وجهة نظر

البلقنة القادمة..

إن المتمعن للتاريخ السياسي المغربي الحديث يدرك أنه تاريخ يتميز بتعدد الخطابات السياسية وتنوع مرجعياتها ومشاربها، وهي حسنة تحسب للمسار السياسي المغربي، لأن تعدد واختلاف هذه الخطابات هو مؤشر على تجدر الممارسة الديمقراطية في العمل السياسي المغربي وسيادة ثقافة الاختلاف التي تنسجم مع غنى وتعدد المصادر الثقافية والحضارية للهوية المغربية، التي ترفض من حيث ماهيتها، احتكار الصواب السياسي ومنطق الخطاب الواحد والحزب الوحيد. ولعل هذه العوامل هي التي جعلت المغرب محصنا ضد كل الأيديولجيات الآتية من الشرق ( البعثية والقومية والناصرية والوهابية…) والحفاظ على الخصوصية والاستثناء المغربي طيلة هذا التاريخ.

لكن هذا لا يعني أنه لم يسُدْ براديغم سياسي بهوية معينة في حلقات هذا التاريخ، سيادته هاته لم تكن محلية فقط بل ساهم في بروزه سياق ثقافي وفكري محلي ودولي. أقصد بذلك الخطاب السياسي اليساري ممثلا في الفكر الاشتراكي والشيوعي، الذي تبنته أغلب الدول التي حصلت على استقلالها، لأن فكرة الثورة والمقاومة ضد كل أشكال الاستعمار والتسلط والديكتاتوريات، الاستعمارية الخارجية والمحلية ، كانت ما تزال طرية في وعي هذه الشعوب، وكانت الاشتراكية آنذاك هي الوصفة التي تقدم كعلاج للتخلف ولكل أشكال التسلط والاستبداد…أي أنها كانت تحمل برنامجا اجتماعيا شاملا..والأمل الوحيد للخلاص آنذاك.

هذا الخطاب النامي والذي تسيد فثرة نهاية الخمسينيات إلى حدود تسعينيات القرن العشرين، أكيد لم يكن الفاعل الوحيد ولكنه كان وظل الخطاب الأقرب للجماهير الطامحة لمغرب أفضل يقطع مع ثقافة الريع، التي كرسها الاستعمار ويحقق تنمية اقتصادية ويحفظ للمواطن كرامته، وقد برَع اليساريون في صوغ خطاب، تبنته الجماهير ودافعت عنه وحملت دعاته على الأكتاف، بل حملت الكثيرين إلى ( مناصب القرار ) توج بدخول الحزب الاشتراكي للقوات الشعبية في حكومة التناوب وممارسة السلطة.

لكن المسافة الفاصلة بين بداية الخمسينيات ونهاية التسعينيات، شهدت معارك دامية بين خطاب الدولة (القصر) التي تبنت توجها سياسيا آخر ينهل بعض مقولاته من النظرية الاقتصادية والسياسية الرأسمالية، وظل يرى في الخطاب اليساري تهديدا له، لأنه كان يرى أنه أولا: خطابا ثوريا يحمل في ذاته مقولة الثورة على الأنظمة الموسومة بالرجعية والخادمة للرأسمالية وقلب نظام الحكم فيها وثانيا: كان – في نظره – يخدم أجندة خارجية ” الاتحاد السوفياتي ” لا تعكس روح المواطنة وسيادة الدولة. هذا الأمر دفع بالقصر إلى تشكيل جبهة داخلية مكونة من أحزاب تتشكل من الأعيان والمقربين من القصر، شكلت خطابا معارضا لليسار واعتمدت هذه الأحزاب على منطق العطايا وكرست الريع لكسب تعاطف المواطنين، وقد استطاعت أن تشكل لها قاعدة شعبية عريضة ظلت تشكل خزانا انتخابيا ضمن لها – مؤقتا – تشكيل قطبية ثنائية في الخطاب وفي الممارسة.

إجراء تفريخ الأحزاب المخزنية تبعه بالتأكيد تنكيل وقمع لكل من يتبنى الخطاب اليساري، مع تشجيع كل من يود بلقنة هذا الخطاب وتكريس الاختلاف والفرقة من داخله وتفخيخ عناصر بنيته..وهذا ما تأتى بالفعل إذا صار الحزب الواحد أحزاب وفرق وصارت المنظمة الواحدة تنسج على منوالها منظمات وفصائل..فساد منطق التخوين والصراع الفكري بين الحزب والفصيل والمنظمة الواحدة، ليتحول إلى صراع ميداني معه فقد هذا الخطاب – اليساري – مشروعيته و مصداقيته مع الجماهير..

بعد بلقنة المشهد السياسي اليساري وتجزيء خطابه إلى عناصر تلتهم بعضها البعض، طبيعي جدا أن لا يترك القصر الساحة فارغة من أي خطاب ” فالطبيعة تخشى الفراغ ” كما يقول أرسطو. قلنا فارغة لأن الأحزاب التي نشأت بين جدران القصر، لم تتبنى خطابا أو أيديولوجية واضحة لأنها في الأصل ” كلاب حراسة ” لا تحمل مشروعا مجتمعيا بل تصورا لتدبير السلطة وفق أجندات خفية يحدد القصر طبيعتها وماهيتها حسب الظروف.

البديل الذي كانت تسعى الدولة/القصر في سياق توجهات سياسية رأسمالية، تكريسه ضدا على البراديغم السياسي الماركسي – الشيوعي ، هو براديغم الإسلام السياسي ممثلا في ” الشبيبة الإسلامية ” و ” الجماعة الإسلامية ” و ” تنظيم أسرة الجماعة ” وهي تنظيمات لا نقول أن القصر أوجدها كلها ولكنه غض البصر عن الكثير من جرائمها في حق اليساريين، وهيأ لها الظروف المالية والسياسية كي يسود خطابها من أجل إضعاف شوكة الخطاب اليساري وجعلها البديل الممكن لملء الفراغ في المشهد السياسي المغربي، بعد أن حدد أجندة كل حركة وشبيبة وتنظيم على حدة تحت يافطة ” التطرف ” و ” الاعتدال ” لتدخل الجماعة الإسلامية في بيت الطاعة وتصبح ” حركة التوحيد والإصلاح ” بعد أن أقرت بمبدأ ” الإصلاح و التجديد ” لتدخل بعدها معترك السياسة بعد ” فصل ” الدعوي عن السياسي فظهر حزب العدالة والتنمية للعلن ودخل الإنتخابات من بابه الواسع.

ظهور نجم العدالة والتنمية في سماء المشهد الحزبي المغربي، كان بطعم مختلف لأنه أول حزب يتكئ على مرجعية ” دينية ” أو لنقل ” الإسلام السياسي ” في أدبياته السياسية، مع أن لعبة الفصل بين الديني والسياسي ظلت مجرد حبر على ورق القانون الأساسي للحزب والحركة، لأن الجناح الدعوي ظل ولا يزال مركز استقطاب سياسي وخزان انتخابي للحزب، يسيس الدين ويدين السياسة. أي أنهما في الأصل وجهان لعملة واحدة ولبراديغم واحد، هو البراديغم السياسي ” الإسلامي ” غايته السلطة. وهو ما تأتى فعلا لهذا التوجه من أن يسود ويهيمن على المشهد السياسي بعد موجة الربيع العربي الذي جعل الإسلامي السياسي مهيمنا على الخريطة السياسية في العالم العربي.

علاقة القصر بهذا الخطاب ظلت مثوثرة منذ البدايات الأولى لهذا الخطاب وإن كان قد أوجده وساهم في بروزه، فهو لم يكن اختيار إرادي بل ساقته ظروف وتوجيهات إلى إيجاده وتكريس خطابه. هي علاقة مثوترة لسببين: أولا خطاب الإسلام السياسي ينافس القصر في احتكار ” النص الديني ” الذي يعتبر ” ملكية خاصة ” للقصر وكل خطاب يحاول أن يستمد مشروعيته من النص الديني يراه القصر يسحب البساط من تحت قدميه وتهديد ” لإمارة المؤمنين ” وإعلان حرب. وثانيا: خطاب الإسلام السياسي هو خطاب يتماهى مع خطاب خارج الحدود ” جماعة الإخوان المسلمين ” ومن شأنه أن يخدم أجندة خارجية يمكن في الأمد المنظور أن تهدد سيادة الدولة حسب فهم القصر طبعا.

السؤال المطروح بعد هذا السرد الاختزالي لتاريخ كبير جدا ومليء بالتفاصيل والحيثيات التي لا ندعي أننا أحطنا بها، هو :
إذا كان القصر قد استطاع أن يبلقن الخطاب السياسي اليساري ويتحكم تبعا لذلك في الخريطة السياسية المغربية؟ هل في مقدوره أن يبلقن خطاب الإسلام السياسي الصاعد؟

إذا اتفقنا على أن السياسة هي ” فن الممكن ” يمكن أن نطرح سيناريو بلغة بسيطة لما يمكن أن يكون، وهو إمكان مبني على فكرة ” بلقن تسد ” وهي مقولة تشكل جوهر الأنظمة التي لا تريد أن تلعب النرد فيما يخص استمراريتها، أو تدخل في حسابات الاحتمالات والاختيارات المحدودة.

من هنا نقول: إنه إذا كانت الجماعة الإسلامية قد تطورت لتصبح جناح دعوي ” التوحيد والإصلاح ” وجناح سياسي هو ” حزب العدالة والتنمية ” فإن ” أسرة الجماعة ” هي الأخرى غيرت من جلدها وإسمها كثيرا في خضم المراجعات لتصبح ” جماعة العدل والإحسان ” ذات التوجه الصوفي السياسي المعارض !!!تجمع بين مقولتي ” الدعوة ” و ” الدولة ” وترى أنها حركة دعوية بمنطق سياسي معارض لنظام الحكم القائم، الذي تصفه بأنه بعيد عن منطق الشريعة، لذلك تنادي بـ ” الخلافة على منهاج النبوة ” أي السير على نهج سيرة الرسول الأكرم والتابعين بإحسان، وتطبيق مبدأ الشورى والحاكمية..هذا من حيث المبدأ. لكن العارف بتاريخ الحركات الدينية الإسلامية منذ نشأتها الأولى ممثلة في ” الخوارج ” يدرك أن منطقها سياسي، إذ سرعان ما تتحزب وتسير وفق أجندة سياسية وتتنكر للكثير من مقولاتها وتقوم بمراجعات لمبادئها على ضوء حركة العمران البشري، لأن منطق السياسة غير منطق الدعوة، وهو ما عبرت عنه الجماعة مؤخرا باستعدادها لتشكيل حزب سياسي. وهي إشارة لن تمر مرور الكرام على أصحاب القرار في الدولة، لأنها فرصة مواتية للبدء في ترتيبات بلقنة خطاب الإسلام السياسي والقضاء على القاعدة الإنتخابية المتدينة التي يستحوذ حزب العدالة والتنمية على أصواتها..
إذن..

انتظروا حزبا جديدا يخرج من رحم العدل والإحسان، سيكون القصر عرابه.. والعدالة والتنمية مجرد موضة لها تاريخ صلاحية محدود !!!!