وجهة نظر

الشباب والتدين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد:

إن الناظر في واقع شبابنا اليوم، ممن انتهجوا الدين سبيلا، وارتضوه برنامجا يوميا معيشا، يقف على جملة من الملاحظات النقدية، والعيوب المنهجية في “السلوك، و”العبادة”، والأخلاق”، وخاصة حينما يتعلق بترجمة آداب الدين وقيمه إلى سلوكيات بين الأفراد والجماعات، وبشكل أخص حينما يتعلق الأمر بالمتدينين والملتزمين فيما بينهم.

وهي ملاحظات تبدو ظاهرة بلا تكلف لكل الناس، نظرا لمخالفتها الظاهرة لأحكام الدين، أو لمباينتها لحدوده ورسومه، أو لأن أصحابها التزموا على أنفسهم شروطا فوق الاعتبار العادي الجمهوري إلى الاعتبار التحسيني والكمالي، كمن التزم هيئة في اللباس تميزه عن غيره، أو حرم على نفسه دائرة واسعة من المباحات، تورعا منه لدينه، أو اختار أن يصطف مع أهل التربية والأحوال الحسنة، فيكون وصيا لا موصى عليه، وهكذا…

غير أني أرمي من هذا البحث النقدي، إيراد جملة من الملاحظات المنهجية التوصيفية لحال تدين الشباب المسلم المعاصر، انطلاقا من بيان أهم الخلفيات المنهجية التي تحكم السلوك البيني الداخلي والخارجي لهم، وكذا صورتهم النقدية لغيرهم ممن يرون أنهم يخالفونهم في منهج التدين والسمت الخارجي له وغيرهما.

وأنا لا أريد أن أقع في جدال المفاهيم والمصطلحات، مثل “السلفية” و”الحركية” و”الصوفية”، لأنني على يقين أنها مفاهيم تنحاز لدوائر معرفية وتاريخية، وسياقات محكومة بأفكار مسبقة عند كثير من الناس.

لكني أريد أن أعالج الموضوع بعيدا عن هذه الأسامي، تقريبا للفكرة خارج سياج التحيز للأشكال النمطية المعروفة في واقعنا المعاصر.

المحور الأول: نظرة الشباب للتدين:

وأقول “التدين” لما بينه وبين (الدين) من فروق، فالأول ارتساماتوتمثلات واقعية للدين بما هو منظومة من الشرائع والمبادئ والأحوال، تحكمها (التجريدية) والارتفاع عن الزمان والمكان والأشخاص، أو لنقل: إن الدين منهج في الحياة يصدر عن الوحي الرباني والنبوي.

أما التدين فهو مجموع الصور الواقعية والبشرية لمنهج الدين، وهو تطبيق لتعاليمه في واقع الناس، وهذا التطبيق والتفعيل لهذه التعاليم تكتنفه النواقص والزيادات والسهو والخطأ، وحتى الابتداع في محل الاتباع. ولهذا فإن نسبة تفعيله متفاوتة بين المسلمين وخاصة الشباب منهم، لتفاوت القدرات والهمم والأفهام والإدراكات، وهذه خلاصة في محل التمهيد والتقديم، نأخذها مسلمة للبناء عليها فيما بعد.
فالشباب إذن يدين لله بالإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقا وسلوكا، ومحل البحث ههنا يكمن في (منهج العبادة والأخلاق والسلوك)، لأن العقائد أمر غيبي لا يخضع للقياس والإدراك الحسي، بله الرصد والنقد والتقييم..

ولا شك أن اللوم الحاصل في الوسط الشبابي المتدين، يقع كثيرا على هذه الجوانب انطلاقا من محاكمة الأفعال إلى مبادئها وأصولها التشريعية في الدين، بمعنى أنك تحكم على السلوك صحة وفسادا بناء على موافقته أو مخالفته لأصله التشريعي في الدين حرمة وجوازا أو إباحة، وأنت ترى ما بين بعض الملتزمين اليوم من السِباب والشتائم استنادا على قرائن من هذا القبيل، وإن كان منهج السب والشتم لا يزيد الرقعة إلا اتساعا، والخلاف إلا شساعة.

فمن العيوب والاختلالات المنهجية في هذا الصدد ما يلي:

– أولا: عدم التفريق بين (المبدأ) و(الخطإ):

فالمبدأ تجريدي مستند إلى الشرع بين الجواز والحرمة والإباحة، وهي أحكام شرعية تفتقر إلى الاجتهاد في تنزيلها على الحالات الاجتماعية والأفعال البشرية، وقد لا يحتاج الفعل والسلوك إلى كثير عناء في الحكم عليه، لمخالفته الظاهرة ومباينته البينة لرسوم الدين، لكن ما فيه العناء وما يفتقر إلى ترو وتؤدة، هو ما كان محل خلاف بين النظار من الفقهاء والعلماء، فيحتاج إلى مزيد اجتهاد من أهله لتحديد طبيعته التشريعية وحكمه في الدين. وهذا مما لا شك فيه لا ينبغي أن يكون مَشَاعًا للشباب ممن قصُرَت هممهم، وضعفت في رتبة الفهم أنظارهم، وتجاسروا على أدوات التفسير للنصوص الشرعية بدون زاد ولا علم ولا حتى أدب !! وأما إن فُرضَ معرفةُ هذه التقاسيم، والحيازةُ لهذه الأدوات، فلا بد من التفريق بعدها بين أصولية الحكم في الدين، وفروعية الفعل في الواقع، وأن الأفعال لا يحكم عليها بالبطلان ومخالفة الحق ولا بالضلال، إلا إذا خالفت المنصوص عليه والمقطوع به، لأن أفعال المكلفين وسلوكياتهم تدخل في نطاق أحكام الفقه، وهي بالقطع أحكام في غالبها (ظنية)، أقساها الـ (حرمة)، وفاعلها من العصاة والفساق لا غير. وههنا لا أهون من خطورة المعاصي والفسوق والعصيان، لكنها مع ذلك تُبقي المسلم في نطاق الإسلام وجماعة المسلمين، ولا تُبطل عنه حقوقه الواجبة له وعليه.

وما أحوج الشباب المتحمس لدينه إلى هذا الفقه الرصين، الذي بموجبه تتسع صدورهم للمسلمين، وبجماله يحرصون على إدخال المسلمين للإسلام، وتكثير سوادهم، وهو مقصد عظيم من مقاصد الشارع الحكيم سبحانه وتعالى.

{يتبع}