وجهة نظر

الشعب المغربي والشعب التركي والقدوة في مواجهة الثورة المضادة

كنت ولازلت أترفع عن مناقشة تجربة مشاركة حزب العدالة والتنمية في الحكم في المرحلة السالفة من منطلق التفاصيل، بل كنت أطرح القضية من زاوية حماية إرادة الشعوب من أن ينتكس عليها.

كنت ومازلت أعتبر هذا منطلقا معياريا لكل من راجع كل الانقلابات الناجحة والانقلابات المحدودة ومحاولات الانقلاب الفاشلة على خيارات الشعوب الإسلامية منذ انطلاق “الربيع الإسلامي” -لإدخال تركيا في سياق الربيع- سيلحظ أن سياقاتها التنزيلية هي ذاتها تتكرر في كل التجارب، وتتناوب مساراتها بالترتيب مراحل، إجمال خطواتها:

1 – تحريك طرف من المعارضة والمثقفين غير المبدئيين الذين يتم إقناعهم بأن التجربة الديموقراطية في بلاد المسلمين تعني انتهاء أملهم في استلام السلطة مستقبلا…وتغليف تلك التحركات بالمبررات التقليدية التي منها اتهام الإسلاميين بأنهم ضد الديموقراطية….

2 – تحريك الإعلام المغرض المحتقن والمأجور لمحاولة إقناع الناس بالانتكاس عن مسار التحرر..

3 – تصريحات شخصيات إقليمية معروفة بولائها للمشروع الصهيوني على حساب مشروع تحرر الأمة من أمثال “ضاحي الخرفان” و”محمد دحلان”…بخصوص كل التجارب التحررية بالمنطقة تنقيصا من قيمتها…

4 – إنفاق الأموال الباهظة القادمة من دول الخليج لدعم التحكم والانتكاس…

5 – تحريك مفتعل لعينة من مكونات الشارع إما المقهورة، أو الأنانية المصلحية التي لاترى الإصلاح إلا من خلال مدى تحقق مصالحها الذاتية، أو تلك التي أعماها الانغلاق الإديولوجي،  كل هؤلاء يتم تحريكهم ضد مصالحهم العامة بإثارة النزعات الفردية والخاصة…

6 – الخطوة الأخيرة هي تحرك مؤسسات الدولة نفسها وعملاء الغرب داخل دول الربيع باختلاف تمظهراتهم “جيش، فلول الأنظمة السابقة، نافذين، تنظيمات تحمل مشروع التحكم في إرادة الشعوب لصالح الخصوم….” للانقلاب على إرادة الشعوب انقلابا صريحا…

نجحت جل الانقلابات السالفة في انتزاع الإرادة من الشعوب وفي قهرها وحملها على القبول بنقيض إرادتها إما بشكل مباشر كما في مصر بواسطة الجيش، أو بشكل مرحلي كما في تونس بالمال الخليجي الحرام، وإما بتعويم الثورة كما في ليبيا وسوريا…

هذه النجاحات للثورات المضادة أغرت السفهاء في الدول الأخرى مثل “تركيا” و”المغرب” بالشعوب، وأقنعتهم أن إرادات الشعوب لا قيمة لها وأن ما سمي بالربيع ما هو في الحقيقة إلا حالة من حالات الحمى التي أصابت جسد الأمة وتسببت له في انتفاضة قشعريرة دامت بضع شهور لكنه شفي منها ومضت أعراضها إلى غير رجعة…

لكن العالم فوجئ بسقوط انقلاب تركيا سقوطا مدويا بوعي الشعب الذي حطم أوهام السفهاء…

والمتتبع لمراحل انقلاب تركيا سيجد أنه لم يشد عن المراحل التي اتبعت في جميع الانقلابات التي ذكرناها تفصيلا، والجميع يذكر حركة الإعلام التركي ضد أردوغان ثم خروج من يصنفون ضمن المحللين ليتحدثوا عن خطورة دعم حكومة العدالة والتنمية للإرهاب، تلى ذلك خروج طائفة من “الفنانين”/المثقفين” ليقودوا تظاهرات في ميدان تقسيم الشهير، إضافة إلى ما واكب ذلك من تحرك لتيار “التنظيم الموازي”/حزب النور التركي، ثم حين ظن من وراء الثورات تلك أن موسم جني ثمار جهوده في الظلام قد حل خرج إلى العلن بتحرك “الجيش” لإعلان الانقاب الصريح على إرادة الشعب التركي..

