطلحات العلمية لهذه الظاهرة، والدراسات التي أجريت عليها.

ما التفكير الزائد؟

من المهمّ التنويهُ بدايةً بأنّ “التفكير الزائد” ليس مَرَضًا بحدّ ذاته، بل هو تجربة بشرية سنمرّ بها جميعًا -نحن البشر- يومًا ما على الأقل. ورغم أنّه أحد أكثر الشكاوى النفسية شيوعًا على مستوى العالم، فإنّه ليس مصطلحًا علميًّا، بل مفهوما عامٌّا وغامضا بعض الشيء وقد يعني الكثير من الأمور. لذلك لن نجده في أيّ مراجع علمية متخصصة، لكنّ المصطلح العلمي الأكثر قُربًا من المقصد في معظم الحالات والأكثر تداولًا في أبحاث علم النفس هو “الاجترار”  ، (بالإنجليزية:  Rumination).

والاجترار لُغَويًّا هو إعادة الكلام نفسه في كل مرة، أو إعادة ما في البطن ومضغه مرة ثانية (ولذلك هناك متلازمة مَرَضية تتعلق بالجهاز الهضمي في الطب اسمها متلازمة الاجترار). واجترارُ الفكرة هو إجالتها في الذهن وإعادتها وإدارتها.

وفي علم النفس، يُعرّف الاجترار -مع بعض الاختلافات بين المراجع المختلفة- على أنّه شكلٌ من أشكال الاستجابة للضغط النفسي، ويتمثّل بالتركيز بشكل متكرّر وتلقائي على التفكير بأسباب وعواقب حدَث أو مشكلة ما وعلى المشاعر الحاضرة والمتولّدة عن ذلك. ويتميّز الاجترار بأنّه لا يقود إلى حالة من التفكير الفعّال لحل مشكلة ما، بل على العكس، يظلّ الشخص أسيرًا للمشكلات والمشاعر دون أخذ زمام المبادرة على صعيد السلوك والفعل.

وغالبًا ما يكون الاجترار مرتبطًا بالماضي، وهذا أحد الأوجه التي تميّزه عن القلق الذي يرتبط بالمستقبل، كما أنّ القلق أكثر ارتباطًا بالسلوك والفعل من الاجترار، وغالبًا ما يسعى القَلِق لتجنّب شيء ما، بينما يتمثّل هدف الاجترار في محاولة الفهم أو لا يكون هناك هدف معيّن سوى الاجترار بحد ذاته.

وعلى أيّ حال، يُعتبر القلق والاجترار شكلين من أشكال التفكير السلبي المتكرّر، وقد يتقاطعان في بعض الأحيان.

إذن، قد يقصد البعض بالتفكير الزائد القلق وليس الاجترار، لكنّنا سنركّز هنا على مفهوم الاجترار؛ لأنه الأكثر شيوعًا وما يقصده معظم الناس عند الحديث عن التفكير الزائد.

لماذا التفكير أكثر مما ينبغي؟ ولماذا لا أستطيع التوقّف عنه؟

التفكير الزائد والقلق والاجترار ليست ظواهر يمكن التعامل معها ببساطة.

قد يدرك الإنسان أن التفكير الزائد ليس جيّدًا، ولكن هذا الإدراك لا يُجدي نفعًا بالضرورة. فالتفكير الزائد والاجترار لا يأتيان بقصدٍ منّا، بل بشكل تلقائي وكأنّه عادةٌ متأصّلة فينا ويصعب الفكاك منها رغم ما تسبّبه من ضيق.

كما أنّنا لا نفكّر بالأشياء بشكل مفرط لأسباب اعتباطية دائمًا، بل قد تكون هذه مؤشّرات لوجود مشاعر دفينة تجاه قضايا أو حوادث معينة لا نستطيع تجاوزها بالطرق المعتادة، فيكون تجاهلها إهمالًا لفرصة لفهم الذات بشكل أفضل.

بالإضافة لذلك، قد يشتّتنا التفكير عن الشعور المباشر بالألم، ويمنحنا بالمقابل شعورًا بالسيطرة على الأشياء (طالما أنّها داخل نطاق إدراكنا) وأنّنا أكثر قدرةً على التعامل مع المستقبل ما دُمنا نفكر كثيرًا في الماضي بجوانبه المختلفة.

هذا كلّه يساعدنا لكي نفهم الظاهرة على مستوى أعمق، ونتجاوزها في نهاية المطاف.

لا يمكن حصر العوامل التي تلعب دورًا في زيادة حدوث التفكير الزائد أو الاجترار لدى الشخص، فهي كثيرة ومتنوعة، إلّا أنّ من أهمّها: الجينات، ونمط الشخصية العُصابيّ (أي التي تمتاز باتزان انفعالي أقل)، والتعرّض للصدمات، ونمط الشخصية الكمالية (Perfectionist)، ووجود بعض الاضطرابات النفسية مثل اضطرابات القلق والاكتئاب، بالإضافة إلى جنس الشخص، فقد وُجد أن النّساء عمومًا أكثر ميلًا للتفكير الزائد والاجترار.

