وجهة نظر

جائحة كورونا وحقيقة الأشياء

لا أحد منا كان يتوقع أن تكون بداية سنة 2020 كارثية على العالم بأسره، فبعدما كنا في أواخر سنة 2019 نستبشر خيرا ونتفاءل أن تكون هي السنة الجديدة التي ستحقق لنا كل الأماني والأحلام التي لم تحققه لنا كل السنوات الماضية، وبينما كنا نجلس كعادتنا في المقاهي والمطاعم نتبادل أطراف الحديث حول فيروس جديد ظهر بمدينة ووهان الصينية، وفي كل يوم نحصي عن بعد عدد الحالات المصابة هناك وعدد الوفيات وعدد المخالطين والحالات المستبعدة، وكنا نظن أن الصين بعيدة جدا عن قارتنا وعن مدننا من حيث المسافة، حتى أصبح البعض منا ينسج بعض الأسطورات والنكت حول هذا الفيروس الصغير جدا، وكنا نعتقد أنه مثل سائر الفيروسات الموسمية التي غالبا ما يتم القضاء عليها بكل سهولة.

ومع مرور الأيام بدء الفيروس ينتشر ويتوسع في بسط سيطرته على عدة قارات آمنة مطمئنة، حتى سمعنا بظهور بؤرة جديدة بإحدى المدن الإيطالية بالقارة العجوز، والتي كنا نظن أنها ستصمد أمام هذه الجائحة، وعلى العكس من ذلك إنهارت الدولة القوية إقتصاديا وإستسلمت أمام هذا الكائن الذي لا يرى بالعين المجردة ، وبدءت تحصي عدد الحالات المؤكدة بالآلاف وعدد الوفيات بالمئات، كما ظهرت بؤر جديدة بعدة دول مجاورة كفرنسا وإسبانيا، وبدء الخوف والهلع يسود في كل دول العالم التي كنا نحسبها دول ديمقراطية وتحترم حقوق الإنسان، والتي فجأة إختفى زعمائها وأمروا بإغلاق حدودها في تعارض تام مع مبادئ التضامن والتعاون التي ينص عليها قانون إتحادها.

وكنا نراقبهم ونشاهدهم عن بعد كمسلسل درامي مثير للمشاهدة، وبدأ بعض الزعماء السياسيين القدامى يظهرون في خرجات إعلامية غير محسوبة العواقب يهدؤون من روعتنا ويعدون العدة لسنة 2021، ظنا منهم أن هذا الفيروس قابل للتسييس والمفاوضات وسيوظفنه كالعادة في أجندتهم السياسية المقبلة.

حتى تفاجئنا في يوم 2 مارس 2020 بظهور أولى الحالات ببلدنا الحبيب، والذي كنا نظن أنه بعيد كل البعد عن الصين الشعبية، ومن تم أعطيت تعليمات سامية من أعلى سلطة في البلاد لكافة الأجهزة والمؤسسات العمومية لإتخاذ رزنامة من الإجراءات والتدابير الإحترازية لحماية الوطن والمواطنين والتي نجني ثمارها اليوم (إغلاق البحرية والبرية والجوية، توقيف الدراسة، إغلاق المقاهي والمطاعم، إغلاق المساجد، منع التنقل بين المدن…)، وأمر بإحداث صندوق خاص بتدبير الجائحة ساهم فيه كل كبير وصغير وغني وفقير، وبدء التعاون والتآزر يسود بين مختلف أطياف المجتمع.

فيما إختفى اللهطين والملهوفين حول المكاسب والمناصب والذين يغتنون من السياسة، ويستمتعون بالإمتيازات الريعية والتعويضات الخيالية والتقاعد المريح دون عناء وجهد يذكر، كما إختفى معه من كنا نحسبهم نجوم ومشاهير في الفن والغنى والكرة الدائرية وتبين أنهم نجوم مزورين يروجون التفاهة في المجتمع، وغابوا عن الظهور في شاشة التلفاز واكتفوا بالتفرج من النوافذ والأسطح.

