وجهة نظر

إصلاح الإدارة المغربية يبتدئ من إصلاح الأوضاع المادية لمواردها البشرية

بدون شك أن عقود التشغيل بالتعاقد التي ستعتمدها الإدارة المغربية بموجب قرارات السلطات الحكومية، سواء المرسوم رقم 3.95.17 أو 1394.17، ستطرح جدلا واسعا بين مختلف المهتمين والمعنيين بهذا القانون، باعتبار منطلق اتخاذ السلطات الحكومية للقرارات السالفة الذكر هو ضعف أو غياب الكفاية بالوظيفة العمومية ومن ثمة، تحميل تأخر المرفق العمومي إلى كون الوضعية النظامية التي يتمتع بها الموظف والتي تخوله استقرارا وظيفيا هي السبب الرئيسي في عدم اجتهاده وإبداعه حلولا تساهم في تجويد الخدمات لإشباع حاجات المواطنين.

يتبين إذن؛ أن السلطات الحكومية تحاول بأقصى سرعة معالجة ما وجهه الملك من انتقادات للاختلالات البنيوية المتجسدة في فساد هياكل الإدارة سواء بمناسبة خطاب ثورة الملك والشعب سنة 2015 أو خطاب العرش الأخير الذي وصف الإدارة بالمتكاسلة مقابل حيوية القطاع الخاص وخمول الموظف العمومي وإلى غياب الكفايات بها. لكن هل حقيقة أن الإدارة المغربية تنعدم بها الكفاية أم أن نواة أزمتها تكمن في عدم قدرة المسؤولين والقوانين المنظمة على مسايرة متغيرات بنية المجتمع المغربي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟

إن تشخيص بنية الإدارة وتقييم نتائجها لا يمكن أن يتم دون دراسة قوانينها المنظمة خصوصا ظهير 24 فبراير 1958 وما لحقه من تعديلات جزئية على اعتبار أن القوانين هي االمحور الأساس وبها يقاس تقدم الأمم أو تأخرها، هذا ودون تجاهل مسؤولية المسؤول المغربي من سلطة تشريعية، المنتجة للقوانين والسلطة التنفيذية لما لها من مجال تنظيمي للحياة العامة وكذلك السلطة القضائية صاحبة الفصل في المنازعات ومحاسبة المتلاعبين بمصالح المواطنين لحسابهم الخاص، بمعنى أوضح هي صاحبة الاختصاص في تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.

بالعودة إلى ما قررت الحكومة تطبيقه في مجال التعاقد المباشر للإدارة مع كفاءات، سواء كانوا خبراء ومختصين أم أعوانا يتوفرون على تجارب حددها المرسوم في ثلاث سنوات على الأقل، فإن أولى الملاحظات تتمثل في رغبة الحكومة للتخلص التدريجي من سياسة التوظيف بالقطاع العام وهي سياسات انطلقت مع سياسة التقويم الهيكلي في مرحلة الثمانينيات وتنظيم عملية المغادرة الطوعية ثم فصل التكوين عن التوظيف ونظام التشغيل بالعقدة في مجال التدريس بمختلف مراحله وأخيرا المرسوم الأخير، ماذا تقصد الحكومة بالتعاقد مع ذوي الخبرة ؟ توحي هذه الفكرة أن الإدارة المغربية فاقدة للكفاية وهي تساير بذلك مضامين الخطاب الملكي الموجه إليها، لكن ما ينبغي تأكيده أن الإدارة المغربية تتوفر على كفايات عالية في مختلف المجالات العلمية ما يعوق سيرها جمود القوانين المنظمة وخضوعه لتعليمات صارمة تحد من هامش إبداعه.

ثم أليس توجيه اتهام إلى الموظف العمومي بعدم كفايته وضعف قدرته العلمية مجرد سياسة للتملص من المسؤولية السياسية للساهرين على الشأن العام؛ فعدم ملائمة النظام الأساسي للوظيفة العمومية مع سرعة المجتمع جعل الإدارة متأخرة في اشباع حاجات المواطنين، في جميع الأنظمة الإدارية خصوصا المتقدمة، تعمل السياسة الحكومية فيها على تمكين الموظف من تحقيق التراكم الإداري والمعرفي حتى يصبح خبيرا في مجال الإدارة إلى درجة يتم اختيارهم لممارسة مهنة القضاء الإداري اعتبارا لما حققوه من تراكم وخبرة.

فأغلب التعديلات التي شملت بعض نصوص النظام الأساسي للوظيفة العمومية كانت بمنطق تقييد حركية الموظفين وعدم السماح لهم بالارتقاء الوظيفي وشغل المناصب الإدارية العليا حسب الاستحقاق، إن اعتماد مثل هذه المقاربات ما هي إلا نتيجة لضعف قدرة المسؤول الحكومي أو البرلماني على ابتكار حلول بدون خلفيات نفسية، وهنا نستحضر وزيرا في حكومة بنكيران لا يتوفر حتى على نهاية التعليم الثانوي ومع ذلك تم تعيينه وتكليفه بحقيبة وزارية تتطلب خبرة علمية وإدارية تجعله قادرا على معالجة أعطاب الإدارة، طبعا مسؤولية تعيينه يتحملها الحزب الذي اقترحه ثم تتحملها سلطة التعيين في المنصب، علما أنه اتخذ قرارات ساهمت إلى حد كبير في تأزيم الوضع، إلى جانب ذلك، تتسم جل التعديلات التي طرأت على بعض فصول النظام الأساسي للوظيفة العمومية بالظرفية والاستثنائية وعدم استشرافها للمستقبل، مثل خضوع نظام الترقي لمساطر معقدة فإن كانت بالأقدمية تتطلب ثلاثة عشر سنة وإن كانت بالامتحان المهني فتتطلب أقدمية ست سنوات دون السماح لفئة من الموظفين تتوفر على الشواهد وليست لها أقدمية في الإطار من اجتياز الامتحان المهني، لذا كان من الأنجع أن تدخل الحكومات المتعاقبة معايير جديدة أكثر مرونة وفعالة مثل العمل بالترقي بناء على الشواهد المحصل عليها توخيا للنجاعة وتحقيق المردودية ومن ثمة تمكين الموظفين من آليات إضافية للترقي؛ لكن النظرة الضيقة لصانع القرار العمومي تضيع فرصا مهمة وبدل تغيير جدري كلما دعت الضرورة الاجتماعية للقوانين الإدارية لتصبح مواكبة لروح العصر أصبحت هذه القوانين أكبر معيق لقيام الموظف بمسؤولياته، علما أن من بين خصائص القانون الإداري كثرة التغيير، فلا نستغرب حين معاينة التركيبة البشرية لمختلف الإدارات المغربية نلاحظ وجود فئات عريضة منهم تعاني البؤس والحرمان وعدم السماح لها بالترقي أسوة بفئات أخرى بمعنى أوضح غياب العدالة الاجتماعية بالإدارة العمومية فهذه الفئة تبتدئ عملها براتب لا يتعدى الحد الأدنى للأجر وبعد خروجها إلى التقاعد ينزل راتبها عن الحد الأدنى للأجر، أليست هذه سياسة تفقيرية غايتها الحرمان والتهميش مع العلم أن في الأنظمة المقارنة يتم الاعتماد على سلم الأجور المتحرك لتمكين الفئات الصغرى من وسائل العيش الكريم.

أصبحت الحاجة ملحة لإصلاح اختلالات الإدارة المغربية ولكي يتم ذلك لا ينبغي تقاذف المسؤوليات أو تحميلها لطرف دون آخر ولابد من الانطلاق من مسلمة أساسية كون الإدارة العمومية تزخر بكفايات إدارية ذات تكوين عالي وخبرة طويلة في ميدانها تفوق كثيرا خبرة أفراد الحكومة ما ينقصها سوى الاعتراف والتحفيز المادي، وهي قادرة على محاربة كل الأشكال السلبية وتقديم منتوج بمواصفات الجودة العالية.

باحث في المجتمع المدني والديمقراطية التشاركيىة

تعليقات الزوار

  • صفاف عبد الاله.
    منذ 7 سنوات

    كلام وجيه. حبذا لو تطرقت لجانب التكوين المستمر العنصر المهم والعائق أمام تحسين المستوى المعرفي والعلمي للموظف والمؤسسة في نفس الآن. ولك جزيل الشكر.