منتدى العمق

امتحانات الباكالوريا .. هواجس متكررة

لم يعد يفصل التلاميذ عن مواعد الامتحانات الإشهادية ـ ونخص بالذكر هنا امتحانات الباكالوريا ـ إلا أيام معدودات، وخلال هذه الفترة التي تسبق موعد هذه الاستحقاقات يتملك الكثير من التلاميذ شعور بالقلق والتوتر والخوف، وهو أمر طبيعي ما دام أنه لا يتجاوز الحدود إلى مستوى تتداعى فيه تلك المشاعر إلى ما يؤثر سلبا على تصرفاتهم وطباعهم وطاقتهم النفسية والجسدية خلال هذه الفترة. ولعل هذا الأمر قد يشكل لدى بعض التلاميذ عاملا لإثارة دافعيتهم للاهتمام أكثر بالإعداد الجيد وتنظيم الوقت الكفيل بذلك.

غير أن المؤسف ،في هذه الظروف ،هو انعكاسات ذلك المناخ العام الذي يواكب هذه الفترة تربويا وإعلاميا واجتماعيا، فالأسر آباء وأمهات يحيطون الامتحانات بهالة كبيرة فتصبح موضوع الخطاب اليومي داخل البيت وخارجه يأخذ أحيانا شكلا عصبيا حادا لدى الطرفين، فتتعدد المواعظ والتحذيرات من كل ما يعتقدون أنه سيؤثر سلبا على التهييء الجيد، وهو تخوف مشروع فهم يرغبون في نجاح أبنائهم وبناتهم وحصولهم على شهادة الباكالوريا ـ باعتبارها لا زالت تمثل محددا للمستقبل المهني للتلميذ ـ وبنتائج عالية لدى البعض الآخر تؤهلهم لمتابعة دراساتهم في أرقى المعاهد والمؤسسات الجامعية العليا، وهو ما يخلق مناخا غير صحي يسود فيه القلق والتوتر النفسي مما قد يفسد أجواء الإعداد الجيد للامتحان، ينضاف إلى ذلك تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام التي تساعد في تنامي وتيرة الخوف والقلق.

والواقع أن أغلب المتعلمات والمتعلمين لا يدركون جيدا أن الإعداد الجيد للامتحان يبدأ منذ بداية الموسم الدراسي بل قبل ذلك، وأن التعلم غير مقيد بزمن معين، فالتمكن من اللغات مثلا يتطلب الاطلاع والقراءة المتواصلة، فحصص تدريسها غير كافية للتمكن الجيد منها. ولعل إهمال تعلم اللغات واكتسابها من خلال القراءة والمطالعة التي صارت فعلا نادرا في أوساط التلاميذ عموما أمام سطوة وسائل التواصل الاجتماعي وسيطرتها على عقولهم واهتماماتهم وزحفها على زمن تعلمهم الذاتي ، هو ما ساعد على استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية والساعات الإضافية في مواد لم تكن إلى وقت قريب موضوعا لهذا النوع الذي ينعت دعما  كاللغة العربية ومادة التربية الإسلامية والاجتماعيات والذي صار ينجز خارج الفصول الدراسية في غياب أية ضوابط مهنية وتربوية كما هو الحال مع مواد دراسية أخرى، ولعل ذلك يمثل ، إلى جانب الغش، إحدى الظواهر السلبية التي أفرزها تضخم نظام التقويم في شكله الحالي وهو تضخم يغذيه اعتماد بعض مؤسسات التعليم العالي ذات الجاذبية والاستقطاب المحدود عتبات انتقاء تستند على نقط ومعدلات مرتفعة.

إن الامتحانات، بصيغتها الحالية والأجواء التي تحيط بها، تمثل مصدر خوف وقلق وتوتر وموضوع محاكمة شخصية للمتعلم في سياق اجتماعي لا زالت تشكل فيه هذه الامتحانات هدفا في حد ذاته بالنسبة للتلاميذ والآباء والمؤسسة التعليمية والمجتمع برمته. يغذي هذه الرؤية إليها ـ كما أسلفنا الذكر ـ المناخ الذي يؤطرها تربويا واجتماعيا وإعلاميا، وهو مناخ غير سليم ما دام أن إصلاح التعليم لم يوضع بعد على سكته الصحيحة رغم كل النوايا والمبادرات والجهود المبذولة لتحقيق هذا المرام.

إن النظرة إلى الامتحان، في هذا المنحى، نظرة سلبية خاطئة تجعل من الامتحان غولا يهدد بالانكسار والسقوط والفشل، ولا بد من تغيير هذه النظرة إليه، فهو في التصور التربوي الصحيح لا يعدو أن يكون شكلا عاديا من أشكال التقويم يختبر القدرات والمهارات والمعارف التي اكتسبها المتعلمون خلال فترة محددة من مسار تحصيلهم الدراسي وفق ضوابط وأطر مرجعية للامتحانات تستند على التحديد الدقيق والإجرائي لمعالم التحصيل النموذجي للمتعلمين عند نهاية السلك التعليمي الذي ينتمون إليه.

إن ما يجب ترسيخه لدى المتعلمات والمتعلمين منذ بداية مشوارهم الدراسي أنهم لا يتعلمون فقط من أجل اجتياز الامتحانات والانتقال من مستوى تعليمي إلى مستوى أعلى، وإنما من أجل التكوين واكتساب المعارف والمهارات والقيم لتوظيفها في وضعيات – اجتماعية ومهنية وإنسانية – تستدعيها متطلبات الحياة والواقع ، وهو ما يستوجب أن يكون لهذه التعلمات معنى فتنعكس بذلك على تصرفاتهم ومواقفهم وسلوكهم اليومي.

إن هذا الأمر لن يتحقق بالكيفية المأمولة  إلا بإصلاح كلي وشامل لمنظومة التربية والتكوين وإرساء شروط تحقيق جودتها وفي مقدمتها إعادة  القيمة الاعتبارية والرمزية للمدرسة ولأدوارها ووظائفها وإرساء أسس حكامة جيدة  تقطع مع كل مسببات الاختلالات وإخفاقات التدبير التي طبعت قطاع التربية والتكوين و مددت عمر أزمته لعقود متوالية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *