وجهة نظر

ظاهرة أولاد الفشوش في المغرب: مقاربة سوسيو-قانونية

في سياق التحول المجتمعي الذي يشهده المغرب، حيث تسعى الدولة جاهدة لترسيخ أسس دولة الحق والقانون، تظل بعض الظواهر الاجتماعية كالأشواك في خاصرة دولة القانون، إذ تطرح تحديات حقيقية أمام تحقيق العدالة، ومن أبرزها ما يُعرف إعلاميًا وشعبيًا بظاهرة “أولاد الفشوش”. وهي التسمية التي أطلقها الرأي العام المغربي على بعض أبناء الفئات الثرية والنافذة، الذين يرتكبون أفعالًا مخالفة للقانون، تتراوح بين الجنح والجرائم، مستفيدين من حصانات غير رسمية يضفيها عليهم نفوذ أسرهم أو الجاه الاجتماعي الذي يتمتعون به.

تطرح هذه الظاهرة إشكالية جوهرية تتعلق بمدى تحقق مبدأ المساواة أمام القانون، كما نص على ذلك الدستور المغربي، ومدى قدرة الدولة على تنزيل هذا المبدأ بشكل فعلي لا انتقائي. كما تثير تساؤلات حارقة من قبيل:

ما هي الأسباب الاجتماعية والثقافية والقانونية التي تفرز “أولاد الفشوش”؟
هل تكمن المشكلة في النص القانوني أم في ضعف التنفيذ؟
كيف يؤثر هذا السلوك الامتيازي على الثقة العامة في العدالة؟
وما هي السبل الكفيلة بتقويض هذه الظاهرة في ضوء مشروع بناء مجتمع متكافئ وعادل؟

سنحاول من خلال هذا المقال تفكيك الظاهرة وتحليلها ضمن ثلاث محاور:
أولًا: الأسباب المركبة لظهور “أولاد الفشوش”؛
ثانيًا: التداعيات الاجتماعية والقيمية للظاهرة؛
ثالثًا: المقاربات القانونية والاجتماعية الكفيلة بردعها وضمان العدالة.

أولًا: الأسباب المركبة لظهور “أولاد الفشوش”
إن تفشي ظاهرة “أولاد الفشوش” ليس وليد الصدفة أو مجرد سلوكيات فردية شاذة، بل هو ناتج عن تفاعل معقد بين بنى ثقافية، وممارسات تربوية، واختلالات قانونية. فعلى المستوى التربوي، غالبًا ما ينشأ “الابن المدلل” داخل بيئة تكرّس له الإحساس بالفوقية، وتُعفيه من تحمل المسؤولية، إذ تُلبّى رغباته دون شروط، وتُبرر أخطاؤه بدعوى صغر سنه أو بحكم النفوذ العائلي.

أما على المستوى الاجتماعي، فتُكرّس الفوارق الطبقية شعورًا دفينًا لدى بعض أبناء الفئات الميسورة بأنهم “أعلى مقامًا” من غيرهم، وأنهم لا يخضعون لنفس القواعد التي تضبط سلوك “العامة”. ويتفاقم هذا الشعور في ظل غياب الوعي القانوني داخل الأسرة وغياب القدوة المدنية التي تُجسّد قيم المساواة والانضباط.

أما من الناحية القانونية، فالإشكال لا يكمن في غياب النصوص، بل في الانتقائية في تطبيقها، والتأثر أحيانًا بعلاقات النفوذ، سواء في دوائر الشرطة أو في مراحل المحاكمة، مما يُعزّز لدى الرأي العام انطباعًا بوجود “مواطنتين”: واحدة تُطبق بحذافيرها على الفقراء، وأخرى مرنة لمن يملك المال والجاه.

ثانيًا: التداعيات الاجتماعية والقيمية للظاهرة
لا يمكن التقليل من الأثر العميق الذي تُخلفه هذه الظاهرة على البنية الأخلاقية للمجتمع. فعندما يُفلت أحد “أبناء الفشوش” من العقاب رغم ارتكابه لجريمة موثقة بالصوت والصورة، يشعر المواطن البسيط أن ميزان العدالة قد اختل، وأن الدولة لا تحمي جميع مواطنيها على قدم المساواة.

