وجهة نظر

الحرية قبل الهوية.. من أجل إعادة البناء

كثيرون بعد الحراك الديمقراطي العربي، أثاروا “سؤال الحرية” بشكل قلق، وأكدوا على مركزيته في ثقافتنا السياسية المعاصرة، كمدخل للنهضة، ثم إن “السقف الهوياتي” صار واطيا، يضيق ب”الغيرية”، الغير التي يقيم عنوة في قلب الوجود، لأنه جزء من أجزاءه، وانتهت كل المحاولات إلى الفشل في دمجه، كما عجزت عن إقصاءه، فتحول إلى عنصر تشويش وإعاقة، وما زالت فصول “نزاع الإعتراف المتبادل” قائمة..

ولمعالجة هذه النازلة الجدلية، طرح بعض المفكرين، على مستوى القضية الفلسطينية، بعدما عرفته من نزاعات ومزايدات ايديولوجية، وصلت درجة الاحتقان السياسي، وأدى ذلك إلى الانقسام والاقتتال الداخلي، أن “تحرير فلسطين مقدم على فلسطين الإسلامية أو العلمانية”، ليعيد ترتيب الأشياء حسب متطلباتها..

كما طرح بعضهم على مستوى الساحة الإسلامية، أن خيار “الحرية مقدم على خيار الشريعة”، بما أن الشريعة هي في المحصلة، تكليف لا ينهض به إلا مجتمع مكون من أفراد أحرار، وليسوا أرقاء، مستلبي الإرادة، والحرية هي شرط لإقامة الشريعة، كما أن الطهارة شرط في إقامة الصلاة، والنصاب شرط في أداء الزكاة، وتسقط بسقوطه.. والسبق لا يحمل أي أفضلية، ولكنه ضرورة منهجية في الترتيب ليس إلا.

وبناء عليه فالقول ب”الحرية قبل الهوية”، هو لا يخرج عن هذا القانون المطرد، ولا يهدف إلى ضرب بعضها ببعض، كما يروم بعض أنصار الحرية السائبة، أو يثبتون الأولى، ويبطلون الثانية، كما يذهب أصحاب الثنائيات المتخاصمة، بل الهدف هو إعادة ترتيب الأشياء حسب طبيعتها.. ولا يهدف إلى مسخ الكينونية، بل يريد أن ترسو الكينونية، على أساس يسمح بتدفق شريان الصيرورة.

فالدولة الاستبدادية القمعية حاولت إرباك آليات التفكير السليم، وتفخيخ المفاهيم والتصورات، ولم تفتأ تنفث في روع رعاياها، أن هناك شيء اسمه الهوية الوطنية أو القومية، غلفته بغطاء المقدسات، هو مصدر شرعيتهم الوحيدة، فصار البعد الهوياتي، هو أساس تموين شريان الدولة الكليانية، لتأمين وجودها الأمني والاستراتيجي..

كما أن الهجمة الاستعمارية البربرية الغربية، وما سلكه نموذجها الرأسمالي المتوحش من تجريف لكل القيم والهويات، دفع بميكانيزم الدفاع للإشتغال بشكل عاطفي، لتحصين الذات الهلامية من الضياع، فرفع شعار الهوية على رماح المقاومة والممانعة، فكانت الحصيلة ضياع الذات العاقلة في محيط أمواجه هائجة!..

وعادة ما ينقلب شعار الهوية إلى شعور بالوهن والإحباط، فيتم الانكفاء على الذات، ويتم توقيف كل الديناميات الإجتماعية والثقافية، وينحبس جدل التراكم والتحول..

فإذن التمركز على الخطاب الهوياتي بشكل متطرف، هو تعبيرعن العجز والضعف عن التفاعل مع التحديات.. فدائما المقاتل المهزوم، الذي يقاتل على حدود الهوية، ينسحب إلى الخطوط الخلفية للتراث، ويتشبث بأهذاب الماضي، ويعيش في أسر نولتالجيا حالمة، ليرمي بسهامه كل جديد أو حديث أو معاصر..

لقد تم اختزال الهوية، في غياب العدة النظرية المؤسسة، والتأطير المنهجي المحكم، والقدرة على التنظير المعرفي المنتج، إلى خيارات الانسحاب إلى الماضي المشرق، والسلف الصالح، ولعن العصر والحداثة، وتسفيه الخلف والمعاصرين.

نحن اليوم أمام حصاد أليم، لا نقبض فيه سوى على الريح، أمام هويات منغلقة متشظية، قائمة بعضها ضد بعضها، لم تخضع لأية مساءلة، لم “نفصلها” عنا باسم “الحرية”، لكي ننتقدها ونفككها، ونسبر أغوارها، حتى يمكن لنا أن نسحب عليها معقوليتنا، ونمنحها ملامحنا وأشواقنا، لنعيدها إلينا في عملية “وصل” واعية ومتعاقد عليها.

إن عزل الهوية عن نهر الصيرورة، وحشرها في كينونة منعزلة، أفقرها من كل معاني المعاصرة لنا، وجعلها تسكن المتاحف القديمة، ويطلق عليها البخور في الأعياد الدينية، والمناسبات الوطنية، في حين تعيش الكثرة المتكاثرة من الأجيال الجديدة، بدون أي توقيعى هوياتي أو ايديولوجي، لأنها وجدت نفسها أمام خلط هوياتي متعال عن إرادتها، يضخم من فكرة الطهارة العرقية المادية، ويعجز عن تقديم حلول للطهارة الحقوقية المعنوية، التي تحمي ذواتنا من الانتهاك المادي الذي تمارسه الدولة القمعية، أو الانتهاك الرمزي الذي تمارسه الهويات المنغلقة المتعصبة..

إن الاتجاه نحو “الحرية الموجبة”، تلك التي تساعد على اختراع المصير المشترك، وإبداع نمط العيش السوي، والإقرار بطبيعة هويتنا المركبة، هو مدخل شرعي وعقلي لتدشين أولى الخطوات على طريق نهضة أمتنا.. لولوج عالم الكونية، بما يعنيه من ولادة جديدة، تحترم الحق في الاختلاف والتنوع، وتؤسس لعالم ايتيقي، تسوده قيم الحب والصدق، والعدالة والتضحية، والتنوع العرقي واللغوي والديني، قصد المشاركة في تحرير هذا العالم من جشع الرأسمالية المتوحشة، التي تدعي الكونية والوصاية على ثقافة الحداثة وحقوق الإنسان، لكنها في حقيقتها تبيع الوهم، ولا تسعى إلا للهيمنة والسيطرة، وتمديد قيم الدولة القوية وفرضها على العالم.

إن الهوية هي سؤال الوجود، الذي تقرر مصيره الحرية في الإختيار، والاعتزاز بها له دلالته الإيجابية بلا شك، إلا أن تضخم الخطاب الهوياتي، يحوله إلى كابوس يعيق كل ما هو إنساني، فأصحاب الهوية المتفوقة، يسعون إلى فرضها وتعميمها بالقوة الناعمة تارة وبالقوة المتوحشة تارة أخرى، وأصحاب الهوية المتراجعة يسعون لحمايتها وتحصينها، وهكذا تتحرك دورات تاريخية، يفقد فيها الكائن عناصر التعارف والتمازج والإنصهار.

الهوية المطلوبة، هي التي تمكننا من أن نعيش في قلب العالم، لا على ضفافه، وتعترف بتنوعنا واختلافنا، وترفض الأحادية والإقصاء، وتنزع نحو التركيب والتعارف، لأن في ذلك يكمن حضورنا الإنساني.

03/02/2015