وجهة نظر

في الحاجة إلى الإصلاح الديني

هل يمكن لثورات سياسية، في مجتمعاتنا الإسلامية، أن تنجح في اجتثات الإستبداد، وجني ثمار الحرية ما لم تتهيأ لها الأرضية الفكرية والثقافية؟ أليس المطلوب، بداية، الإسهام في تحرر العقل والمخيال الإسلامي من أغلال التراث، وقيود الآبائية؟ وكيف السبيل إلى تحقيق ذلك؟ أليس كل ثورة سياسية لا تبدأ بثورة ثقافية وفكرية هي من قبيل إعادة إنتاج الإستبداد في صورة مغايرة ربما (ولنستحضر هنا الثورة الإيرانية التي أسقطت استبداد الشاه، وصنعت استبداد “ولاية الفقيه”)؟

ليس القصد في هذه المساهمة، المتواضعة، تقديم إجابات نهائية لهذه الأسئلة العويصة، بقدر ما أن الهدف هو إثارة الإنتباه إليها. وإذ نتحدث عن التراث فإننا لا نقف منه موقف الرفض المسبق، ولا التمجيد الأعمى. بقدر ما نروم التأكيد على ضرورة بناء منظور نقدي اتجاه تراثنا الإسلامي.

فالملاحظ أنه بدل أن نستلهم التراث في بناء الحاضر والمستقبل، تجدنا “معتقلين” داخله. وبدل أن نؤرخ للماضي لننفلت منه تجدنا نسكن فيه (في ممارساتنا وخطاباتنا)، وصرنا نحن الأحياء أمواتا نجتر ما أنتجوه دون نقد. بل إن ننا نعتبر كل سعي للإبداع “بدعة”، و”البدعة ضلالة” و”الضلالة في النار”. وباسم هذه اللازمة قتلنا أنفسنا ليعيشوا هم. واعتقلنا العقل في سجن الموروث. لقد صرنا عبدة لما وجدنا عليه آباءنا وأسلافنا. هكذا تمكن منا مرض الآبائية.

ولاشك أن الحديث النبوي- كما تم تدوينه في حقبة معينة تلت عصر النبي بعقود – هو احد أسس التراث الذي وصلنا. والذي يمتزج فيه الديني بالتاريخي بالاجتماعي والسياسي…ولأن الموضوع أكثر تعثيدا وتشعبا مما يمكن أن نظن، ارتأينا أن نمثل له بنموذج من الأحاديث التي لطالما نسمعها في كل خطبة جمعة، فنتقبلها دون أدنى تمحيص. لأن داء “هذا ما وجدنا عليه آباءنا” استشرى في أوصال العقول وصارت مشلولة لا تجرأ على طرح السؤال.

قلت لنأخذ هنا مثال حديث العشرة “المبشرين بالجنة” الذي لا يخفى على المتأمل فيه ارتباطه بجوانب دينية وسياسية واجتماعية وتاريخية أيضا. فما مدى الدلالات التي يحملها في طياته؟

لنذكر أولا بالمقدمة التالية: وتكمن في ضرورة التمييز بين الدين (إلهي مقدس) والمعرفة الدينية (التي أنتجها البشر وتحتمل الخطأ والصواب، ولا تنفصل عن الصراعات الإنسانية). ومن ثمة فمن حقنا أن نشك في هذا الحديث لعدة اعتبارات:
1- عدم ورود أسماء أولئك العشرة بصريح العبارة في القرآن.

2- وحده الله يملك سلطة (حصرية) الحكم على مصير الإنسان. فالرسول حسب القران مبشر ونذير فقط (لست عليهم بمسيطر- فإنما عليك البلاغ…).

2- تناقضه حديث العشرة المبشرين بالجنة مع حديث آخر (متضمن في ما يدعى “صحيح” البخاري).
“3601 [رقم الحديث] حدثنا عبد الله بن يوسف قال سمعت مالكا يحدث عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام “.

ولك أيها القارئ الكريم أن تقارن هذا التناقض الواضح بين أحاديث اعتبرت بمنطقهم صحيحة.

4- حتى ولو ورد الحديث في “صحيح” البخاري مسلم، فذلك ليس حجة، لأن صحة هذين الكتابين غير قائمة بل هي من قبيل “المسلمات” عند البعض. وذلك بدليل تعارض الكثير من الاحاديث الواردة فيهما مع القران والعقل.

5- تفوح رائحة السياسة من هذا الحديث بشكل لا يستطيع متأمل أن يغفل أو يتغافل عنه. فهو يعكس ترتيب الخلفاء كما حدث في التاريخ فعليا، أما أربعة آخرين من المذكورين في الحديث فهم من الصحابة الذين عينهم عمر ابن الخطاب، قبيل وفاته، لاختيار الخليفة بعده ( طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام، سعد بن ابي وقاص، عبد الرحمن ابن عوف).

بعد هذا نود أن نقدم بعض الملاحظات :

1- هؤولاء العشرة كلهم رجال فأين النساء من هذا الحديث؟ علما أن أول من آمن بالرسول (عليه السلام) امرأة. وأول من استشهد في الإسلام أيضا امرأة.

من هنا يمكن أن نشتم في وضع الحديث رائحة نزعة ذكورية لم يستطع المجتمع آنذاك – والآن – أن يتخلص منها، نظرا لتجذرها بشكل عميق….

2- كل هؤولاء المبشرين من علية القوم وأكابر قريش (بنو هاشم – بنو أمية…). لماذا لم يتم ذكر الصحابة الاخرين ، الذين يتموقعون في رتب اجتماعية أقل، في هذا الحديث ؟ ( من مثيل عمار بن ياسر، بلال، أبو ذر الغفاري الذي تم نفيه في عهد عثمان لأنه كان معارضا سياسيا بلغة العصر)؟

من هنا يمكن أن نلاحظ أيضا حضور المكون القبلي والتراتيبة الاجتماعية التي لم يستطع المجتمع آنذاك أن يتخلص منها كلية، وما اشتراط بعض الفقهاء ضرورة أن يكون الحاكم من قريش إلا دليل على صحة هذا الأمر، مع أن الإسلام جاء لتحقيق المساواة.

3- الحديث يتضمن صحابة قرشيين فقط (ويلتقي نسبهم عند فهر بن مالك). فأين الأنصار من هذا الحديث؟ علما أنهم قدموا أيضا خدمات جليلة للدعوة الإسلامية في بداياتها. وهل يعقل أن يقيم النبي الكريم تمييزا بين صحابته إلى هذا الحد؟ وهل يعقل أن يكون الأنصار قد سمعوا هذا الحديث، ولم يعترضوا عليه لما فيه من حيف في حقهم؟( وهم الذين سبق لهم أن اعترضوا على طريقة توزيع غنائم حنين لأنهم كانوا يدركون أن قرارات النبي عليه السلام بشرية قد تخطىء وقد تصيب، وليست وحيا إلهيا مقدسا، أي يتخذها من موقع النبوة لا الرسالة).

ختاما نود التأكيد على الحاجة إلى إصلاح ديني يخرجنا من هذا القصور الفكري الذي نعانيه، ويسهم في إعادة النظر في ثلة من المفاهيم والمقولات التي صارت بمثابة “أصنام” تعبد. ولن يتحقق ذلك بدون الدفاع عن حرية التفكير والتعبير – ضدا على كل سلطة دينية أو سياسية أو عسكرية…الخ.