هذا الإحساس بالحيف يُفضي إلى تآكل الثقة في مؤسسات العدالة، ويُولّد لدى البعض مشاعر الغضب والكبت، التي قد تنفجر في شكل سلوك متطرف أو عدوان اجتماعي.

إلى جانب ذلك، تُكرّس هذه الظاهرة ثقافة الاحتقار والتمييز، حيث يترسخ لدى “أولاد الفشوش” شعور بالحصانة من العواقب، فيمارسون سلوكًا استعلائيًا تجاه باقي شرائح المجتمع دون وازع أو رادع. بل الأسوأ، أن هذا السلوك قد يتحول إلى “نموذج” يُقلَّد من قبل من يسعون إلى الترقي الاجتماعي بأي وسيلة، حتى على حساب القيم.

الأخطر من ذلك أن هذه الظاهرة تعيد إنتاج اللامساواة عبر الأجيال، إذ يُرسّخ الانقسام بين “نخب فوق القانون” و”عامة خاضعة له”، في تعارض صارخ مع جوهر المشروع الديمقراطي الذي يقوم على مبدأ سمو القانون على الجميع، بصرف النظر عن المكانة أو الانتماء الطبقي.

ثالثًا: سبل المعالجة القانونية والاجتماعية
لمواجهة هذه الظاهرة، ينبغي الاشتغال على مسارين متكاملين: مسار القانون وتطبيقه، ومسار التربية وبناء الوعي المجتمعي.

أولًا، يتعين تعزيز استقلالية النيابة العامة، وضمان عدم تأثر ملفات “أبناء النافذين” بأي تدخلات مهما كان مصدرها. وينبغي العمل على تقوية آليات الرقابة القضائية، وتفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، دون تمييز على أساس الوضعية الاجتماعية أو القرابة السياسية.

ثانيًا، لا بد من إصلاح منظومة التنشئة الأسرية، عبر حملات تربوية وطنية تُرسّخ لدى الناشئة قيم المواطنة، والمساواة، والمسؤولية الفردية. ويقع على عاتق المؤسسات التعليمية والإعلامية دور استباقي في تفكيك خطابات التفوق الطبقي، ونشر ثقافة احترام القانون.

ثالثًا، من المفيد إحداث آلية وطنية لرصد حالات التمييز في تطبيق القانون، تتولى استقبال الشكايات من المواطنين، وتعد تقارير دورية تُرفع إلى البرلمان، لتسليط الضوء على مواطن الخلل وضمان الشفافية.

رابعًا، تطوير برامج لإعادة الإدماج التربوي والسلوكي للمخالفين من هذه الفئة داخل المجتمع، بشكل يُراعي البُعد الإصلاحي دون أن يفهم على أنه تواطؤ أو تمييع للعقوبة.

وأخيرًا، فإن إشراك المجتمع المدني والصحافة الاستقصائية يظل ضروريًا لتفعيل الرقابة المجتمعية، وكسر جدار الصمت، وضمان بقاء هذه القضايا في صلب النقاش العمومي بما يُعزز مناخ الشفافية والمساءلة.

ختاما .. إن ظاهرة “أولاد الفشوش” ليست مجرد انزلاقات فردية، بل هي انعكاس لأزمة أعمق تمس توازن العلاقة بين السلطة والمال والقانون في المجتمع. وإذا كان المغرب اليوم يتطلع إلى ترسيخ نموذج تنموي جديد، قائم على العدالة والمواطنة والإنصاف، فإن أول شروط النجاح هو أن يخضع الجميع للقانون، دون تمييز بين ابن وزير أو ابن حارس أمن، أو أي فرد من مختلف شرائح المجتمع، مهما كان موقعه أو وضعه الاجتماعي.

وما لم تتحول القاعدة القانونية إلى مرجعية جامعة، تُطبق على الجميع بلا استثناء، ستظل الثقة في المؤسسات مهزوزة، وسيبقى العدل شعارا مرفوعا أكثر منه واقعا ملموسا.
ليس في الدولة العادلة أبناء فقراء وأبناء أغنياء، بل مواطنون أمام القانون، لا يعلو أحدٌ فوقه، ولا يُسحق أحدٌ تحته.

ب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *