منتدى العمق

عندما تصبح المأساة الفردية أداة للابتزاز الجماعي

الانتحار قرار فردي مأساوي لا يبرره أي ظرف مهني أو إداري. هذه حقيقة إنسانية مطلقة لا تحتمل التأويل أو المساومة. لكن ما يحتمل النقاش والتحليل هو توظيف هذه المأساة، وتحويل التعاطف الإنساني الطبيعي إلى سلاح فئوي للحشد وتصفية حسابات ضيقة.

وفي هذا السياق، لا يمكن فهم الوضع الحالي دون استحضار المقارنة التاريخية. فقد أمضى جيل كامل من أطر التعليم عقودا في مناطق نائية، بين الجبال والفيافي والثغور، بأجور متواضعة وإمكانيات محدودة، دون أن تتحول صعوباتهم إلى أزمة وطنية. هؤلاء الرجال والنساء بنوا صلابة مهنية من خلال التحدي، وأدركوا أن المشاكل الإدارية جزء طبيعي من سياق العمل العام. لم يكونوا يفكرون في التهديد بالإضراب كلما واجهوا مسألة إجرائية، بل كانوا يعتبرون أن الرسالة التربوية أولوية تستوجب التضحية والصبر.
غير أن هذا المنظور يبدو اليوم وكأنه ينتمي إلى عصر آخر. فالجيل الجديد من المدرسين، الذي استفاد من تحسينات كبيرة في ظروف العمل والأجور والترقية، يبدي حساسية مفرطة تجاه أي إجراء إداري. يتحدثون عن الضغوط النفسية والكرامة المهنية كما لو أن قطاع التعليم منطقة محمية من قواعد العمل والانضباط التي تحكم باقي القطاعات. وهذا التحول في العقلية يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة الالتزام المهني ومعنى الخدمة العمومية.
والحقيقة أن مقاومة الإصلاح لا تنبع من فراغ، بل من رفض الخضوع للمحاسبة. فالإحصائيات الرسمية تكشف عن وضع مقلق، وعلى سبيل المثال : في ظرف تسعة أشهر فقط، تم تسجيل أكثر من 60 ألف يوم غياب، مع تقديم ما يزيد عن 17 ألف شهادة طبية لتبريره. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي وقت مسروق من حق التلاميذ في التحصيل، وضربة مباشرة لجودة التعليم العمومي. ومن ثم، فإن أي محاولة لتصوير بعض الإجراءات الإدارية كنوع من الاستهداف تتجاهل هذا الواقع المؤلم.
وفي المقابل، يعمل آلاف الأساتذة في القطاع الخاص في ظروف أكثر صعوبة، بعقود هشة وأجور منخفضة، دون أن يتحولوا إلى أزمة وطنية. هؤلاء يواجهون استغلالا حقيقيا من أرباب المدارس الخاصة، لكنهم يحافظون على انضباطهم ويحققون نتائج جيدة، لأنهم يدركون أن البديل هو البطالة. هذا التناقض يكشف عن مفارقة مؤلمة: كلما زادت الحماية والامتيازات، قلت الرغبة في تحمل المسؤولية.
وإذا كان هذا هو الحال، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في تحول جزء من موظفي التعليم إلى ما يشبه الطفل المدلل الذي يرفض أي نوع من الضبط أو المحاسبة. يريدون امتيازات الوظيفة العمومية دون التزاماتها، ويعتبرون أن أي محاولة لربط الأداء بالمسؤولية هو اعتداء على الكرامة. هذا المنطق يحول قطاع التعليم إلى مجرد وظيفة للراحة والاستقرار، ومنحة شهرية من المال العام نظير الاحتفاظ بالتلاميذ في الأقسام في انتظار انتهاء الدوام.
بيد أن أخطر ما في الموضوع هو تحويل كل حادثة فردية إلى قضية رأي عام، واستغلال التعاطف الإنساني الطبيعي لعرقلة أي إصلاح، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه لجهات تستثمر في الخطاب العدمي وإشعال فتيل الإضرابات لدفع القطاع نحو حالة من عدم الاستقرار الدائم. فبينما يواجه مواطنون آخرون مصاعب أشد قسوة من فقدان الوظيفة إلى هدم البيوت في صمت وكفاح، تتحول كل مشكلة إدارية في قطاع التعليم إلى مظلومية تستوجب تدخل الإعلام والرأي العام. وهذا النوع من الابتزاز العاطفي يضر بالمصلحة العامة، ويحول النقاش من السؤال الحقيقي: كيف نحسن جودة التعليم؟ إلى سؤال زائف: كيف نحمي (المظلومين) من الإصلاح؟
وعليه، فإن مستقبل التعليم في المغرب مرهون بثقافة مهنية جديدة تقوم على ركائز واضحة: الانضباط، والمسؤولية، والتركيز على النتائج. هذا يتطلب وضع حد للمنطق الحالي الذي يحول كل إجراء إداري إلى كارثة، وكل محاولة للمحاسبة إلى تضييق. فالدولة لها حق وواجب إصلاح قطاع حيوي يرهن مستقبل الأمة، وعلى من يختار العمل في الخدمة العمومية أن يدرك أن الامتيازات تقابلها التزامات، وأن الحقوق مرتبطة بالواجبات.
بالنهاية، لا بد من التأكيد على أن التعليم رسالة قبل أن يكون وظيفة، ومسؤولية قبل أن يكون حقا. وحين ندرك هذا، سنكون قد بدأنا الطريق الصحيح نحو منظومة تعليمية تستحق اسمها، وتخدم مصالح الوطن والمواطنين، بدلا من أن تكون رهينة لمنطق الابتزاز والمظلومية المصطنعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *