منوعات

جربوا استراتيجية الكرامة

أثار تغير سلوك المواطنين تجاه وسيلة النقل الجديدة بالمغرب “ترامواي” فضول أكاديميين، وتساءلوا عن العوامل التي دفعت المواطنين لأن يتصرفوا مع “ترامواي” بسلوك حضاري كبير، خلاف سلوكهم السابق تجاه وسائل النقل العمومي التقليدية، وخاصة الحافلات وسيارات الأجرة الكبيرة، والذي كان يتسم عموما بدرجة ملفتة من العدوانية تجاه وسيلة النقل بإتلاف تجهيزاتها، وفي العلاقة فيما بينهم.

ومن بين الفرضيات التي طرحت في أحد البحوث التي كانت موضوع نقاش علمي بين باحثين على هامش ورشة دراسية نظمها مركز بحث قبل سنتين، فرضيتان مهمتان. وتطرح الفرضية الأولى “الخوف من العقاب” كعامل حمل مستعملي “الترام واي” على تبني السلوك الحضاري تجاه وسيلة النقل وفيما بينهم. على اعتبار أن “الترامواي” مجهز بالكاميرات، ويفرض مراقبوه غرامات مالية باهظة عن المخالفات في عين المكان،…

وبالفعل فحالات التسلل قليلة وحين تضبط يتعامل معها بصرامة تصل أحيانا حد انتهاك حقوق المواطن المتورط فيها. أما حالات تدمير كراسي وتجهيزات “الترامواي” فمنعدمة، والحالات القليلة التي ضبطت ووثقت بالكاميرات حكم فيها القضاء بعقوبات ثقيلة. وحالات التحرش الجنسي لم تثر تقريبا طيلة مدة نشاط “الترامواي” … وهكذا يكون الخوف من العقاب عاملا يفسر بالفعل غياب بعض الممارسات السيئة. لكن هذه الفرضية لها حدود يكتشفها كل من داوم على استعمال “الترامواي” وسيلة نقل يومية، فالمواطنون يتصرفون فيما بينهم ليس على أساس الخوف من الكاميرات ولا من المراقبين، ولكن على أسس أخرى مختلفة.

وبالفعل لا يفسر الخوف من العقاب ممارسات حضارية راقية منتشرة بشكل لافت بين مستعملي “الترامواي” مقارنة مع وسائل النقل العمومية التقليدية. وعلى رأس تلك الممارسات الاحترام المتبادل، ودرجة العنف النادر في المعاملات، وإيثار المرضى وكبار السن والحوامل في الجلوس على المقاعد بشكل تلقائي. والميل الكبير نحو نبذ الضجيج والفوضى، وغير ذلك من السلوكات الحضارية الراقية الكثيرة. وهنا تأتي أهمية الفرضية الثانية التي تقول إن وضع وسيلة نقل عصرية وبمواصفات جودة عالية في خدمة المواطنين جعلهم يحسون بالاعتراف بهم وبقيمتهم وبكرامتهم، ما أثار فيهم ردود الفعل التي تناسب ذلك الاعتراف وتناسب ما تمثله وسيلة النقل الجديدة من قيم حضارية لا مكان فيها للعنف والفوضى والأوساخ … ويتماشى التفسير الذي تقدمه هذه الفرضية مع نتائج بحوث نفسية واجتماعية كثيرة متيسرة للبحث في الأنترنت تربط نوعية السلوك بالبيئة التي يعيش فيها الإنسان. فمثلا حول سلوك النظافة، فوجود الأزبال على الطريق يشجع على رمي الأزبال فيها من طرف المارين، لكنه يكون صعبا حين تكون تلك الطريق نظيفة. ونفس الأمر فيما يتعلق بالنظام/الفوضى، والهدوء/الضجيج، وغير ذلك.

وتؤكد مثل هذه الدراسات والأبحاث التي تدرس سلوك الإنسان في علاقته ببيئته أن المدخل الرئيسي لتغيير سلوك المواطنين، حتى يكونوا أكثر تحضرا تجاه بيئتهم، هو تغيير تلك البيئة نفسها لتكون في مستوى إحياء الشعور بالاعتراف بهم وبكرامتهم. كما تؤكد أن القوانين لا تلعب سوى دور مكمل، يعزز التوجه الذي ينشأ عن تفاعل المواطنين مع التحولات الإيجابية التي تطرأ على بيئتهم.