منسوب الوعي داخل الشعب التركي حال دون نجاح المرحلة النهائية للانقلاب، تجلى منسوب الوعي هذا في صور ليس مظهرها الوحيد خروج الشعب لمحاصرة الانقلابيين في مواقعهم الحيوية فقط بل تعدى ذلك إلى إصرار فريق من مؤسسات الدولة على احترام إرادة الشعب فواجه رجال الشرطة الانقاب وواجه رجال المخابرات الانقلاب…والمظهر الأعلى لمنسوب وعي الشعب تجلى في التفاف قواه الحية على خيار الشعب دون الالتفات إلى الخلافات السياسية بين قواه الحية بل دون المراهنة على العودة إلى السلطة على ظهر الدبابة..

في التجربة المغربية اليوم استنفذت الثورة المضادة مراحل التحريك الإعلامي الأخرق، وتصريحات خرفان، وإنفاق أموال دول الخليج… بل وتوظيف – ولو نسبيا- “حزب النور المغربي” بل بلغت مرحلة التدخل المباشر لأذرع الثورة المضادة من خلال رجال حزب التحكم في وزارة الداخلية التي لم يعد خافيا أنها استعملت مع المواطنين أساليب الترغيب والترهيب ليصوتوا لصالح حزب التحكم “تجمع الأصالة والمعاصرة” ..
لقد كان وعي الشعب المغربي إلى يوم السابع من أكتوبر على المحك، فقد كان التحدي أمامه أن يحمي ثورته الإصلاحية الهادئة، وينتصر على إرادة النكوص.

وهو الأمر الذي حصل –إلى حد الآن- بواسطة مظهرين اثنين:

أولها: المشاركة المهمة في الاقتراع والتي استحال معها تنفيذ الضربة الأخيرة في مخططات الانقلاب، تلك الضربة التي وإن تعددت تجلياتها باختلاف تجارب الربيع الإسلامي فإن السياق المغربي لم يكن ليسمح سوى بأن يكون تجليها البارز هو محاولة تزوير نتيجة الصناديق بطريقة تقليدية مباشرة.

وثانيها: الاستيقاظ المتأخر لزعماء القوى السياسية الحية في المغرب والذين اكتشفوا معه أن الثورة المضادة لن تلتهم خصمهم السياسي أو الإديولوجي فقط، بل إن وكلاءها لا يغدي طموحاتهم سوى الاستفراد بالساحة، كما هو الحال في كل دول الربيع الإسلامي الأخرى..

لقد كان لهذا الاستيقاظ على تأخره أثر في محاصرة قوى الثورة المضادة ووكيلها في المغرب “تجمع الأصالة والمعاصرة”، هذه المحاصرة التي نتج عنها أن موكلي هذا التجمع الهجين صاروا إلى نفض أيديهم منه باعتباره ورقة محترقة لم يعد الميدان يقبل اللعب بها، الأمر الذي جعل عراب هذا التجمع ينتحل صفة “الكاتب” و”المفكر” الذي صار يتحدث عن “المصالحة” و”الشجعان” ولا يكاد يسمع سوى صدى صوته يرتد إليه في قاعة خاوية كانت إلى وقت قريب تعج بالحلفاء

إن المشاركة المهمة للشعب المغربي بما حققته من استحالة التزوير، وكذا التفاف القوى الحية على خيار دعم تجربة الإصلاح في ظل الاستقرار –كما أعلن زعماؤها عقب لقاءاتهم مع رئيس الحكومة المعين-قد أقنع مفسدي الداخل والخارج –لا محالة-  بأن إرادة الشعوب فوق الاستهداف، وأعطى بذلك زخما لثورات الشعوب الأخرى جميعها مما قد يدفعها للعودة إلى الحياة كما سيخنق آمال السفهاء في انتزاع المبادرة من الشعوب.

لقد أثبت الشعب المغربي في تعاطيه مع هجوم الثورة المضادة أن منسوب وعيه مرتفع جدا، فاستحق أن يصنف مع التجربة التركية في خانة التميز باستحقاق وجدارة، ويكون للشعوب العربية التي مكنت خصومها من رقابها قدوة تحتذى، وأملا لإمكان استرجاع المبادرة واسترداد الحرية المهدرة في قاعات المحاكمات الوهمية لرموز ثورات الشعوب أحكاما بالإعدام بالجملة…