وجهة نظر

فرنسا انتخبت.. وصحافة الجزائر تنتحب

رُبَّانُ فرنسا، السيد إيمانويل ماكرون، رفع من سُرعة “السفينة” السياسية الفرنسية إلى الأقصى، لتقتحم منطقة الاضطرابات الحادة ولتتَرَنَّح، وهي تتلاطم داخلها موجات المد العالي. الرئيس حلَّ البرلمان، وجرَّ البلاد إلى انتخابات تشريعية، لم تكن مُتوَقَّعة ولا مطلوبة، ولعلّه كان يأمُل منها أن توضِّح المِعمار السياسي، فأسفرت عن نتائج هزَّتِ المشهدَ السياسي الفرنسي، وبدَّدت فيه وُضوح مَعالم أغلبيةٍ سياسيةٍ نيابيةٍ، ضروريةٍ للتدبير العادي للشَّأنِ الحكومي الفرنسي.

ذلك الوضوحُ الذي اعْتادَته الحياة السياسية الفرنسية على مَدى عُمر الجمهورية الخامسة، بتعاقُب اليمين واليسار على مواقعِ الدولة الرئاسية والتشريعية. وقد بدأت مُؤشِّرات مرحلة الاضطرابات في تشكُّل الأغلبية الحكومية مع الوِلاية التشريعية المُنتهية، مع ما رافَقَها من لُجوء الحكومة إلى “مَراهِم” قانونية استثنائية، لتمرير قراراتها في البرلمان.

اليومَ البرلمان قائمٌ، و”لا ينقصُه” إلا تشكيل الأغلبية النيابية، التي يُفترض أن تقودَه، وأن تُنتج الحكومة التي ستَؤول إليها مسؤولية تدبير السياسات العامة. لا ينقصه إلا وضوح أغلبية فقط! إذن سيبقى برلمانا “مشلولا” ويشلُّ معه الحياة السياسية. الانتخابات حقنت اليسار بمنشطات وقد كان مُعتلاًّ وضامرا. وهي الانتخابات نفسُها التي أوقفت زَحْف اليمين المُتطرف على مؤسسات الدولة، ورُبَّما أجَّلت انقضاضَه عليها إلى مُناسبة الانتخابات الرئاسية.

الرئيسُ ماكرون وجَّه رسالةً عبر الإعلام إلى الشعب الفرنسي قال فيها بأنْ “لا أحدَ فاز في الانتخابات” من الفُرقاء السياسيين، ولم يقُلْ بأنّ أكبر الخاسرين هو فرنسا من هذه الانتخابات، التي هو مَن أمر بها وهوَ مَن قاد فرنسا، بِها، إلى مرحلة اضطرابات سياسية، يصعب التحكم في حِدَّتها وفي مدَاها.

فرنسا في تاريخها المُعاصر كانت دائمًا كتلتان، أو “فَرَنْسَيْن”. هي اليوم كُتلٌ عدَّة و”فَرِنْسَاتْ”. حتى ذلك الحد الأدنى المُعَنْوَن “بروح الجمهورية” الذي اعتُبِرَ المرجع الجامع أو العاصم للتدافع السياسي في فرنسا، فقدَ الكثيرَ من مرجعيته أو “قُدسيته” عند أغلب الفاعلين السياسيين. البوْصلةُ “العقائدية” الفرنسية علاها الصدأ. الرئيس ماكرون في رسالته يقول إنه غيرُ مُسْتَعْجِل في تشكيل الحكومة.

لا، بل إنه ينتظر أن يُداويَ الجسم السياسي جروحَه ويهدأ من صَيْحات الغُلًوِّ والانتصار فيه، ليشكل، عبْر تحالُفات تبدو عسيرة وحتى مُؤلِمة، أغلبية برلمانية مُؤهّلة لإدارة الحكومة. ربّما سينتظر لما بعد الألعاب الأولمبية في باريس، ما بين 26 يوليوز الجاري و11 غشت المقبل. البرلمانُ أصْلا في عُطلة والسياسة العامة أيضًا، وهي فُرصة لتتخلُّص كل الأطراف من حماسة، أو “ثقافة” الحملة الانتخابية، والعودة إلى إملاءات الواقِع وإلى منْطق الدولة وحقائقها ومصالحها.

أتصور أن لا تكون فرنسا بعد هذه الانتخابات هيَ ما كانت عليه قبْلها. على الأقل ستكون الدولة في وضع مُفارق مع “المجتمع” أيًّا كانت الأغلبية الحكومية التي ستخرج من مفاوضات مرتقبة بين كتلٍ سياسية. كتلٌ خرجت من الانتخابات بتصنيف رقمي، ولكنها مدعوة اليومَ إلى فرزٍ داخلها، للتأقلم مع نداءات أو إغراءات سياسية أو حتى حاجات واقعية لتدبير الدولة. مسلسلُ الخروج من “المصاعد” البرلمانية بدأ لدى اليمينِ كما لدى اليسار.

تلك الخارطة السياسية التي أُعلِنت يوم 7 يوليوز الجاري في التلفزة، في واقعِ اليوم فُتحت الأبوابَ فيها لاستيعاب كثافة المرور فيها بين الدخول إليها أو الخروج منها. تلك الخارطة سيطرأ عليها الكثير من التحوّلات. ذلك ما سيُعقِّد تشكيل الحكومة أولًا، وثانيًا سيَكبَح حركتها باحتمال قيامها على نسيج أخلاط سياسية لن تمكنها من الوضوح في قراراتها. اليمين المتطرِّف الذي له اليوم قاعدة شعبية وازنة، وقد خابت آمالُه في الوصول إلى الحكومة، لن يُسهِّل على أية حكومة مقبلة تدبيرها للبلاد. ستجده في ثنايا المجتمع وفي قطاعاته وفي قضاياه. الشروخ بين “الْفرَنْسَات” اتَّسَعت واكْتسَت حِدَّةً أكثر.

السياسة الخارجية الفرنسية سيكون لها من واقع اضطراب الحياة السياسية، واحتمالات اعتلال حكومتها الأثرَ الأكبر. في أوروبا ستكون فرنسا في وضع صوتٍ خافتٍ وقرارٍ مُرْتعشٍ. في إفريقيا، فرنسا ستواصل فُقدانها مكانتها، وستذهب أكثر نحو عُزلتها عن مواقعها التقليدية، والتي فقدتْها رسميًا قبل الوضع الراهن. في المنطقة المَغاربية لنْ يكون على الخارجية الفرنسية أن تُغيّر من سياساتها على ما كانت عليه، سواء مع المغرب أو مع الجزائر أساسًا.

نفس سياستها تجاه الجزائر قابلة للاستمرار، بنفس التعقيدات ونفس الاستهانة والتي لا تَعْتَرِض عليها النُّخبة السياسية الفرنسية، مع نفس الرئيس تبون الذي أعلن ترشُّحه للانتخابات الرئاسية الجزائرية، والذي سيفوز بها، ببركات الجيْش وبزغاريد جماعة الأحزاب المُوَالية. وسيبقى الرئيس يطالب ببَرنوس الأمير عبد القادر، وستبقى فرنسا تُقْبِر الطلبَ داخل صعوبة استصدار قرار للبرلمان الفرنسي. وسيبقى السيد تبون يتمنّى استقبال الرئيس ماكرون له في الإليزيه، والسيد ماكرون لا يجد لتلك الزيارة موْقعًا في أجندة تحركاته.

من كل هذا الشد والجذب السياسي الفرنسي، لم تستخلص القيادة السياسية الجزائرية، عبر الصحافة التي تديرها سوى أن “النظام المغربي الخاسر الأكبر في الانتخابات التشريعية الفرنسية”. كيف ذهب بها خيال حِقدها على المغرب إلى هذا المستوى من الإسقاطات المُضحكة والضحلة؟ تلك القيادة تعيش حالة توجس مرضية من نتائج الانتخابات الفرنسية تجعلها لا ترى الحقائق كما هي حقًا، ولا ترى المتضرر منها حقًا.

مع المغرب، السياسة الفرنسية محكومة بمصلحة الدولة الفرنسية، “المفروضة” على المجتمع السياسي الفرنسي بيساره وبيمينِه. علاقات فرنسا مع المغرب، كان الملك محمد السادس قد وضَع لَها مدخلًا صحيحًا وصحِّيًا هو الصحراء المغربية. وقد أثمر ذلك أن الحكومة الفرنسية “تدَفَّقت” على المغرب، بعِدَّة وزراء والعديد من الإعلانات السياسية عن الرغبة الفرنسية في الاستفادة من فُرص الاستثمار والمجهود التنموي في الأقاليم الجنوبية في الصحراء المغربية.

المُتوقع أنْ تستمر علاقات فرنسا مع المغرب، بل وأن تتوسع وتتواصل إلى مستوى الإعلان الفرنسي الصَّريح عن الإقرار بمغربية الصحراء. كيف ما كانت طبيعة الحكومة الفرنسية، يسارية أو وسطية، مع المغرب، سيكون لفرنسا سياسة واحدة، هي مصلحة فرنسا. المغرب لدى فرنسا، بكل توجُّهاتها السياسية، في موقع استراتيجي مُقدَّر. والمغرب في موقعه وفيما يُمكن أن يُفيدَ به فرنسا، في علاقة تعاوُن وفاعلٌ بتكافُؤ، ولا يُفاضل بين الفرقاء السياسيين الفرنسيين. يتدافعون بيْنهم، ولا يختلفون حول مصلحة فرنسا، بأن تحترم المغرب في سيادته وفي حقوقه وفي تعاظُم ممكناته المغربية، المغاربية والإفريقية والمتوسطية.

عامَل المغرب الانتخابات الفرنسية كونها شأنا داخليًا، وهو ممتلك لمناعته السياسية، الاقتصادية والاجتماعية. يُتابِعُها ولا يهتم لا لزوابعها ولا لمطبّاتها ولا لمخاضاتها. وذلك هو دأبُه في علاقاته الخارجية، يحترمُ الشأنَ الداخلي لكل فُرقائه، الذين له معهم صِلات الصداقة، وحتى الذين تستبد بهم نحوه الأحقاد والعداوة. أولئك، يضع بينه وبينهم مسافة احترام لشؤونهم الداخلية ومسافة الأمان في أن يتعافوا، ويصحو فيهم الوعي بمصلحة بلادهم، في التعاون مع المغرب والتجاوب مع نداءاته السِّلمية، كما فَعَل ويفعل مع قيادة الجزائر.

*عن جريدة “العرب” الصادرة من لندن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تعليقات الزوار

  • إدريس بن محمد
    منذ شهرين

    عاشق جدا لهذا القلم المتميز ، طالع سعود الأطلسي كاتب وصحفي مقتدر يشفي الغليل في جميع كتاباته.