وسقطت أقنعة الكثير من المسترزقين والمنافقين والكاذبين الذين يتاجرون بمآسي الوطن والمواطنين، وإتضحت حقيقتهم ومعدنهم المزور، وكشفت لنا كورونا من هو الصالح والطالح من الناس، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.

ففيروس كورونا كشف لنا حقيقة الأشخاص ومعدن الأشياء التي كنا نفتختر بها، فتبين لنا أن النجوم الحقيقيين هم رجال الصف الأول الذين قاوموا بكل ما أتوا من قوة وعزيمة وإرادة وصامدوا في مواجهة الكارثة (الأطباء والممرضين، رجال السلطة والأمن، رجال النظافة، مساعدين إجتماعيين، فاعلين جمعويين…) وظهرت أيضا بعض الكائنات الحية والطفيليات التي تقتنص الفرص وتستغل الكوارث وبعض الفيروسات الأخرى التي سرعان ما تم القضاء عليها بإستعمال المطهرات والمعقمات وارتداء الكمامات، وبرز دور رجال الدولة الذين يسيرون القطاعات الحيوية كالفلاحة والصيد البحري والصناعة والتجارة والإقتصاد والمالية والصحة وغيرهم ممن ساهموا بأموالهم وجزء من ثروتهم رغم تضرر شركاتهم وإنهيار أسهمهم وطنيا ودوليا وعبروا عن حسن وطنيتهم وإخلاصهم، فيما إستغل البعض هذه الجائحة لتخزين المواد الغدائية والسلع والبضائع وحتى الأكسجين، فأحكموا إغلاق النوافذ والأبواب وكان شعارهم أنا وبعدي الطوفان.

فهذا الفيروس لا يعترف بالحدود الترابية والرأسمال المادي والبشري والقوة العسكرية والتطور التكنولوجي، بل تجاوز كل المطالب والشعارات التي كانت ترفعها كل الحركات الإحتجاجية والحقوقية في العالم، وإعترفت معه عدة دول بفشل كل سياستها وبرامجها ومخططاتها التنموية السابقة، وبدأ التفكير في نموذج تنموي جديد يتأسس على المبادئ والقيم الإنسانية والأحكام المستخلصة من هذه الجائحة، فبدأ الإهتمام ينصب على إستثمار هذه العبر والدروس المستخلصة من هذه الكارثة في إعادة بناء مجتمع جديد وتكوين إنسان جديد قادر على تدبير الكوارث وزرع قيم التضامن والتعاون والتآزر بين مختلف شرائح هذا المجتمع.

تلك هي إرادة الله في الكون لا مبدل لكلماته، فالفيروس لم يكن يوما كالصاروخ النووي أو القنبلة الذرية التي هي من صنع الإنسان ليقتل به أخيه الإنسان، بل هو جند من جنود الله تعالى التي لا ترى بالعين المجردة ” ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما” الفتح 7، أرسلها لنا ليختبر بها قوة إيماننا وعزيمتنا في قول الحق والدفاع عنه، ودرء المنكرات وإجتناب الباطل، وقياس درجة إيماننا بالقدر خيره وشره، ومدى صبرنا وصمودنا أمام الابتلاءات التي يصيب بها من يشاء من عباده، وإعترافنا بنعم الله التي لا تعد ولا تحصى، فالإيمان بالله والقدر خيره وشره لا يتعارض مع قاعدة الأخذ بالأسباب المشروعة، بل أن الأسباب مقدرة أيضا كالمسببات، فمن زعم أن الله تعالى قدر النتائج والمسببات من غير مقدماتها وأسبابها، فقد ذهل عن حقيقة القدر” فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا” فاطر43، فالحمد لله الذي فضلني على كثير ممن خلق تفضيلا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *