منوعات

دفــاعا عن ماكيافللي

غالبا ما يتوسّل بعض المتحاورين بعبارة “الميكيافيلية”، وذلك بُغية انتقاد بعض الأفكار والسلوكات التي تتّسِم بنوعٍ من المصلحية والنّفعية، إذ يُستَحضَر في هذا السياق “ماكيافللي” باعتباره أحد المنَظرين لِطغيان المصلحة على المبدأ، وإقراره لفكرة “الغاية تُبرّر الوسيلة”. هذا هو السياق السجالي الذي يُستحضَر فيه صاحب كتاب “الأمير”، وهذه تقريبا هي النظرة التي يَنظر بها البعض لماكيافللي، لكنها حتما نظرة اختزالية ومُبتسَرة، حيث يُنتزع الرجل من سياقه، ويُراد لفكره أن يُفسِر الواقع المتغيّر.

إن الربط بين ماكيافللي وبين غياب الأخلاق السياسية وسيادة القوة والمناورة، لهو ـ عموما ـ تعبير عن عدم إلمام بسيرة الرجل، وغياب اطّلاعٍ على الواقع الذي كان ماكيافللي يحاول تجاوزه. كما أن كتاباته المتعددة والمتنوعة تظل مجهولة في غالبها، بينما يتم التركيز على واحد منها وهو الموسَم بـ “الأمير”، عِلما بأن للكتاب الأخير كُتبا قبله وبعده. وحتى كتاب الأمير فإنه إما غير مقروءٍ من قِبل أكثرية الذين يتحدثون عن المكيافللية أو أنه مؤوّل بمعزل عن الظروف التي كُتب فيها. لكن إذا كانت هذه نظرة اختزالية أو اجتزائية لكتاب لصاحب “الأمير” فما هي النظرة الصائبة؟ وما هي “حقيقة” ماكيافللي؟ وما هو سياقه؟ ولماذا من ارتبطت به البراغماتية دون سواه ؟

لا يمكن الإدعاء بأنه في مقالة متوسطة الحجم يمكن أن الإحاطة بكافة الاشكالات التي تَطرحها كتابات واحد من أهم الشخصيات الفكرية التي أنتجها القرن العشرين. كما لا نزعم أن ما نقدّمه حوله هو الصواب، بل إن شخصية ماكيافللي مركبة، وفكره يحمل الكثير من المعاني التي قد تظهر في بعض الأحيان أنها متناقضة. فنحن أمام رجل أنجزت حول فكره العديد من الأطروحات، ونُظّمت من أجله المائات من الندوات.

لقد عاش ماكيافللي (1469 -1527م) في ظروف سياسية يخيم عليها الانقسام، ويسودها الاستبداد الديني والسياسي، حيث كانت مدن ايطاليا تحاول انتزاع استقلاليتها عن الامبراطوية الرومانية تارة والبابوية تارة أخرى، وحيث كانت هناك تنظيرات تروم إيجاد خلفية فكرية لهذه الاستقلالية، ردا على الذين “حرّموا” الخروج على الكنيسة. ورغم أن ماكيافللي لم يكن أول من أسنَد المدن الجمهورية بمجموع مقولات وأفكار تَشُدّ عضُد “الثوار”، إذ سبقه إلى ذلك العديد من الشعراء والمفكرين والمصلحين أمثال الشاعر “دانتي” والمُصلح “مارسيليوس”، فإن صاحب “الأمير” ذاع صيته، وانتشرت أفكاره لِمَا لشخصيته من جاذبية، و لِمَا لأفكاره من تأثير وبلاغة في الخطاب، سيما وأن ماكيافللي ساهم في العمل السياسي ولم يكن منعزلا عن الشأن العام. إذ إنه شغل منصب سكرتير المستشارية الثانية لجمهورية “فلورنسا” لمدة ثلاثة عشر عامًا، ودخل في صراعات مع الكنسية وحلفائها. لهذا كان شديد الحنق على الكنيسة ورجال الدين لِمَا تسبّبوا فيه من دمار وتخلف للأمة الإيطالية. وإن كان موقفه من الدين سيتغير، وربما ينقلب عقبا على رأس، في كتابه المطارحات الذي كتبه بعد “الأمير”، حيث سيصبح الدين عنصر قوة بالنسبة للدولة وعلى الأمير رعايته والاهتمام به حتى ولو لَم يؤمن به، وفي هذا يأتي نصحه للأمراء بأن “يحتفظوا بنقاء طقوس الديانة التي يؤمن الأمير أو الجمهورية بها، وأن يحلّوها محلّ الإجلال دائماً، إذ لا دليل أصدق على انحطاط أي بلد من البلاد، من رؤية العبادة السماوية وقد غدت موضع الإهمال وعدم الاكتراث” (المطارحات، ص 265).

إن المتفحّص لكتابات ماكيافللي في مجموعها، لَيدرك أن الرجل كان يتفاعل مع محيطه، ويحاول أن يَجد الحلول الممكنة لواقعه الممزق بين الخضوع للامبراطور وطاعة الكنيسة، حيث سيطرة الإقطاع الديني والسياسي، ووقوع “الرعايا” تحت وطأة الفقر والجهل. فكان لزاما على ماكيافللي أن يبدع مجموعة أفكار وحلول لهذا الواقع المأزوم، وهو ما جعل منه أول منظر للفسلفة السياسية، وأول من أسّس للدولة بمفهومها الحديث (سيتطور هذا المفهوم مع كل من هوبز وسبينوزا ولوك وغيرهم). لقد استطاع صاحب “المطارحات” أن يزاوج بين التفلسف وبين التنظير السياسي، فجاءت أفكاره مزيجا من الواقعية والطموح إلى مستقبل أفضل.

وهكذا فإن العديد من التعبيرات التي يعتقد البعض بأنها خاصّة بماكيافللي هي في الأصل مسألة مرتبطة بالواقع، وكان التميز الوحيد الذي جاء به ماكيافللي هو أنه خطّها بين دُفتي كتابه “الأمير”، فـ”مقولة الغاية تبرر الوسيلة” هي تحصيل الحاصل، وهي ومقولة “السماء زرقاء” سيان. فالكل يعمل بهذا المقولة ولو لم يُعلن عنها، سواء قبل ماكيافللي أو بعده. فهذا المقول تشبه إلى حد كبير القول بـ “الضرورات تبيح المحضورات”. كما أن الكثير من الفكر السياسي دافع عن ضرورة اللجوء إلى العنف والقسوة من أجل الحفاظ على “الهيبة”. وهذا ما نصادفه في العديد من الكتابات السياسية من قبيل كتاب “الدولة التنين” لطوماس وهوبز، ومن المعاصرين اشتهر ماكس فيبر بتسويغه احتكار الدولة للعنف، واعتباره ذلك من أحد مقومات بقاء الدول. أما نُصح ماكيافللي في كتابه “المطارحات” الأمير برعاية الدين وإصباغ الطابع الديني على القوانين حتى تُلاقي القَبول عند المواطنين، فهذا لا يختلف كثيرا عن إقرار ابن خلدون لما يمكن للدعوة الدينية أن تقدّمه للحكم ولبقاء السلطان وقوته (لكاتب السطور دراسة مفصلة تتناول سؤال “الدولة والدين عند كل من ماكيافللي وابن خلدون” ستصدر لاحقا)

لم يكن الهدف من هذا الاقتضاب التغطية على العديد من التصورات السلبية التي تَرِد في كتابات ماكيافللي، ولكن كان الهدف هو وضع الرجل في سياقه، والبحث في الجوانب الايجابية التي تتضمنها كتاباته، وفهم الواقع الذي كان يحاول إبداع مخارج له. صحيح أن أفكار ماكيافللي تتضمن بعض الالتباس، وتتوزعها رُزمة من الهواجس التي يبدو عليها طابع التناقض، لكن النتيجة التي يمكن أن تُوصِل إليها أفكاره تبقى عظيمة ولا يمكن للإنسانية أن تتنكّر لها. وربما لا يوجد أكثر من تأوّل أفكار ماكيافللي وفهمها على النحو الصحيح من جان جاك روسو وهو أحد أهم فلاسفة العقد الاجتماعي، حيث كان يقول بأن “ماكيافللي وهو يتظاهر بتقديم الدروس إلى الملوك، إنما قدم أعظمَها إلى الشعوب. ألا إن كتاب الأمير لِماكيافللي لَكِتابُ الجمهوريين”. أما روبيسبيار وهو أحد قادة الثورة الفرنسية لسنة 1789 فذهب إلى أبعد من ذلك، بقوله: “إن خطة الثورة الفرنسية كانت مكتوبة بإسهاب في كتب ماكيافيللي” (أرندت: في الثورة). قد يُسجّل على ماكيافيللي أنه نقل الأخلاق من غاية سياسية، وجعلها في خدمة الجمهورية، لكن للرجل مبرراته الظرفية التي كانت تحتم عليه بدلا من الخوص في البحث عن أفضل النظم السياسية، إيجاد حلا لحالة الحرب التي لا تنتهي، والحؤول دون المزيد من الانقسام، والسيطرة على الأزمات المتتالية، ومن هنا صار للسياسة معنى أداتيا وتقنيا، إذ صارت تقترن بالضبط والسيطرة (العلمي الادريسي: الأخلاق والسياسية).