وجهة نظر

التخطيط بالقيم.. فيلسوف الجمال محمد إقبال (الجزء الأول)

كاتب رأي

إن الانسان خلقه الله بمقومات الاستمرارية والتطور، ففكره ينمو معه ويبقى مستمرا في النماء والتطور الى ان يؤسس ما نسميه العقل الإنساني المدرك لقيم البناء الحضاري، ولكن الوضع ونحن نتحدث عن التخطيط الحضاري، في بنية العقل الطفولي الذي هو عقل لا يفكر، وحتى حينما يبدأ بالتفكير، فانه ينعدم فيه الابداع لأنه مولع بالتقليد.

وهاته الخاصية تجعله لا يفكر وحتى حينما يسعى الى التفكير فهو يفكر بلغة غائية أي ما يجعله لا يتيه في غاية أو في هدف محدد بعينه، بل يبقى سائحا في غيابات الهوى والامل الى ان يلقى الله.

وكذلك حال امتنا التي استلبت قيمها وهويتها وتاريخها، فهي امة عاجزة على إعطاء نمط ما بعينه.

ان الامة لا تكون امة بدون قيم ، وهاته القيم هي هويتها وهي تاريخها وهي انتماءها للجذور وللأرض التي اهتزت وربت بإذن ربها بمطر القيم الخيرية والعطاء الخيري في إنسانية الخيرية التي نحتاج اليها.

ان افول الامة ليست لحظة عابرة ولكنها لحظة تقشعر منها الابدان، لان على طول قرون خلت مازلنا لم نتحرك ورغم اننا نملك من مقومات النبوغ والتفرد، الا ان الطفولية المقيتة تنخر في عقلنا منذ قرون.

ان الامة لا ترجع امة الا بقطع صارم مع نمط من التفكير الذي يؤسس لعقلية المقلد والميت في إدراك مغزى حياته ووجوده في الحياة.

ولذلك سنسعى في هاته المقالة البحثية ان نناقش ما يخالج العقل والفكر من أفكار قد تؤسس لمنهج نسميه منهج التخطيط بالقيم، وهو يهدف الى إعادة النظر في النظرة القطعية لسؤال الاخلاق في علم التخطيط الاستراتيجي .

ان سؤال الاخلاق يدل بكل تجرد اننا امة كنا نفكر بقيم ونعيش على قيم لأننا امة الخيرية والقوة ،و ان حضور العقل والجوارح كان تحصيل حاصل ، لان سلوك العامة اصبح ثقافة مطلقة وشعبية في الافاق .

ولذلك كانت اللغة واضحة وكان الوعي القيمي في المجتمع ينبع من قناعة راسخة ان المدرك الجماعي لبنية المجتمع تتأسس على الاخلاق.

سنقسم هاته المقالة الى قسمين قسم نسعى فيه الى مناقشة مفكري سؤال الاخلاق في العقل الإنساني ونأخذ ثلاث مفكرين، من ثلاث قارات اولهم محمد اقبال من قارة اسيا هذا المبدع الشاعر الفيلسوف الذي اعطى ما اعطى في هذا الباب من فكر خلاق ومؤثر وشكل مداخل للعلاج لأزمتنا الأخلاقية.

ومفكر من اوروبا الذي أسس نظرية جديدة في التفكير الاجتماعي، وهو المفكر الفرنسي “بيير بورديو” Pierre Bourdieu  ( 2002-1930) الرمز الأهم في مجال علم الاجتماع في العقود الأخيرة، فلقد طرح ما يمكن أن نطلق عليه المشروع الفكري الأكثر شمولاً ورونقاً elegance منذ “تالكوتبارسونز” لقد قدم بإتقان نظرياته الاجتماعية المتميزة على مدار حياته الحافلة المليئة بالأحداث، وعكست هذه النظريات التزامه الدائم نحو العلم، وبناء المؤسسات الفكرية، وتحقيق العدل الاجتماعي.

ومفكر افريقي القارة عربي الأصل وجزائري المنطقة وهو المفكر مالك بن نبي هذا الفيلسوف الذي كان يكتب بلغة فرنسية قوية وبعقلية استشرافية لواقع مابعد الاستعمار الفرنسي الذي كان بمثابة مصنع إبادة هوياتية لموروث الثقافي العربي الإسلامي بالمنطقة.

والحديث عن البناء الحضاري تتداخله أفكار كثيرة وعرض ثلاث نماذج من التفكير ليست عملية سهلة ،لأن الإنتاج الحضاري في بناء القيم الجمعية ،هو عملية دائمة ومستمرة ،باستمرار الانسان وتمثله لقيم الخيرومقاومة الشر.

محمد اقبال وثورة الاخلاق:

محاولة محمد إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني في الاسلام» تعد واحدة من أهم المحاولات التي جاءت في سياق تجديد الفكر الإسلامي، لكنها المحاولة التي لم تتمم في العالم العربي والإسلامي, ولم يؤسس عليها الفكر الإسلامي المعاصر تراكماته المعرفية في مجال اهتمامه بقضية تجديد الفكر الإسلامي. وهي القضية التي ظل الفكر الإسلامي حائراً في طريقة التعامل معها، قبضاً وبسطاً، إقداماً وإحجاماً. ويعد هذا الانقطاع عن محاولة إقبال على أهميتها الفائقة، من أشد مظاهر الأزمة المعرفية في الفكر الإسلامي المعاصر.

المنزلة والقيمة

لعل أول عمل يمكن الرجوع إليه لمن يريد أن يتتبع ويؤرخ للأعمال والمؤلفات التي بحثت وعالجت موضوع التجديد في الفكر الإسلامي خلال القرن العشرين، هو عمل الدكتور محمد إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» والذي هو عبارة عن محاضرات، ألقاها إقبال باللغة الانجليزية، ما بين عام 1928م ـ 1929م، تلبية لطلب الجمعية الإسلامية في مدراس بالهند، وأكملها في مدينتي حيدر أباد وعليكرة الهنديتين، وصدرت في كتاب باللغة الإنجليزية مع بداية ثلاثينات القرن العشرين، وترجمت إلى اللغة العربية وصدرت في القاهرة، منتصف الخمسينات من القرن الماضي.

وقد اشتهر إقبال كثيراً بهذا الكتاب، ويعد كتابه الأساسي الذي يشرح فيه أفكاره وتأملاته، والفلسفة التي يتبناها ويدافع عنها، وطبيعة المهمة الفكرية التي يفترض أن ينهض بها المفكر المسلم في العالم الحديث.

كما أنه يمثل آخر مؤلفات إقبال غير الشعرية، وكسب اهتماماً يفوق بصورة لا تقارن رسالته لنيل الدكتوراه في الفلسفة، التي حصل عليها من جامعة ميونخ في ألمانيا عام 1908م، وكانت بعنوان «ازدهار علم ما وراء الطبيعة في إيران» والتي حاول فيها ـ كما يقول ـ أن يقدم رسماً لاستمرار المنطق الفكري الفارسي، وشرحه في الفلسفة الحديثة بصورة لم يتم شرحه من قبل ـ حسب ادعاء إقبال نفسه ـ وأن يبحث عن التصوف بالطريقة العلمية الأكثر تطوراً على حد وصفه، ويؤكد أن التصوف نتيجة لازمة لحركة القوى العقلانية والأخلاقية التي توقظ الروح من هجوعها إلى المبدأ الأسمى للحياة.

ومع هذه الأهمية التي يعطيها إقبال لرسالته، إلا أنها لم تعرف على نطاق واسع، ونادراً ما كان يُرجِع إليها الدارسين والباحثين، بخلاف كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام».

ولو لا هذا الكتاب الأخير, لكان من الصعب الكشف عن طبيعة فلسفة إقبال، وأسسها ومبانيها، والتعرف عليها بصورة منظمة، وإمكانية الحديث عنها، والعودة إليها. فقد جاء هذا الكتاب لينقل فلسفة إقبال من عالم الأدب إلى عالم الفكر، ومن عالم الشعر إلى عالم النثر. فإقبال كان بحاجة إلى هذا الكتاب لكي تُعرف فلسفته وأفكاره وتأملاته، بصورة يمكن تحليل عناصر تلك الفلسفة، والتعرف على أبعادها ومكوناتها، وأسسها ومبانيها. مع ذلك تبقى الضرورة قائمة للعودة إلى مؤلفاته الشعرية المفعمة بروح الفلسفة، ولتعميق المعرفة بفلسفته. فقد حاول إقبال أن يبلور فلسفته عن طريق الشعر، وحوّل الشعر إلى حكمة وفلسفة، وهذه هي عظمة الشعر حين يتحول إلى حكمة وفلسفة.

ولعل من حسن الصدف أن يكون هذا الكتاب في طليعة المؤلفات التي عالجت موضوع التجديد في الفكر الإسلامي، لكي يبدأ الحديث منه، ولا شك أنها بداية قوية، ولو كنا مخيرين في اختيار بداية لدراسة هذا الموضوع لما عدونا هذا الكتاب، وما قدمنا عليه كتاباً آخر.

لهذا كان يفترض أن يسجل كتاب إقبال بداية مهمة، تساهم في دفع وتطوير الحديث عن موضوع التجديد في الفكر الإسلامي. فنقطة البداية تشكل أهمية دائماً؛ لأنها تضع الأساس، وتكشف عن طبيعة المسار. وغالباً ما يعتني الباحثون في تحديد مثل هذه البدايات، ويبذلون جهداً في التعرف عليها، وقد تعترضهم العديد من الصعوبات في سعيهم إلى الوصول إليها؛ لأن من دون تحديد نقطة البدء لا يمكن معرفة الطريق، والوصول إلى الهدف.

ومنذ أن تعرفت على هذا الكتاب لفت انتباهي بقوة، لكونه يتطرق لموضوع تجديد التفكير الديني منذ وقت مبكر، يرجع إلى العقود الأولى من القرن العشرين، دون أن يُعرف هذا الكتاب على نطاق واسع، وبالشكل الذي يساهم في ترسيخ مفهوم التجديد في المجال الديني الإسلامي.

ومع أول معرفة بهذا الكتاب سعيتُ وباهتمام للوصول إليه. وكنت شديد الاهتمام بالاطلاع عليه، وتكوين المعرفة بفكرته أو أفكاره حول مسألة التجديد في التفكير الديني الإسلامي. وحين هممت بمطالعته وإذا بي أتعرف على كتاب اعتبرته واحداً من أثمن ما أنتجته المعرفة الإسلامية في العصر الحديث. وتعجبتُ حينها كيف يكون هذا الكتاب مغموراً ومجهولاً، وبعيداً عن التداول والاهتمام، وإلى اليوم لم يتغير وضعه الذي كان عليه من قبل، حيث ما زالت المعرفة به محدودة للغاية، وقليلون الذين تعرفوا على هذا الكتاب، واطلعوا عليه، حتى من المثقفين أنفسهم، ومن طلبة العلم كذلك.

وحينما اطلعتُ على هذا الكتاب وجدته بأنه كتاب لا تكفي مطالعته لمرة واحدة، كما هو حال عشرات بل مئات الكتب والمؤلفات التي تصدر هنا وهناك، لا تكفي مطالعته لمرة واحدة لجودة أفكاره وحيويتها، وعمق معارفه وغزارتها.

ولو كنا ندرك أهمية وقيمة هذا الكتاب لقلنا إن الفلسفة الإسلامية تنبعث من جديد مع هذا الكتاب، وإننا مع فيلسوف إسلامي لا يقل عن أهمية ومنزلة فلاسفة ألمانيا وإنجلترا وفرنسا، وفلاسفة أوروبا عموماً منذ ديكارت أبي الفلسفة الأوروبية الحديثة كما تصفه الدراسات الفلسفية هناك، إلى هابرماس في ألمانيا، أو كارل بوبر في بريطانيا، أو بول ريكور في فرنسا. ولم يكن غريباً على الإطلاق أن يأتي وصف الفيلسوف لإقبال من المفكرين الألمان، وهم الذين وُصفوا بأنهم يمثلون المنبع الثاني أو العصر الثاني للفلسفة في أوروبا، بعد عصر اليونان الذي مثل منبع الفلسفة الأول.

أقول هذا الكلام وإني أحترز دائماً من المبالغة، والحذر من الوقوع فيها. ولو كانت الفلسفة حية عند المسلمين في هذا العصر، لوجدنا في كتاب إقبال نبعاً جديداً للفلسفة التي تكتسب روحها وجوهرها من القرآن الكريم. وهذا ما سعى إليه إقبال بإدراك واسع وعميق منه وهو يحاول، كما يقول وبثقة عالية، إعادة بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديداً، آخذاً بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة.

البواعث والأرضيات

لقد شرح إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» طبيعة البواعث والأرضيات والسياقات، الذاتية والموضوعية والفكرية التي حرضته على تبني فكرة تجديد الأسس الفكرية والفلسفية للتفكير الديني، وتحديد طبيعة المهمة الفكرية التي أراد النهوض بها، والتي يفترض أن ينهض بها حسب رأيه المفكر المسلم في العالم الحديث.

فقد جاء هذا الكتاب بعد اضمحلال دولة الخلافة العثمانية، الحدث الذي غيّر معه صورة العالم الإسلامي برمته، وأحدث فيه هزة عنيفة للغاية، وفتح نقاشات واسعة ومتوترة بين معظم النخب الدينية والفكرية والسياسية حول حاضر العالم الإسلامي ومستقبله، النقاشات التي امتدت رقعتها على مساحة العالم الإسلامي، طوله وعرضه، من تركيا إلى مصر، ومن الشام إلى الهند. حيث وجد العالم الإسلامي نفسه، ولأول مرة أنه أصبح مجزأ ومفككاً بين أجزائه، وتلاشت ما بينه من رابطة حتى لو لم يكن لها من أثر إلا ذلك الأثر الرمزي الباهت. حيث كان من الصعب في العالم الإسلامي التفكير من دون هذه الرابطة، التي ظلت معه ما يزيد على ثلاثة عشر قرناً، تغذي إحساس العالم الإسلامي بذاته وكيانه وهويته.

ومع قيام ما سُمي بدولة تركيا الحديثة، التي أعلنت عن نهاية دولة الخلافة العثمانية، تفجر في العالم الإسلامي أيضاً نقاش وسجال، كان أشبه بصدام بين الأفكار والثقافات والمرجعيات. وذلك حين أرادت تركيا التخلي عن هويتها الإسلامية، والانسلاخ عن محيطها الإسلامي، والتنكر لتاريخها وتراثها وتقاليدها، واندفعت في المقابل وبقوة نحو أوروبا واللحاق بها، ولتكون قطعة منها. وتبنت العلمانية مرجعية فكرية وقانونية لها، وأخذ بعض مثقفي تركيا يبشرون بحماس واندفاع للأفكار والفلسفات الأوروبية، باعتبارها تمثل القاعدة الفكرية والمرجعية لبناء الدولة الحديثة، وللتكيف مع مقتضيات العالم الحديث، والولوج في عالم الحداثة والتقدم، ولإصلاح العالم الإسلامي والفكر الإسلامي، حسب منظوراتهم.
وقد أحدثت هذه الأفكار والاتجاهات جدلاً وسجالاً في وقتها، وكأن العالم الإسلامي أخذ ينقسم على نفسه فكرياً وثقافياً، مع اشتداد الجدل النقاش حول فكرة الهوية، وامتداد هذا الجدل لموضوعات وقضايا حساسة وحرجة للغاية مثل القرآن الكريم والعبادات والتشريعات الدينية، إلى موضوعات المرأة وقوانين الأسرة والأحوال الشخصية.

ولم يكن بالإمكان النقاش الهادئ آنذاك حول تلك الموضوعات الحساسة والحرجة, في ظل أمزجة نفسية وفكرية متضاربة، بين أمزجة يطبعها الاندفاع والحماس، وأمزجة تطبعها المخاوف، ويساورها القلق.

وأمام انكماش وتراجع العالم الإسلامي كانت أوروبا تتوثب للانقضاض عليه وتفكيكه وإحكام السيطرة عليه. فقد شعر الأوروبيون لأول مرة في تاريخهم الحديث، أنهم استطاعوا أن يوجهوا ضربة ساحقة ومؤلمة إلى العالم الإسلامي، بعد الإطاحة بدولة الخلافة العثمانية، التي أخافتهم بتعاظم قوتها العسكرية، وامتداد نفوذها الذي تجاوز محيط العالم الإسلامي ووصل إلى عمق أوروبا إلى فيينا وحدود فرنسا. وتصور الأوروبيون آنذاك أن باستطاعة دولة الخلافة العثمانية بعث وتجديد الحضارة الإسلامية في العالم الحديث، الخيال الذي كان يبعث في نفوسهم هواجس الخوف والقلق.

لذلك أخذ الأوروبيون يدافعون عن النموذج التركي الحديث، ويبشرون به، ويقدمونه إلى العالم الإسلامي على أنه يمثل النموذج العصري في بناء الدولة الحديثة. كما وجد الأوروبيون أيضاً فرصتهم في الترويج لأفكارهم ومرجعياتهم في العالم الإسلامي, الذي أصبح بحكم الواقع تحت سيطرتهم وهيمنتهم.

في ظل هذه الوضعيات والسياقات جاء كتاب إقبال، الذي اعتبر فيه أن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزع بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب، وكل الذي يخشاه إقبال هو أن المظهر الخارجي البراق للثقافة الأوروبية, قد يشل تقدمنا فنعجز عن بلوغ كنهها وحقيقتها.

وقد استوقفت هذه الفكرة نظر بعض المفكرين الذين عاصروا مرحلة إقبال، أو الذين جاؤوا من بعده. فمن هذه الفكرة حاول المستشرق البريطاني هاملتون جيب تحليل أفكار إقبال في تجديد التفكير الديني. وبدأ تحليله من هذه الفكرة لكونه يبحث عن علاقة التأثيرات الغربية في تشكيل الروح العصرية في الفكر الإسلامي والعالم الإسلامي، وذلك في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام.

وأشار إليها مالك بن نبي مرتين في كتابه «وجهة العالم الإسلامي» وعقّب عليها مرة بقوله: «لقد كان ينبغي ليكون الحق مع إقبال، أن تكون أوروبا، قد آتت عالم الإسلام روحها وحضارتها، أو أن يكون هو قد سعى فعلاً ليكتشفها في مواطنها» (1) وهذا الذي لم يحدث في نظر ابن نبي. وفي المرة الثانية اعتبر أن إقبال حين تحدث بتلك الفكرة لم يذكر سوى ذلك الجانب الخاص، في ظاهرة سبق أن أدركها ابن خلدون في عمومها حين قال: إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب(2).

ومن جهته أراد إقبال أن يلفت النظر إلى ما أحدثته تلك الظاهرة من تأثيرات في ذهنيات العالم الإسلامي، وما فرضته من تحديات فكرية وعقدية وعلمية، وإلى ما جاءت به من كشوفات علمية وفتوحات معرفية. فمن جهة يرى إقبال أن شباب المسلمين في آسيا وأفريقيا يتطلبون توجيهاً جديداً بعقيدتهم، ومن جهة أنه لا سبيل حسب رأيه إلى تجاهل الدعوة القائمة في أواسط آسيا ضد الدين على وجه عام، وضد الإسلام على وجه خاص. ومن جهة ثالثة لابد من أن يصاحب يقظة الإسلام في نظره، تمحيص بروح مستقلة لنتائج الفكر الأوروبي، وكشف عن المدى الذي تستطيع به النتائج التي وصلت إليها أوروبا أن تعيننا ـ كما يقول إقبال ـ في إعادة النظر إلى التفكير الديني في الإسلام، وعلى بنائه من جديد إذا لزم الأمر.

وحتى لا يكون هذا الكلام الأخير ملتبساً، فقد أوضح إقبال الخلفيات التي بنى عليها ذلك القول، فأوروبا، ـ حسب رأيه ـ كانت «خلال جميع القرون التي أصبنا فيها بجمود الحركة الفكرية، تدأب في بحث المشكلات الكبرى التي عُني بها فلاسفة الإسلام وعلماؤه عناية عظمى. ومنذ العصور الوسطى، وعندما كانت مدارس المتكلمين في الإسلام قد اكتملت، حدث تقدم لا حد له في مجال الفكر والتجربة.. فظهرت وجهات نظر جديدة، وحررت مرة ثانية المشكلات القديمة في ضوء التجربة الحديثة، وظهرت مشكلات من نوع جديد، فنظرية آينشتين جاءتنا بنظرة جديدة إلى الكون، وفتحت آفاقاً جديدة من النظر إلى المشكلات المشتركة بين الدين والفلسفة  ، فالرؤية كانت واضحة في تفكير إقبال، ويرى أن بإمكان العالم الإسلامي الانخراط في العالم الحديث، وإتمام التجديد الذي ينتظره، فالعالم الإسلامي حسب قوله: «وهو مزود بتفكير عميق نفاذ، وتجارب جديدة، ينبغي عليه أن يقدم في شجاعة على إتمام التجديد الذي ينتظره، على أن لهذا التجديد ناحية أعظم شأناً من مجرد الملائمة مع أوضاع الحياة العصرية وأحوالها» (4).

فالسرعة التي كانت تتقدم فيها أوروبا في العالم، لا ينبغي أن تدفع العالم الإسلامي نحو الخروج من العالم الحديث، أو العزلة عنه تحت ضغط الإحساس بالخوف أو الضعف أو العجز، وإنما بالنفوذ إلى العصر والانخراط في العالم عن طريق التزود بتفكير عميق، والاستفادة من التجارب الجديدة، والإقدام بشجاعة في إتمام مهمة التجديد، هكذا يرى إقبال خيارنا في العلاقة بالعصر والعالم الحديث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *