وجهة نظر

رأي نادر للراحل عمر بنجلون حول فلسطين والصهيونية (1/2)

جريدة “العمق” تنشر مقالا نادرا للراحل عمر بنجلون، حول القضية الفلسطينية.

الجزء الأول:

إن الغموض الإيديولوجي لم يكتس أهمية قصوى، ولم تكن له مضاعفات دراماتيكية بالنسبة إلى أيّ بلد مستعمَر كما هو الشأن بالنسبة إلى فلسطين. وخلافا لجميع البلدان المستعمَرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فإن شعب فلسطين قد مَرَّ بمرحلة إضافية من النضال والتضحيات بالنسبة إلى جميع حركات التحرر الوطني.

ومن غير أن نَعُدّ كفاحات ما قبل 1948 وضمن العشرين سنة، المنظم من لدن وجود هذا الشعب نفسه، فإن هذا الأخير ما فتئ منذ أربع سنوات يخوض معركة مسلحة من أجل أن يقنع قبل كل شيء الأوساط المدعوة بالمعادية للاستعمار بأن فلسطين هي وطن شعب، وبأن إسرائيل ليست سوى احتلال من النوع الاستعماري.

ولمعرفة بعض الالتباس الإيديولوجي ونتائجه على المشكل الفلسطيني، يكفي أن نأخذ جان بول سارتر كمثَال؛ فهذا الرجل، الذي برهن عمليا عن عدائه للاستعمار والذي أيّد كُلّية الشعب الجزائري خلال حرب التحرير، أسهم في المحاكم المختصة بضحايا الإمبريالية في الفيتنام، ودافع في الوقت نفسه عن إسرائيل وعن سياسة موشي ديان الذي عاد من سايغون وجلب منها الطيارين المجرمين المكلفين بقَنبلة الفيتنام الشمالية. هذا المثال يُبرز مدى سيطرة الحقائق الكاذبة، التي تراكمت منذ نهاية القرن الـ19 وكَوَّنت جزءا مما يسمى بفكر اليسار، على الأوساطالمدعوة بالمعادية للاستعمار في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية؛ ومن بينها المفكرون الذين زعموا أنهم سيعيدون النظر في كل مسلمات الإيديولوجية البورجوازية.

وفي الواقع، يتعلق الأمر بحقائق وليدة سلسلة من الأحداث تبدأ بقضية “دريفوس” (DREFUS)، وتصل إلى مذبحة ملايين اليهود على يد النازية؛ وهي لأحداثٍ خاصة بمجتمع أوروبا الغربية الرأسمالية التي تُعدّ النازية وليدا وإنتاجا لها. أما دعم وجود إسرائيل وأعمال إسرائيل، فذلك يعني بالنسبة إلى العالم الغربي، بيمينه و”يساره”، نوعا من إرضاء الضمير؛ ولكن كلما اتضحت حقيقة الصهيونية إلا كان من العسير تبرير المصير المحدَّد للوطن الفلسطيني من لدن أعداء النازية الغابرة، وكان استمرار المجتمع الغربيوإيديولوجيي الإمبريالية والصهيونية في اختلاق النظريات المتغيرة التي قد تبدو مختلفة بل ومتناقضة، ولكنها ترمي إلى هدف واحد هو تبرير وحفظ الوجود الإسرائيلي.

وقد بدا هذا من “رأس الجسر الغربي” إلى سلمية رودينسون المناضلة، مرورا بنظرية “الواقعية” والأمر الواقع، و”التنمية الاقتصادية الجهوية”. وفي الواقع، لا يعدو الأمر أنيكون تطبيقا ثابتا لأساليب الخلط وتزييف الحقائق؛ وهي أساليب ترتبط فعاليتها بسيطرة الصهيونية المتضخمة وتغلغلها في النشر والصحافة الغربية، وخاصة صحافة ما يسمى بـ”اليسار”. ومن بين ضحايا التبعية الإيديولوجية والثقافية وجود أطر إفريقيا الشمالية، التي تلقت تعليم فرنسا الاستعماري البرجوازي، والتي تشكلت ذهنيتها بسهولة عن طريق الأوساط الفرنسية المدعوة بـ”اليسار” بسبب الدعم الذي أدته هذه الأوساط لفائدة حركة تحرير شمال إفريقيا.

وفي هذا المجال، نتذكر الصَّيْحة التي أطلقها أحمد بن بلة: “نحن عرب، عرب، عرب”. ونتذكر أن عددا عديدا من مثقفي شمال إفريقيا قد فوجئوا وأصابهم الهلع من هذه الصيحة، وأخذ كل منهم يردد التفسيرات المعنية التي قدمتها الصحافة الفرنسية. وقد تتطلب الأمر صدمة يونيو 1967 والمقاومة الفلسطينية، لكي تعيد هذه الأطر النظر في الحقائق الكاذبة الخاصة بالثقافة الغربية، والمتولدة عن أحداث تاريخية تخص المجتمع الأوروبي، وهي أحداث غريبة عنا تماما؛ ولكن إعادة النظر المذكورة لم تنصب على الجوهر، فالتحليل والسلوك بقيا دائما مُستمَدّين من المفاهيم الغربية، و”الواقعية” التي تريد أن تتجاهل الحقيقة المجسدة، و”الموضوعية” المزعومة التي تُنكر حتى موضوع ما يسمى، دون اكتراث، بالصراع الإسرائيلي- العربي، أو بأزمة الشرق الأوسطأو بالمشكل الفلسطيني.. إنها إعادة النظر التي تكتفي باعتبار المقاومة الفلسطينية حدثا جديدا، يُغيّر المعطيات القديمة ويطرح المشكل الحقيقي، مشكل وجود إسرائيل.

وهذا يعني التطور نفسه الذي حدث بالنسبة إلى الإيديولوجية الصهيونية واليسار الأوروبي، الذين يَرْضَون عن الحالة الجديدة، إلا أنهم يشجبون في الوقت نفسه هدم المنازل، ويأخذون على ضحايا النازية استغلالهم للأساليب النازية، وكل هذا من أجل أن يقترحوا اللقاءات وينشئوا لجان السلام ويدعوا إلى الحلول الفيدرالية والكونفيدرالية…إلخ. هؤلاء، وفي مقدمتهم رودينسون ويوري أفنيري (هذا النائب الإسرائيلي الشهير، والمواطن الإسرائيليالذي يزعم أنه عدو الصهيونية)، هؤلاء التقدميون، هؤلاء الثوريون هم الآن أداة الصهيونية الحاذقة والفعالة في جبهة الدعاية والتسمم؛ فلا أحد منهم يطرح وجود دويلة إسرائيل ككيان، ولا أحد يطرح منهم مسألة اغتصاب الوطن الفلسطيني، فهم يكتفون بمناقشة البُنى الحالية لإسرائيل وشجب توسع حكامها…إلخ. بل ينتظرون منهم أن ينسلخوا عن صهيونيتهم ليؤسسوا دولة (ثنائية الجنسية) ومختلف أشكال التعاون والكونفدراليات…إلخ.

إن هؤلاءهم بالنسبة إلى الصهيونية وإلى سياسة إسرائيل مثل أعضاء “الضمير الفرنسي” بالنسبة إلى الحماية، خلال كفاحنا من أجل الاستقلال الوطني؛ فـ”الضمير الفرنسي” و”الحضور الفرنسي” ظواهر نشأت وتعارضت في الوقت الذي قوّضت فيه المقاومة الشعبية-جِدِّيا- الصرح الاستعماري.

إن بوادر فكرة الاستعمار الجديد قد نشأت تحت ظلال “الأبوية الإنسانية”(أو الأنسنة) تُمهد للمستقبل، وتُهيئ شروطالحفاظ على الجوهر وتُعارض المصالح المتخلفة التي تكشف وحشيتها على اليأس والشعور بقرب النهاية.

إن الوجود والضمير الصهيونيين هما قرار العمل الموضوعي الذي يهدف إلى المحافظة على الجوهر.. “لا أريد شعبا ليبراليا معاديا للاستعمار وللحرب؛ لأنه سيكون ميتا”، ذلك هو جواب غولدامايير لصحافي أشفق على فُقدان قيم الشعب اليهودي من جراء استعمال الأساليب النازية الصرفة ضد العرب. إننا لا نعرف كيف كانت هذه القيم المزعومة لهذا الشعب المزعوم، الذي يعود أصله نفسُه وأساسُه إلى أكبر سرقة في التاريخ، ألا وهي سرقة وطن. والسارق الذي ليس له كيان لم يُرِد أن يقول أين ينتهي البلد الذي يزمع اغتصابه، ويصرح على لسان حكامه بأنه على إسرائيل نفسها أن تحدد حدودها، ومن هو اليهودي الذي يدعي أنه ضد الصهيونية، والذي يفضح بدون تحفظ هذه السرقة، ويطرح مسألة وجود إسرائيل من غير أن يخصص أَهمَّ حديثه للتذكير أولا بالمظالم التي تعرض لها اليهود، ثم مسألة مصير مليونين من اليهود المهاجرين.

بهذا الانحراف وبواسطة هذه الطريقة الملتوية، فإنه يعكس المشكل من أجل أن يطرحه على العربوعلى الفلسطينيينوعلى ضحايا الاغتصاب، ويقول نعم. ولكن نعم ولكن،إني أعرف حق الشعب الفلسطيني، ومشروعية المقاومة.. إلخ..

ولكن ما هو الحل؟ لا تقل لي، على أية حال، ما قاله الشقيري: إنه يجب “رميهم في البحر”. إن هذه المبادئ سليمة، باستثناء ما هو أبسطها جميعا، وهو أنه لا يجب أن نطلب الحل من ضحايا سرقة ما زالت مستمرة.. إن هذا الرأي يتسم بالإخلاص، ويحتفظ بطابع التجانس ونغمة الماركسية اللينينية؛ بل إن الأمر يبلغ مَداه السَّام عندما يتدخل علم النفسوعلم الاجتماع.

وعندما يحاول التقدمي المعادي للصهيونية أن يوضح أن “إسرائيل ليست دولة”، فإنه، عوض أن يعكس المشكل الأساسي ويطرح الاختيارات على الضحية بدل المستعمر، يخدم هذا الأخير بتغيير وجهة الحديث والانغماس في نقاش مفتعل محكم الأطراف.وإن الكفاح الشعبي الدامي الذي اغتصب منه وطنه، كي يصبح قاعدة للإمبريالية ونقطة ارتكاز للصهيونية، قد تحوّل إلى موضوع من مواضيع التاريخ القديم. والواقع أنه ليس بإمكاننا أن نطلب من المثقفين اليهود أكثر من ذلك، ما دمنا نحمل فكرة، مهما كانت مصغرة، عن أساليب الضغط التي تمارسها الشبكات الصهيونية تحت مختلف الأشكال وفي جميع المجالات؛ بَيْد أن الأمر هنا لا يتعلق بهؤلاء المثقفين – ولا بذاتيتهم أو بإخلاصهم كبشر- لأن الملاحظات السابقة كانت تهدف إلى إعطاء فكرة أولية عن تعدد عناصر الالتباس والتشويه التي تَحوط المشكل الفلسطيني، وعن تعدد وجهات النظر وسلوك مثقفي شمال إفريقيا الذين كَوَّنتهم المدرسة الرأسمالية الاستعمارية الفرنسية، وهذا يستوجب:

1- معرفة كيف أن الصهيونية هي المستفيد الأول من جميع حقائق الإيديولوجية البورجوازية المهيمنة،خاصة تلك الحقائق المرتبطة بأدب الاستعمار الجديد الخاص بالتخلف. ولكي نبرز جانب هذه الحقائق الزائف، يجب أن نقف على المظاهر غير الخاصة بالمشكل الفلسطيني.

2- إن هذه الحقائق هي التي جعلت الصهيونية تؤثر مباشرة على بلداننا وأطرنا، مستفيدة من الظروف الثقافية والتقنية والاقتصادية المرتبطة بالقوة الاستعمارية القديمة وبـ”يسارها”، وكذا من الظروف الجغرافية والتاريخية (بُعْد المسافة بالنسبة إلى الشرق الأوسط الذي تَحدثُ فيه ظواهر لا نعرف عنها إلا المظاهر الخارجية والسلبية).

3- من هنا، يمكننا أن نفسر أن تطور ما بعد 67، الذي كان يعني إعادة النظر في الأفكار الملقنة، لم يحدث في الجوهر؛ لأن الالتباس مازال قائما حول المشكل الأساسي، كما أن “الانهزامية ” المسماة بـ”الواقعية” أو “الموضوعية” مازالت تستمد أساسها من المظاهر مع اعتبار أن الالتزام بجانب الشعب الفلسطيني هو جزء لا يتجزأ من درجة الالتزام في حركة التحرر.

1- الصهيونية هي المستفيد الأول من الحقائق الزائفة لفكر الاستعمار والاستعمار الجديد قبل يونيو 1967وبعده:

ولنذكر هنا أنه ينبغي تجلية مظاهر الإيديولوجية الرأسمالية البورجوازية العربية، في مفاهيم وتفكير وسلوك أغلبية أطر شمال إفريقيا، الثقافة الفرنسيةذاتها، فيما يخص المشكل الفلسطيني. وعلينا أن نشير أولا إلى أننا قد تلقينا هذه الثقافة عبر أدب الاستعمار والاستعمار الجديد، المتعلق بالتقدم ثم التخلف. ويمكننا القول بالتالي إن المفاهيم والتحاليل المطبقة على المشكل الفلسطيني تشكل في الحقيقة جزءا لا يتجزأ من السلوك الثقافي والعملي لكل مثقف في شمال إفريقيا إزاء التحرر والاستعمار الجديد بصفة عامة. ولا يمكن أن يظهر هذا الارتباط جليا إلا إذا دعمنا التحليل بالأمثلة المحسوسة، التي توضح بالملموس درجة”حالية” Actualité) ) الحقائق الزائفة التي تشكل فكر الاستعمار الجديد

لنذكر أولا أن الإيديولوجية البورجوازية والإيديولوجية الغربية، بجميع العلوم الإنسانية المرتبطة بها، هي إيديولوجية وَصْفية صِرفة؛ وهي باعتبارها وليدة وباعتبارها بنية فوقية لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، فإن وظيفتها هي تبرير الأسلوب وتزكيتهإلى درجة أنها تقتصر على تحليل مظاهره الخارجية أو على دراسته قطاعا قطاعا كي تتلافى تفسير مبدئه الأساسي والحقيقي وعلاقات الاستغلال التي يرتكز عليها كنظام شامل. ويرجع الفضل الكبير إلى ماركس، الذي أثار وفضح الطبيعة الوصفية المحضة والمُضَللة لهذه الإيديولوجية انطلاقا من هذا المبدأ الأساسي: “إن كل شكل من أشكال البروز هو نوع من النفاق”. وعلى أُطُرنا أن تفكر في هذه القولة التي تفيد بأن الفكر البورجوازي يركز انتباهه على الشجرة لكي يخفي الغابة، وذلك هو قانون الغاب الرأسمالي؛ لكن يبقى أن هذا الفكر، مثل نمط الإنتاج الرأسمالي الذي وَلَّدَه، هو نظام متجانس له منطقه وتجانسه الخامَيْن

ليست هذه الإيديولوجية الوصفية هي التي لقّنت لنا إنتاجاتها الوضعية،وذلك عبر التعليم الاستعماري المدعم بأدب الاستعمار الجديد حول التخلف. وحتى نوضح أكثر وكي لا نبتعد عن موضوعنا، ينبغي أن ننطلق من حدث ليست له أهمية ولكنه يوضح إلى أيّ مدى استطاعت الحيل والأكاذيب الاستعمارية (القديمة بـ50 سنة) أن تنطلي على المثقفين المغاربة؛ فـ”قدماء ثانوية أزرو”، الذين اجتمعوا في مؤتمر عُقد في مستهل الصيف، لم يقبلوا أن يتخذوا موقفا من المشكل الفلسطيني إلا على أساس اعتباره مشكلا من مشاكل التحرر في العالم مثل أنجولا والموزمبيق…إلخ. وليس هذا ليسجلوا أن الأمر يتعلق بمشكل استعماري ولكن، على النقيض من ذلك، للتأكيد على أنه مشكل “عربي” لا يهمهم مباشرة أكثر مما تهمهم قضية غينيا المدعوة بالبرتغالية.

إنهمَثَال آخر يجسد الانتهازية في رحلتها الأولية؛ ولكنه أيضا، وبالأخص، يبرر إلى أي حد استفادت الصهيونية في بلادنا من جميع أشكال الفكر التي نشرها الاستعمار، وإلى أي حد تستطيع الصهيونية أن تكسب صفة الحياد، بل وتحالف أطر بلداننا الموضوعي. وإن النتائج الخطيرة والعامة للفكر الرأسمالي الاستعماري في احتقارنا لأنفسنا باعتبارنا أمة عربية ونعت العربي كعربي بأوصاف وحقائق خَلَّفتها الإمبريالية في الواقع، وعملت على ترسيخها بواسطة عملائها المحليين. فمن منا لم يسمع التعاليق المريبة والمشككة التي كان يطلقها المثقفون المغاربة، عندما يستمعون إلى بيان عربي يعدد الخسائر الصهيونية؟ وعندما ننبههم إلى أنه لا ينبغي دائما تصديق الأنباء الصهيونية، ورفض أنباءالدول أو المقاومة العربية، لأن ذلك يعني ثقافيا الوقوف إلى جانب إسرائيل؛ فإن جوابهم، الذي لا يتغير، يكون هو أنه: “لا يمكن لي أن أصدق، منذ 1967”.

ومن هنا، نرى جريدة “لوموند” تجسد رأي هذه الأطر و”تعلمهاالواقعية والاعتدال” وتغرس فيها رغبة الانتهاء من “المشكل” والوصول إلى السلام. كما أنها تنشر وتشجع المناقشات حول الحل أو حظوظ حَلّ ما تسمّيه هذه الجريدة بـ”النزاع الإسرائيلي- العربي”. وهذا المثال الثاني يبرز إلى أي حد تستفيد الصهيونية ليس فقط من الأفكار التي غرسها الاستعمار؛ ولكن أيضا من كل ارتباطات البلاد الثقافية والتقنية واللغوية بقوة المستعمِر القديمة، وهي ارتباطات تُسهل انتشار جميع وسائل الأخبار التي عملت الصهيونية على تجذيرها أو مراقبتها بدرجة أو بأخرى (بصرف النظر عن علاقة السيطرة والاستغلال الاقتصادية، التي تجعل من البلدان العربية نفسها قطاعا لتصريف الثروات المالية).

إن الحديث عن تأثير أكاذيب الفكر الرأسمالي- الاستعماري على أطرنا، في موضوع مشكل فلسطين، معناهإذن طرح مشكل الاستعمار الجديد والإمبريالية؛ لأن الأحداث قد أرغمت الصهيونية على أن تظهر أكثر فأكثر على طبيعتها الحقيقية، ليس فحسب بوصفها محمية من لدن الإمبريالية أو أداة لها في الشرق الأوسط، ولكن أيضا كطابورها الخامس في جهات أخرى وخاصة في إفريقيا. وعلينا أن نعرف أن حركة التحرير في بعض بلدان إفريقيا الاستوائية تناضل، حتى الآن، تحت شعار “ضد الإمبريالية والصهيونية”؛ لأنها تأكدتأن “المساعدين التقنيين” الإسرائيليين يعملون، فعلا، في إطار الإستراتيجية الإمبريالية، التي تشكل إسرائيل أداتها. وهذا يقودنا إلى المكائد الأكثر حذاقة وفعالية التي تكوّن جزءًا من أدب الاستعمار الجديد، كما هو الشأن في موضوع التخلف؛ فبواسطة هذا الأدب استطاعت إسرائيل أن تُعَرف بنفسها، وأن تنشر “مساعديها التقنيين” في مختلف البلدان. ثم إن أُطر هذه البلدان، التي تكوّنت هي الأخرى (مثل أُطرنا) في مدرسة الإيديولوجية والاقتصاد السياسي البورجوازي والوصفية الصرفة، قد انخدعت بالمظاهر كما اقتنعت بمنجزات إسرائيل كنموذج لحل المشاكل ولدائرة التخلف المفرغة الشهيرة، واهتمت بالشجرة التي تخفي الغابة، متجاهلة أن استهلاك إسرائيل يفوق إنتاجها بخمسة أضعاف بفضل الثروات التي تغتصبها من بلدانهم، وبفضل الأطر التي جلبت إسرائيل معظمها من هذه البلدان نفسها.

فها نحن نرى أن الصهيونية تبدو أيضا أول مستفيد من كل الحقائق الزائفة حول التخلف التي نشرتها مجلة “العالم الثالث”، أداة الاستعمار الجديد الأكثر دقة وفعالية وإيذاءً (التي تضم إدارتها صهاينة مشهورين). وهذه الأداة هي المثال الصارخ على قدرة تكييف إيديولوجيا الاستعمار الجديد مع نمو القوى التقدمية.

ولكي تتمكن هذه الأداة من إقناع أطرنا و”فَنِّيينا”، فإنها تعلمهم الواقعية والمراحل الضرورية للخروج من “حلقات التخلف المفزعة”، وتوضح في الآن عينه أن هذا الخروج يستلزم الإصلاح الزراعي وبعض التأميمات. وهذه الأساليب تنطلق من المبدأ نفسه وتلتقي في جوهرها مع مرونة إيديولوجيا الصهيونية المتواصلة مع نمو الأفكار المعادية لإسرائيل؛ فهم يقترحون لجان السلام، ويشجبون نزعة موشي ديان التوسعية…إلخ، بهدف صيانة الجوهر أي وجود إسرائيل كدولة. لذلك، فإنهم يطرحون، طبعا، المشكل باعتبار أنه أزمة “الشرق الأوسط” بين البلدان المتجاورة لا على أساس أنه قضية تحرير بلاد.

كما أن هؤلاء الإيديولوجيين ينظرون إلى تداخلات المشكل الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية من جهة، وعلاقات إسرائيل بالدول المجاورة من جهة ثانية، على أنها “حلقات مفرغة”، وكذلك بتشابك الفلاحة والتعليم وميزان المدفوعات لبلد متخلف.

ثم انقسام العرب وارتجاليتهم يُكَونان بالنسبة إلى المشكل الفلسطيني ما يُكونه النمو “الديمغرافي الراكض” أو المتصاعد بالنسبة إلى التخلف، أي المبرر وجواز المرور. وهذا يؤدي بنا إلى المبدأ المعروف نفسه، وهو ضرورة العودة إلى أنفسنا لمراجعتها أولا ولتصفية مشاكلنا.

وهذا التحليل ينم تماما عن تكوين وعقلية “التقني” الذي رغب بكل إخلاص في التقدم، فكيف يتسنى لنا أن نشك في نية من يقترح تأميم السكك الحديدية أن يساعد الرأسمال الاستعماري، مادام هذا الأخير يواصل استغلاله المواد الخام ويستفيد من تصدير المنتجات الصناعية، في حين تبقى ضحايا هذا الاستغلال نفسها هي التي تؤدي ثمن العجز أي قسطا من مصاريف استثمار البلاد العامة؟كما أننا لا نشك في أن “الإصلاح الزراعي”، أي توزيع أراضي الاستعمار، لا تضايق مطلقا الرأسمال الاستعماري مادام يحصل على المنتوجات نفسهابأثمان منخفضة جدا، إلى جانب احتفاظه في الآن نفسهاوعلى المدى البعيد بهذه الوضعية. وينطبق هذا كذلك على الإصلاحات والحلول ذات المظهر الوطني والصبغة التقدمية؛ لأن المشكل الحقيقي والجوهري لم يخلق أيّ مشكل للروح الاستعمارية التي تدمغ النظام الاقتصادي والاجتماعي المنعوت بالتخلف.

إن كل الجهود التي يبذلها إيديولوجيو الاستعمار الجديد تهدف إلى تشويه المشكل، وإقناع ضحايا الاستغلال الإمبريالي بالبراهين “التقنية” والأرقام المنتقاة بضرورة العودة إلى نفسها أولا ومراجعتها؛ حتى أن كلمات مثل “الواقعية” و”الموضوعية” -المزعومة علمية- و”العقلانية”، التي هي أساس هذا الأدب الاستعماري، أخذت تتحول بالنسبة إلى الأطر -التقنيين- إلى أسس ثابتة لكل تحليل وحُكم يصدر عنهم. ورأينا مثقفا عراقيا يكتب دراسة معززة بالأرقام يدعم فيها الرأي القائل بأن على العرب– قبل أن يحاربوا إسرائيل أو يصفوها- أن يَحُلوا مشاكل “التخلف”.

طبعا، فإن هذه الدراسة نُشرت في أحسن مكان من جريدة “لوموند”، وهذا الرأي بعيد كل البعد عن أن يكون مجردا أو منفردا؛ لأن المشكل عندما يطرحه “تقني” ويدعمه بالأرقام، مع اعتباره لدعم الإمبريالية الأمريكية غير المشروط لإسرائيل واعتباره قوة التغلغل الصهيوني عبر العالم، فذلك يدل على موقف الواقعية، موقف الانهزامية التي يمتاز بالمنطق. وهذه الظرفية الواقعية هي موقف من يعتبر النضال ضد الإمبريالية غير وارد ولا مطروح بالنسبة إليه، أي موقف من يشايع الإيديولوجية البورجوازية الوصفية، ويرى أن الدول العربية تحارب إسرائيل باعتبارها(أي إسرائيل) كيانا مستقلا وقائم الذات، وليست باعتبارها قاعدة من قواعد الإمبريالية الأخرى.

ولهذا، فإن الحضور الثقافي والإيديولوجي للاستعمار الجديد والصهيونية في بلدنا يكونان شيئا واحدا، ويؤثران مباشرة على تفكير مثقفينا، وإن موقف هؤلاء إزاء المشكل الفلسطيني لا ينفصل عن سلوكهم تجاه المشاكل الداخلية للتحرر الاقتصادي والاجتماعي، ولا ينفصل بالمِثل عن النضال ضد الإمبريالية وعملائها. ويجب القول إن هذا التأثير يكون أكثر فعالية عندما يمارس في المجال الذي استطاعت فيه الظروف التاريخية والجغرافية وأصداء الأحداث الخاصة بالشرق الأوسط أن تحدث الالتباس وتزرع اللامبالاة.

اضغط هنا لقراءة الجزء الثاني والأخير