وجهة نظر

صلاحية قبول المحكمين للمهمة المسندة إليهم في القانون المغربي

يعتبر التحكيم وسيلة اختيارية للفصل في المنازعات التي تقع أو قد تقع بين الأفراد و الجماعات، و يمتاز بهامش مهم لسلطان إرادة الأفراد في اللجوء إليه بصفة تلقائية دونما الحاجة للحصول على موافقة الدولة أو أية جهة أخرى للتعبير عن إرادتهم، كما يوفر نفس الحرية للمحكمين في قبول مهمة التحكيم المسندة إليهم من الأطراف المتنازعة دون أن يجبروا على القيام بها، فتعينهم هذا لا يعد سوى ترشيحا لهم للاضطلاع بها، حيث يستلزم تطابق الإرادتين معا حتى تتشكل الهيئة التحكيمية و تبدأ إجراءات التحكيم.

و ما يميز قضاء التحكيم عن قضاء الدولة هي العلاقة التعاقدية الوطيدة القائمة بين المحتكم و المحكم في انعقاد الخصومة التحكيمية، حيث تتناغم سلطات المحكم و الأطراف في النظام القانوني لتخلق نظاما متميزا، وهو ما جعل الأستاذ « Klein » يقول في هذا الإطار أن التحكيم في تحليله القانوني عبارة عن مجموعة في غاية التعقيد، تتضمن عدة تصرفات أو مراحل متوالية و يمكن أن نميز منها أربعة : ففي الأساس يوجد اتفاق التحكيم الذي يتخذ صبغة شرط أو عقد التحكيم، تم يأتي دور المحكمين الذين يفترض أن اختيارهم قد تم من قبل الأطراف التي انضمت إلى اتفاق التحكيم، فنجد عقدا آخر بموجبه يتم القبول الضمني أو الصريح للمحكمين في قبول مهمة التحكيم الموكولة إليهم، كل هذا من أجل بدء إجراءات التحكيم، ثم إصدار الحكم التحكيمي و هي المرحلة الأخيرة للاكتمال العملية التحكيمية.

وتحتل صلاحية المحكمين في قبول مهمة التحكيم اهتماما ملحوظا في التحكيم الداخلي حيث نظمها المشرع المغربي على غرار التشريعات المقارنة في الفصل 6-327 من قانون 05-08 للتحكيم و الوساطة الاتفاقية الذي جاء فيه :
“لا يعتبر تشكيل الهيئة التحكيمية كاملا إلا إذا قبل المحكم أو المحكمون المعينون المهمة المعهود إليهم بها.. “.

ومن الملاحظ أن اتفاقيات التحكيم التجاري الدولي لا تتضمن إلا نصوصا قليلة و موجزة بشأن وجوب قبول المحكم الدولي لمهمة التحكيم، و ذلك راجع لأن قبول المحكم للمهمة يعد من المبادئ الأساسية المسلم بها في التحكيم الدولي ، و هذا ما انعكس على صياغة قانون 05-08 حيث لم يتعرض المشرع إلى وجوب قبول المحكم للمهمة في إطار التحكيم الدولي إلا أنه تعتبر من الصلاحيات المسلم بها، نظرا لكون التحكيم التجاري الدولي يتضمن أعرافا انعكست في تنظيم التحكيم الداخلي.

و يقصد بهذه الصلاحية أنه إذا اختير شخص محكما، سواء من الطرفين، أو من المحكمين،أو من القضاء فإنه لا يلتزم بالقيام بالمهمة المسندة إليه إلا إذا قبل القيام بها، فإذا كان الاتفاق على التحكيم يصدر عن رغبة الأطراف المتنازعة، فإن قبول المهمة التحكيمية ينبع من الإرادة الحرة للمحكمين، و بالتالي يمتد هذا الطابع الاختياري لقضاء التحكيم ليشمل حتى الهيئة التحكيمية .

ومنثم فإن هذا القبول من جانب المحكم يتطلب أن يكون ثمة علاقة تعاقدية أخرى تخضع لقانون الإرادة و تختلف تماما عن اتفاق التحكيم و تستقل عنه فلا يمكن إجبار المحكم على القيام بالمهمة المسندة إليه حتى ولو كان تعيينه من قبل المحكمة المختصة، فهو ليس كالقاضي مجبر على قبول البت في النزاع تحت طائلة جنحة إنكار العدالة، فقبول المحكمين شرط ضروري لالتزامهم بالمهمة و انعقاد خصومة التحكيم، لأنهم يشرفون على قضاء خاص لا يتصور أن يجبرهم أشخاص خاصون على القيام بها رغما عن إرادتهم .
و من هذا المنطلق يتميز تشكيل الهيئة التحكيمية بطابعها التعاقدي الذي يتم بين المحكم والجهة التي عينته للقيام بمهمة التحكيم، حيث يدخل في عملية تفاوضية قصد مناقشة الإيجاب المعروض عليه من الأطراف المتنازعة، مما يبرز معه تعدد الصور التي يمكن أن يأتي في سياقها قبول المحكم للمهمة.

فالأصل أن يكون القبول مجردا و هي الصورة العادية، أو أن يكون مشروطا و الحالة هذه لا يكون قبولا تنعقد معه مهمة المحكم )لأنه متضمن شرطا واقفا (condition suspensive بل يكون إيجابا جديدا و على من اختار هذا المحكم أن يبدي موقفه تجاه هذا الإيجاب، إما بالقبول أو الرفض، و مثال ذلك أن يقبل المحكم مهمته بشرط أن تكون أتعابه مقدارا معينا، أو أن يتم احتساب هذه الأتعاب بطريقة معينة .

كما قد يكون القبول بشرط تسبقة خلاص عن أجرة التحكيم، و هو شرط أخذت به بعض القوانين المقارنة مثل القانون السويسري للتحكيم الداخلي، الذي يجيز الفصل 30 منه في فقرته الأولى لهيئة التحكيم مطالبة الأطراف بتسبقة عن الأجرة مع اشتراط دفعها قبل الشروع في الإجراءات .

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يشترط المحكم إعفائه من المسؤولية المدنية أو منع تجريحه وهي صورة واردة في الفصل 7-327 من قانون 05-08، و تكون في الحالة التي يتبين فيها للمحكم أنه يتوفر على أحد أسباب التجريج في نفسه، حيث له أن يعلق قبوله على موافقة الأطراف على عدم تجريحه بعد قبوله للمهمة.

وتجدر الإشارة إلى أن قبول المحكم للمهمة يحمل صفة شخصية فإذا شكلت الهيئة التحكيمية وثرا فينبغي أن يتم القبول من طرف كل واحد من المحكمين من الجهة التي عينته، فكما هو معلوم ففي حالة تعدد المحكمين المعينين للمهمة من الأطراف المتنازعة، فكل طرف يعين محكمه أما المحكم الرئيس فيتم اختياره إما من طرف المحكمان المعينان، فإذا لم يتفقوا على اختيار المحكم الثالث خلال 15 يوما التالية لتاريخ تعيين آخرهما، تولى رئيس المحكمة المختصة تعيينه بناء على طلب أي من الطرفين و تكون رئاسة هيئة التحكيم للمحكم الذي اختاره المحكمان المعينان أو الذي عينه رئيس المحكمة .

وبالتالي فينبغي على كل محكم أن يقبل المهمة المسندة إليه من الجهة التي عينته، فلا يكفي قبول بعضهم ولو كانوا أغلبية كما ينبغي أن يكون القبول قاطعا و غير معلق على حق المحكم في الرجوع عن قبوله أو محل شك .

ولهذا فلا يكفي لتوافر القبول أن يكون المحكم قد اتفق بصفة مبدئية مع المحكمين الآخرين على قبول المهمة ما دام لم يقبلها بالفعل، لكن يجوز له أن يعطي قبولا مبدئيا قبل القبول النهائي حيث في أحيان كثيرة ما يطلب المحكم من الأطراف منحه مهلة للتفكير في قبول مهمة التحكيم، و هي مهلة يراجع فيها موقفه سواء فيما يتعلق بالجوانب الموضوعية لمهمة التحكيم و مدى توافره على المؤهلات المتطلبة للتعامل مع النزاع وفق شروط الطرف الذي عينه و كذا مدى توافره على الشرط القانونية لمزاولة التحكيم ، أو سواء فيما يتعلق بالجوانب الشخصية للمهمة المسندة إليه التي ترجع إلى علاقته بالخصوم ومدى توافر أسباب التجريح فيه ، حيث اشترط المشرع المغربي في الفصل 7-327 على المحكم قبل قبوله للمهمة أن يطلع على الملف كاملا و يشعر الأطراف في حالة إذا علم بأسباب تجريح في نفسه و في هذه الحالة لا يجوز له قبول مهمته إلا بعد موافقة الأطراف المتنازعة.

وانطلاقا مما سبق يمكن القول أن المحكم له أن يشترط مهلة معينة قبل إعلان قبوله سواء فيما يخص إضافة شروط تعاقدية بعد اطلاعه على تفاصل موضوع النزاع مثل الرفع من قيمة أتعابه إذا بدا له تعقد طبيعة النزاع و المدة التي يمكن أن تستغرقها تسويته، أو من أجل التعرف على أطرافه و المحكمين المعينين معه قبل إعلان قبوله الذي يشترط أن يكون نهائيا و باتا و غير معلق على شرط واقف حتى يعتد بتشكيل الهيئة التحكيمية.
و بعد انتهاء العملية التفاوضية بين المحكم و الطرف الذي عينه و اقتناعه بالعرض الموجه إليه وفقا لكفاءته و خبرته في تسوية النزاع، و تحقق جميع الظروف التي تمكنه من مباشرة مهمة التحكيم بالشكل الذي يقتضيه طبيعة قضاء التحكيم، يعلن المحكم عن قرار قبوله للمهمة المنوطة به الذي قد يتخذ بدوره عدة صور .

فيمكن أن يعلن المحكم عن قبوله بشكل صريح إما من خلال خطاب يرسله إلى الطرف الذي عينه، يفصح فيه عن موافقته على التعيين وإما بتوقيعه على اتفاق التحكيم أو بتحرير عقد ينص على الشروع في القيام بالمهمة و هي الصورة التي تضمنها الفصل 6-327 من قانون 05-08 في فقرته الثالثة التي جاء فيها :
“يثبت قبول المهمة كتابة بالتوقيع على اتفاق التحكيم أو بتحرير عقد ينص على الشروع في القيام بالمهمة”.

كما يمكن للمحكم أن يأجل هذا القبول إلى غاية عقد الجلسة التمهيدية لإجراءات التحكيم حيث يثبت قبوله بالتوقيع على الوثيقة المنظمة للتحكيم المتمخضة عن هذه الجلسة ، و رغم أن معظم القوانين التحكيمية لا تشير إلى الجلسة التمهيدية التي تصدر عنها الوثيقة المنظمة للتحكيم كالقانون المغربي و المصري، إلا أن الواقع العملي قد جرى على عقدها و هذا ما تبنته لائحة غرفة التجارة الدولية«CCI» في المادة 18 منها، حيث تبدأ الجلسة عادة بقيام المحكم بتقديم نفسه و الوسيلة التي تم تعيينه بها و قبوله المهمة و الإشارة إلى اتفاق التحكيم و الخطوط الرئيسية للنزاع، ثم يسأل كل طرف أو من يمثله عن اسمه و صفته ثم يعلن بدئ الجلسة، و يتم تضمين ما انتهى إليه الاجتماع التمهيدي في محضر الجلسة أو وثيقة توقع من الأطراف أو ممثليهم بمقتضى وكالة خاصة و من طرف المحكمين تسمى بوثيقة التحكيم أو الوثيقة المنظمة للتحكيم .

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون قبول المحكم ضمنيا كشروعه في القيام بالمهمة أو القيام بها بالفعل بما يقطع في الدلالة على قبوله لها، أو دعوة المحكم الأطراف إلى الحضور أمامه في تاريخ معين لتقديم طلباتهم و مستنداتهم و أوجه دفاعهم، و على هذا النحو فلا توجد صيغة معينة لقبول المحكم للمهمة سواء كان بشكل صريح أو بشكل ضمني، و هذا ما دفع محكمة بيروت تستعرض هذا الأمر في قرار لها صدر بتاريخ 19/12/1985 جاء فيه :

“و تعتبر هيئة التحكيم واضعة يدها على النزاع من يوم قبول المحكم أو المحكمين لمهمتهم و لا يوجد صيغة معينة لقبول المحكم لمهمته بحيث يثبت ذلك بكافة الطرق إما بتوجيه رسائل إلى الأطراف يعلن فيها قبوله للمهمة أو بوضع يده على النزاع باتخاذه إجراءات قانونية مفيدة بشأنه كما يتبين من محاضر المحكمة و أوراق الدعوى أو بتوقيع المحكم على أي قرار تمهيدي أو فاصل في نقطة من نقاط النزاع المعروض على المحكم”.

وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أن قضاء التحكيم ينعقد اختصاصه بشكل اتفاقي سواء بين الأطراف من خلال اتفاق التحكيم الذي بموجه يتم الاتفاق على اللجوء إلى التحكيم و تعيين الهيئة التحكيمية أو سواء فيما يخص عقد الشروع في مهمة التحكيم الذي ينتج عن قبول المحكم للمهمة المسندة إليه بموجب اتفاق التحكيم و الذي بموجبه ينعقد قضاء التحكيم للنظر في النزاع المعروض عليه و إصدار حكم تحكيمي فاصل في النزاع.