إن البيئة التي تشعر الإنسان بكرامته توقظ فيه ردود فعل حضارية، والبيئة التي تمس بكرامته تثير فيه النزوعات العدائية. و حجم تأثير البيئة على سلوك الإنسان واستدامته تفوق ما يمكن أن تقوم به كل برامج التنشئة الاجتماعية. والقوانين مهما كانت راقية قد تمنع سلوكات غير مرغوبة لكنها لا تنشئ سلوكات حضارية. وهذه القاعدة حين تغيب عن فلسفة التنمية في أي بلد تكون برامجها مهددة بالفشل.

ولو تم تطبيق تلك القاعدة في المدرسة المغربية، وتم التركيز على تحويلها إلى بيئة تربوية تشعر الجميع بالكرامة والتقدير، لساهمت، في صمت، في دفع الأستاذ والإطار الإداري إلى القيام بمهامهما على أكمل وجه، ولدفعت التلاميذ إلى تبني السلوك الحضاري المناسب، فتتضافر جهود التربية ومضامين المقررات الدراسية والمساطر الإدارية والبيئة الحاضنة في إخراج مواطنين مجدين يحبون أنفسهم ووطنهم ويسعون للتعاون مع غيرهم، يميلون تلقائيا إلى النظام والنظافة والاحترام وتقدير الآخر…
إنه مع غياب ما تقتضيه تلك القاعدة لا يمكن انتظار شيء إيجابي من أحياء شعبية تعاني من نقص في الإنارة، وفي الفضاءات الخضراء، وفي ملاعب القرب، وفي النظافة، ومن البنيات التحية، … ودون التدخل لتحويل تلك الأحياء إلى بيئة صحية تشعر ساكنتها بالكرامة والتقدير، ستظل جهود محاربة الجريمة، والعنف، والتطرف، والأمراض المختلفة، جهودا ضائعة.

ويمكن الجزم أن البيئة التي تشكلها الإدارات العمومية بالنسبة للمواطنين تساهم في تشكيل شعور عام لديهم تجاه الدولة. فحين يحسون أن لهم قيمة وكرامة وأهمية في البيئة التي تشكلها تلك الإدارات، فإن ثورة كبيرة سوف تجتاح توجهات تعاملهم، ليس فقط مع مؤسسات الدولة والفضاء العام، بل فيما بينهم أيضا. وسوف تتعزز لديهم الثقة في المؤسسات وفي المسؤولين وفي السياسات العمومية، وسوف يتعزز لديهم الشعور بالمسؤولية تجاه وطنهم، ويتحرروا من الثقافة القاتلة حول الوقت وحول العمل، مما سيساهم في إنشاء دينامية تنموية حقيقية ترفع المردودية والجودة، وتدفع من يملكون الثروة إلى اقتسامها بطواعية مع المجتمع من حولهم، فقط لأنهم يحسون أن ما سينفقونه لصالح غيرهم سيزيد من قيمتهم من خلال مساهمتهم في تحسين شروط العيش المشترك.

إن المواطنين حين لا يجدون في السياسة ولا في الإعلام العمومي الاعتراف لهم بالقيمة التي يستحقون وبالكرامة الواجبة لهم، فإنهم يختارون العزوف عن المشاركة السياسية في كل أشكالها، ويختارون الهروب إلى الإعلام الأجنبي رغم كل تعلاته. لكن الأخطر أن وطنيتهم اللاشعورية تضعف لديهم، فيمارسوا سلبيات ضعفها في عملهم اليومي، في حجرات التدريس، وفي المستشفيات، وفي الإدارات، وفي عملهم في القطاع الخاص، وتجاه إخوانهم المواطنين وتجاه مؤسسات الدولة!

لن يقبل كثيرون أن يقال إن المواطن ابن دولته، وسيرى فيه هؤلاء جميعا نوعا من التبرير لواقع ذلك المواطن الذي عليه أن يتحمل مسؤولية أن تكون الدولة ابنته هو، تقوم بما يريد ووفق ما يريد. لكن الحقيقة المرة هي أن الدولة، بما تمثله مؤسساتها وقوانينها وسياساتها العمومية من بيئة حاضنة لمواطنيها، هي المسؤول الأول عن نوع تنشئتهم. وبقد حضور ما يجعل المواطنين يشعرون بالكرامة في تلك البيئة بقدر ما يختارون تمثل مواطنة متحضرة كاملة. فهل نعتمد استراتيجية الكرامة؟ .. فهي تكفي.