هناك ارتباطٌ أساسيٌّ بين الاجترار والعديد من التشوّهات الإدراكية وأنماط التفكير السلبية مثل: فقدان الأمل، التفكير بطريقة أبيض-أسود، جَلد الذات، التشاؤم والانحياز نحو السوداوية والسلبية. غالبًا ما يركّز الإنسان عند ممارسته للتفكير الزائد أو الاجترار على الإخفاقات وعلى جوانب القصور ومظاهر الضعف والأخطاء والسلبيات. ومن الجدير بالذكر أنّ هذه السلبيات قد لا تكون حقيقية، بل متخيّلة، أو أن لها أساسًا في الحقيقة لكنه يضخّمها بشكل كبير (مثال: “أنا إنسان سيئ بالكامل”، أو “ليس هناك أي أمل بعد اليوم”). وبحسب نظرية أشكال الاستجابة (Response Styles Theory)، يلعب الاجترار دورًا محوريًّا في التسبّب بالاكتئاب والضغط النفسي وفي إطالة مدّته.

وقد درست العديد من الأبحاث اللاحقة علاقة الاجترار بالاكتئاب، واستطاعت صياغة نماذج قوية مدعومة تجريبيًّا تفسّر وساطة الاجترار ما بين سِمة العُصابية (Neuroticism)  لدى الشخص وحدوث الاكتئاب لديه، أي أن الأشخاص ذوي النسب الأعلى في سمة العصابية أكثر عُرضة بكثير للاكتئاب في حال اجترارهم من عدمه (وكأنها السبب الرئيسي الذي يسبّب الاكتئاب لديهم).

على صعيد آخر، لم تكتفِ الدراسات ببحث الرابط بين الاجترار والاكتئاب، بل امتدّت حتى وجدت العديد من العلاقات القوية ما بينه وبين اضطرابات الأكل والنوم والإدمان والأفكار الانتحارية وعلوّ نسب هرمون الكورتيزول (المرتبط بالضغط النفسي وأمراض القلب ومقاومة الإنسولين).

ومن المثير للانتباه هنا أنّ الاجترار كان مرتبطًا بمشكلات في النوم حتى في حال عدم وجود مشاعر أو أفكار سلبية لدى الشخص. وفي بحث مهمٍّ اتّبع منهج التحليل التّلوي (Meta-analysis)، والذي يُعدّ أقوى منهج في عالم الأبحاث العلمية، وجد الباحثون أن الاجترار كان أكثر وسيلة إدارة انفعالات وعواطف سلبيةً من حيث ارتباطها بالاضطرابات النفسية، لدى مقارنتها بوسائل الكبت والتجنّب وحل المشكلة والتقبّل وإعادة التأطير(Reappraisal).

إذن، من المهمّ هنا إدراك أنّ الاجترار لم يكن مؤشّرًا فقط على الاضطرابات والمشكلات النفسية أو نتيجةً عنها، بل أيضًا متنبّئًا بها في بعض الأبحاث! وهذا ما دفع بعض علماء النفس حديثًا لتسليط الضوء عليه بشكل أكبر، ومحاولة إيجاد حلول وتوصيات للحدّ منه على أنّه نمط سلبي من التفكير، قبل أن يصل إلى مرحلة تسبُّبه بمشكلات مَرَضية حقيقية.

ماذا أفعل كي أتخلّص من التفكير الزائد؟

  • أوّلًا: افهم طبيعة الأفكار الاقتحامية واجترار المخاوف والتفكير الزائد

كالعادة، في المجال النفسي، تكمن بداية حل المشكلة في الوعي بها وتسميتها بالاسم الصحيح أوّلًا. وعيك بها وبأوقات حدوثها سيجعلك أكثر توجّهًا لإدراك جذورها الحقيقية ومن ثمّ مواجهتها، فحين تعرف مثلًا أنّ تفكيرك الزائد متركّز على مواقف اجتماعية تشعر بالحرج منها، وأنّ هذا لا يحدث إلّا قبل النوم، سيقودك هذا إلى حصر المشكلة في سياق معين.

من المهم أيضًا التفريق بين التفكير الزائد والاجترار من جهة، وإستراتيجيات التخطيط وحل المشكلات من جهة أخرى، فالأخيرة هي وسائل تأقلم إيجابية وفعّالة، بينما يكتفي الاجترار بالتحليل والتفكير الزائد بالمواقف المسبقة دون المبادرة بالفعل؛ ما يوقعك فيما يُدعى بشلل التحليل (Analysis Paralysis)، والمشكلة أنّك كلما بذلتَ المزيد من الجهد في التحليل والتفكير سيزداد حضوره وعمقه.

من الإستراتيجيات الجيدة هنا هي الكتابة، لأنّ الكتابة تفعّل إرادتك الحرّة جيّدًا، وتساعدك على نقل الأشياء والأفكار من اندفاعات غير إرادية مصدرها اللاوعي إلى حيّز خارجي، فتستطيع التعامل معها بموضوعية أكثر. ومن الممكن أن تساعدك بعض تقنيات العلاج المعرفي السلوكي مثل سجل الأفكار (Thought Record).

ثانيًا: حافظ على روتين يومي صحي

إنّ المحافظة على أركان الحياة الصحّية بشكل جيّد تقلّل من احتمالات حدوث تفكير زائد أو اجترار للأفكار، وتقلّل من شدّته في حال حدوثه. فمن المثبت في الأبحاث العلمية المختلفة أن عادات النوم والغذاء الصحية والرياضة تُبقي الحالة النفسية كلّها متّزنة بشكل جيد، وأنّها أيضًا تساعد على تخطّي حالات الضغط النفسي التي لم تتطوّر بعدُ إلى اضطرابات نفسية، كما أنّها تستخدم بوصفها عاملًا مساعدًا في علاج عدد من الاضطرابات النفسية منها القلق والاكتئاب.

  • ثالثًا: انشغل انشغالًا إيجابيًا

يمكن أن تجد أحد مفاتيح التعامل مع التفكير الزائد والاجترار في تحويل التركيز من العالم الداخلي إلى الحيّز الخارجي، ومن عالم الأفكار المجرّد إلى حيّز الفعل الواقعي. قد يخلق العملُ انفعالات ومشاعر إيجابية جديدة. وهذا ما تؤكّده دراسات تجريبية كثيرة: التشتّت بالانشغال الإيجابي يساعد على التغلّب على المزاجات والمشاعر وطرق التفكير السلبية.

من الجدير بالذّكر أن التشتّت الإيجابي المقصود هو الانشغال بما ينفع ويفيد الإنسان أو الآخرين. فالانشغال بتصفح الهاتف أو السوشيال ميديا قد يؤدي إلى نتائج عكسية، كما قد يسبّب مشكلات أخرى تعزّز الاجترار على المدى البعيد، مثل الشعور بالخواء والمقارنة السلبية مع الآخرين.

ولتتذكر المقولة الأثيرة: لا تأسَ على ما فات، إلا لتجتهد فيما هو آت.

  • رابعًا: مارس التأمّل

يساعدك التأمل على إيقاف دوائر التفكير الزائد والقلق والاجترار بالتركيز على التجربة الراهنة، وكأنّك تستريح بعض الشيء من مركزية الحرب مع عقلك. وقد أجريت تجارب لتختبر قدرة برامج التأمّل الموجّه على الخفض من مستويات الاجترار، واستنتجت فعاليّتها في تحقيق ذلك فعلًا. بل وجدت دراسة بحثيّة أن التأمّل -تحديدًا- أكثر قدرة على تخفيف الاجترار من ممارسات أخرى مثل الاسترخاء الجسدي(Somatic Relaxation).

ولا بأسَ أيضًا في الاعتماد على الممارسات والعبادات الدينية والروحانية التي تؤمن بها وترتاح لها للتخفيف من التفكير الزائد والاجترار. ما زالت الأبحاث التي تختبر العلاقة بين العبادات الدينية والاجترار قليلة، لكننا نجدها في السياق الغربي وخصوصًا في السنوات الأخيرة، والتي تشير إلى أنّ الصلاة والتعبّد ذات أثر نفسي إيجابي يُساعد المتديّن على تخطّي المحن وعلى تجاوز مخاوفه وأحزانه.

  • خامسًا: تحدّث مع مَن تثق بهم 

وجود الدعم الاجتماعي مهمّ جدًّا في أيّ نوع من المعاناة النفسية. وشعور الإنسان بوجود مَن يدعمه ويقف بجانبه لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر. ومن هنا، يكون الحديث مع الأصدقاء أو العائلة أو المقرّبين -في حال الوثوق بهم- وسيلة من وسائل التعامل مع التفكير الزائد بشكل أفضل. لكن من المهمّ أن يكون هذا الحديث بصيغة التنفيس أو الحديث البنّاء، لأنّه قد يتحول إلى اجترار مشترك (Co-rumination)، وهو ما يجعل الأمر أسوأ، لأنّه بمثابة التذمّر المعزّز من قبل طرف آخر؛ ما يؤجّج من المشاعر السلبية والتفكير الزائد.

  • سادسًا: كُن رؤوفًا بنفسك، وتعامل مع نفسك كما لو أنّك تتعامل مع صديق 

من مشكلات الاجترار أنّه يعزّز جلدَ المرء لنفسه وشعوره بالذنب والتقليل من قيمة نفسه. ويحدث هذا بشكل أكبر لدى مَن يمتلكون ميولًا كمالية (Perfectionist) في شخصياتهم. لذلك، من المهم محاولة الخروج من الاشتباك مع الذات من خلال رؤية النفس كغير (Self-compassion with self as other)، أو أن تحاسب نفسك إذا أردتَ وكأنّك شخصٌ آخر، فقد وجدت بعض الأبحاث أن التعاطف مع الذات عامل وسيط مهم ما بين الاجترار والضغط النفسي، ومن ثَمّ قد تكسر الحلقة السلبية بأن تتعاطف مع نفسك كما تتعاطف مع غيرك!

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *