وجهة نظر

بوبكري يكتب.. هل من أفق “للانتخابات التشريعية” المقبلة؟

رغم اقتراب موعد “الانتخابات التشريعية”، يلاحظ المتتبعون للحياة السياسية ببلادنا أن هناك غيابا لأي نقاش عمومي في الساحة السياسية، ما يدلٌّ على عدم اهتمام ما يسمى بـ “الأحزاب السياسية” بقضايا الوطن والشعب. ويعني ذلك أنه لا وجود لمشروع سياسي ولا برامج لدى هذه “الأحزاب”، بل إن هذا يعكس الفراغ الفكري والقِيمِي لـ”زعاماتها” ويبعث على الشك في مواطنتها ووطنيتها.

فبدون خطاب سياسي لن يكون هناك مشروع يمكن العمل على تجسيده في حركة اجتماعية، إذ سيكونُ الحزب في هذه الحالة مجرد مجموعة من الناس لا رابط بينهم سوى الكذب والتحايل بحثا عن قضاء الأغراض والمنافع الشخصية. وهذا ما دفع أغلب الملاحظين إلى عدم الاعتراف بوجود أحزاب سياسية بمفهومها الحديث في المغرب، بل إن ما نتوفر عليه هو أحزاب على الورق لا غير، إذ ليس لها قواعد ولا امتدادات مجتمعية، كما أن معظم المغاربة لا يعرفون أغلبها ولا معظم زعاماتها. فهي صغيرة وهشَّة، ما يدل على أنها لم تكتسب القوة الكافية للتحرٌّك جماهيريا كي يكون لها تأثير وامتدادات… 

لذلك يبدو لي أن الذين يقولون بوجود أحزاب سياسية في بلادنا لا يدركون أن المجتمع والدولة لم ينضجا بعد لإفراز هذه التنظيمات بمفهومها الحديث المتواضَعِ عليه اليوم في العلوم الاجتماعية، إذ لا بد من تراكم فكري وسياسي ومجتمعي لحدوث تحوٌّل يفضي إلى بناء دولة المؤسسات، وهو ما لم يحدث عندنا بعدُ، فبقينا نراوح مكاننا. وتؤكد دروس التاريخ أننا نعيش في هذه الوضعية منذ أيام الحماية التي عمل نظامها على ترسيخ البنيات التقليدية مع السماح ببعض مظاهر التحديث الشكلي التي لا تمس جوهر الأساس التقليدي للمجتمع والدولة، حيث لم يرغب في التحديث لكي تتم له مواصلة سيطرته على المجتمع والدولة في آن واحد. وقد ظل الأمر على هذه الحال إلى يومنا هذا، لأن السلطة ما تزال تتمسك ببقاء هذه البنيات التقليدية اعتقادا منها أنها تشكل وسيلة لضمان التوازن والاستقرار، حيث يمكِن استعمالها لتعطيل التحديث والتحوّل الديمقراطي…

في ظل هذه الظروف لا يمكن الحديث عن تعدُّدية سياسية، ولا عن تناوب ديمقراطي. وإذا كانت فئة معينة تتحدث عن وجود ثنائية قطبية سياسية، بل وحتّى عن اختيار ثالث، فإن هذا ناجم عن انخداع البعض، أو ممارسة البعض الآخر للخداع، إذ عندما تغيب المشاريع المجتمعية والبرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وينعدم الفعل، فإنه لا يمكن الحديث عن تراكم فكري وتطور مجتمعي يفضي إلى بناء أحزاب سياسية، أو أقطاب سياسية، لأن هذه الأخيرة لا تحدث من الفراغ وفي ظل غياب الفكر والفعل والصراع والإنجاز…

ونظرا لانعدام الفكر في الحقل الحزبي في بلادنا، حيث ليس هناك خطاب سياسي يعالج قضايا الوطن والمستقبل، أو يسعى إلى حلِّ مشكلات المواطنين اليومية كالبطالة والصحة والتعليم والسكن وارتفاع الأسعار، فإن الصراع الفكري والسياسي والاجتماعي سيكون منعدما، إذ تتشابه الأحزاب على الناس، ولا يعود هناك أي اختلاف أو تمايز بينها. لذلك فما يسود بينها اليوم من ملاسنات هو صراع من أجل المقاعد والمواقع والمصالح لا أقل ولا أكثر، بل قد يكون مجرد مسرحية لإخفاء الفراغ المؤسسي الذي يكاد يفقأ العينين.

إضافة إلى ذلك، تعتقد الزعامات السياسية أنها تمتلك أحزابها، فغدا بعضها يمارس التزوير المستمر للعضوية في أجهزتها التقريرية التي أصبحت تضم أفرادا لم يكونوا مندوبين في مؤتمراتها، بل إنهم غرباء عن الحزب ومأجورون يتم تغييرهم من اجتماع لآخر بهدف انفراد الزعيم باتخاذ القرار باسم الحزب الذي صار عديم الفعالية…

كل هذه العوامل وغيرها تجعل الانتخابات التشريعية المقبلة منقوصة الشروط ولا تستوفي تسمية انتخابات بالمفهوم الحداثي الديمقراطي، بل إنها ستكرس انعدام التوازن بين السلطة والمجتمع. وهذا ما جعل البرلمان عندنا لا يقوم بدور المراقبة، فأحرى أن يضطلع بدور الشريك في الحكم…

فعندما لا يكون للأحزاب أي مشروع، ولا برنامج، ولا امتدادات مجتمعية، فإنها تلجأ إلى ترشيح الأعيان لخوض غمار الانتخابات باسمها. ويعود ذلك إلى أن هؤلاء يشترون أصوات الفقراء والمستضعفين ويجزلون العطاء للزعامات التي تٌجَنُّ من أجل ذلك… وهكذا فقد تحوَّل النجاح في الاستحقاقات الانتخابية إلى صنعة وحرفة، إذ أصبح معروفا لدى الجميع أن المال السياسي هو المحرك الرئيسي لكل ما يحدث على الساحة في مجال الانتخابات، كما أن التصويت يكون أيضا لصالح الطائفة والقبيلة. لذلك لم يعد مقبولا الحديث عن البناء الديمقراطي في ظل غياب التحديث، لأنَّ ممثلي الأحزاب في البرلمان لا يؤمنون بالمشاريع ولا بالبرامج ولا بالبرلمان ذاته، وبذلك فإنهم لا ينتمون أصلا إلى الأحزاب، بل إنهم، بحكم طبيعتهم، تابعون لقوى من خارج الأحزاب ويمثلونها داخل البرلمان، ما يجعل هذا الأخير لا يعكس إرادة المجتمع، بل سيكون مفصولا عنه. وهذا ما يفسر تزايد ارتفاع نسبة مقاطعة الانتخابات الذي قد يتحول إلى قنبلة تهدد الاستقرار.

تؤكد هذه المعطيات وغيرها أن البرلمان القادم سيستولي عليه أصحاب المال والمصالح وأهل الطوائف، وأنه سيكون خاضعا لجهات من خارجه. لذلك فمن المحتمل جدا ألا يتم طرح قضية العدالة الاجتماعية فيه ولا في الحكومة المقبلين إلا بضغط من الرأي العام…