26 عاما من الرعاية الملكية.. مسيرة الدفاع عن مغاربة العالم منذ خطاب 1999

مقدمة: تأسيس عهد جديد للرعاية الملكية
منذ اعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه الميامين في 30 يوليوز 1999، وضع قضايا مغاربة العالم في صلب أولويات العهد الجديد. ففي أول خطاب للعرش، أعلن جلالته أن “من الأمور التي سنوجه لها اهتمامنا الخاص قضايا جاليتنا القاطنة بالخارج والتفكير الجدي في تذليل الصعاب التي تعترض طريقها والعمل على حل مشاكلها وتمتين عرى انتمائها للوطن الأم” . هذه العبارة لم تكن مجرد إشارة عابرة، بل كانت بمثابة الإعلان عن فلسفة جديدة في التعامل مع مغاربة العالم، تقوم على اعتبارهم مواطنين كاملي المواطنة، وليس مجرد مغتربين.
✓ التطور التاريخي للرعاية الملكية: من الخطابات إلى المؤسسات
1. المحطات التأسيسية (1999-2007)
شهدت السنوات الأولى من العهد الجديد تحولاً جذرياً في النظرة إلى مغاربة العالم. فبعد الخطاب التأسيسي لعام 1999، جاء خطاب ذكرى المسيرة الخضراء في 6 نوفمبر 2005 ليشكل “سرعة جديدة” في ملف الجالية المغربية، حيث أقر أربعة قرارات استراتيجية قلبت موازين التعامل مع هذا الملف . هذه القرارات تضمنت:
– تعزيز المشاركة السياسية لمغاربة العالم
– تحسين الخدمات القنصلية
– تعزيز الروابط الثقافية والهوياتية
– إنشاء مجلس استشاري للجالية
وفي خطاب المسيرة الخضراء لعام 2006، كلف جلالة الملك المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بإجراء مشاورات واسعة تمهيداً لإحداث مجلس الجالية المغربية بالخارج، الذي تم تنصيبه بالفعل في 21 دجنبر 2007 بظهير ملكي شريف .
2. الدسترة والتكريس القانوني (2011)
بلغت العناية الملكية بمغاربة العالم ذروتها مع دستور يوليوز 2011، الذي كرس مكتسبات الجالية في عدة فصول، أهمها:
– الفصل 17: دسترة المشاركة السياسية
– الفصل 18: المشاركة في مؤسسات الحكامة
– الفصول 13-15: الديمقراطية التشاركية للجمعيات المغربية بالمهجر
– الفصل 16: التزام الدولة بالدفاع عن المهاجرين
– الفصل 163: دسترة مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج
هذه الدسترة لم تكن سوى تتويجاً لمسار طويل من العناية الملكية، وتحولت بموجبها قضايا مغاربة العالم من مجرد سياسة حكومية إلى التزام دستوري ملزم.
3. مرحلة التقييم والإصلاح (2015-2024)
في يونيو 2015، شكل خطاب العرش “زلزالاً للديبلوماسية المغربية” كما وصفه المراقبون، حيث كشف جلالة الملك عن استيائه من تردي الخدمات القنصلية، بناءً على شكاوى تلقاها مباشرة من أفراد الجالية خلال جولاته الخارجية . هذا الخطاب القوي كان بمثابة نقلة نوعية في مسار الرعاية الملكية، حيث انتقل من مرحلة البناء المؤسسي إلى مرحلة التقييم والمحاسبة.
وفي خطاب 20 غشت 2016، وجه أمير المؤمنين نداءً تاريخياً لمغاربة العالم بالتشبث بالدين الإسلامي الوسطي والحفاظ على السمعة الطيبة للمغرب والمسلمين، خاصة في ظل تصاعد الخطاب المعادي للإسلام في أوروبا .
وجاء خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2024 ليمثل محطة جديدة في هذا المسار، حيث دعا جلالته إلى إعادة هيكلة المؤسسات المعنية بالجالية، خاصة مجلس الجالية المغربية بالخارج، كما أعلن عن التوجه نحو إحداث “المؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج” .
✓ مجالات العناية الملكية: رؤية شمولية
1. الحماية القانونية والقضائية
لم يقتصر اهتمام جلالة الملك على الجانب الرمزي أو السياسي، بل تجسد في تدخلات ملموسة لحماية حقوق مغاربة العالم، منها:
– الفصل في قضية جنسيات أطفال المغربيات في الزواج المختلط
– تحريك ملفات قضائية لحماية عقارات مغاربة العالم
– الدفاع عن سمعة مغاربة العالم واعتدال تدينهم في وجه اتهامات اليمين المتطرف الأوروبي
2. الرعاية الاجتماعية
أمر جلالة الملك في يونيو 2021 الحكومة باتخاذ كل التدابير لاستقبال القاصرين المغاربة غير المرافقين بأوروبا، لحمايتهم من الاستغلال من قبل عصابات الإرهاب وتجارة الأعضاء . كما أصدر “الأمر الملكي” في 13 يونيو لتسهيل عودة الجالية إلى المغرب بأسعار مناسبة، خاصة في ظل جائحة كوفيد-19 .
3. المشاركة في التنمية
أشرك جلالة الملك ممثلي الجالية في لجنة النموذج التنموي الجديد سنة 2021، اعترافاً بدورهم في التنمية وحرصاً على الاستماع إلى تطلعاتهم . كما أشاد الخطاب الملكي لسنة 2022 بدور الجالية في التحويلات المالية وحملات الدعم الاجتماعي خلال جائحة كورونا وزلزال الحوز .
فلسفة الرعاية الملكية: أسس ومبادئ
1. المواطنة الكاملة
تستند العناية الملكية بمغاربة العالم إلى مبدأ أساسي هو “المواطنة الكاملة”، الذي عبر عنه جلالة الملك في أكثر من مناسبة، باعتبار أفراد الجالية مواطنين كاملي المواطنة، لهم ما للمقيمين وعليهم ما عليهم .
2. سياسة الإنصات
تميزت مقاربة جلالة الملك بالاستماع المباشر لانشغالات مغاربة العالم خلال زياراته الخارجية، وتحويل هذه الانشغالات إلى سياسات ومبادرات ملموسة، كما ظهر جلياً في خطاب 2015 .
3. المقاربة التشاركية
جسدت إشراك الجالية في لجنة النموذج التنموي، وفي المشاورات حول إحداث مجلس الجالية، هذا المنهج التشاركي الذي يعتبر مغاربة العالم شركاء في صنع القرار لا مجرد مستفيدين منه .
خاتمة: ربع قرن من الولاء المتبادل
على مدى خمسة وعشرين عاماً، شكلت العناية الملكية بمغاربة العالم نموذجاً فريداً للرعاية المستمرة، التي تطورت من مجرد خطابات إلى مؤسسات دستورية، ومن سياسات عامة إلى إجراءات ملموسة. هذا المسار لم يكن خطاً مستقيماً، بل كان مساراً تكاملياً يعكس رؤية استراتيجية واضحة، جعلت من الملك محمد السادس بحق “الراعي الأول لمغاربة العالم: مسيرة ملكية من العهد الأول إلى اليوم.”
وفي المقابل، قابلت الجالية هذه العناية الملكية بمشاعر “الحب والوفاء والولاء”، التي تجسدت في المشاهد المؤثرة خلال الزيارات الملكية للخارج. هذا التواصل الروحي الفريد بين العرش والشعب، داخل المغرب وخارجه، هو ما يجعل من تجربة الرعاية الملكية لمغاربة العالم نموذجاً يستحق الدراسة والتوثيق.
بعد ربع قرن من العناية الملكية المستمرة، أصبحت انتظارات مغاربة العالم مشروعة في طلب تسريع وتيرة الإصلاحات. فالخطابات الملكية المتتالية رسمت خارطة طريق واضحة، والآن حان وقت التنزيل الفعلي لهذه التوجيهات السامية. إن الثقة الملكية في مغاربة العالم، التي عبر عنها جلالة الملك في مناسبات عديدة، تستحق أن تترجم إلى إجراءات ملموسة تعزز مكانة الجالية المغربية وتضمن حقوقها كاملة.
* الإعلامي أيوب سالم، الرئيس السابق لمجلس الجاليات العربية في تركيا، رئيس مؤسسة المغرب بتركيا
اترك تعليقاً