منتدى العمق

حول التربية

أضحى مفهوم التربية في الأدبيات التربوية اليوم مفهوما أساسيا ومركزيا، كونه يعتبر من أسمى غايات المخرجات التعليمية، إلا أن هذا المفهوم ظل لصيقا بالمقاربات الكلاسيكية مما جعل تحقيقه اليوم على أرض الواقع من المحال، وفي هذه الورقة المتواضعة سنحاول تقديم وجهة نظر تنتمي إلى حقل علمي له مناهجه وأدواته وتقنياته.

إن الحديث عن التربية بوصفها شيئاً اجتماعيا بالدرجة الأولى، وهي كذلك تنشئة اجتماعية تمارسها الأجيال السابقة على الأجيال اللاحقة، وهي إذن سيرورة نقل معارف اجتماعية وثقافية وسياسية وكذلك العادات والتقاليد، بمعنى أنه يتم تنشئة الفرد تنشئة اجتماعياً وفق قالب يمليه المجتمع بدءا من الأسرة كأول اجتماع استدعت له الطبيعة، وأول خلية في المجتمع واصغرها، كذلك نفس الشيء بالنسبة للمدرسة باعتبارها قنطرة تمرر من خلالها الدولة سياستها، وهي من إنتاج البنية السياسية الطبقية، فإنها لا تعدو أن تكون كما يراها العالم اجتماع الفرنسي ايميل دوركايم، أنها عالم مصغر عن المجتمع الذي توجد فيه، فالمجتمع يكون-بضم الياء وكسر الكاف- في داخل الإنسان كائنا آخر جديدا، هو الكائن الاجتماعي، فالمناخ التربوي اليوم تغير بفعل عوامل متعددة خارجية لها وقع كبير على منظومتنا التربوية اليوم، بحيث سجلت هوة شاسعة بين الموجه والمتعلم، على اعتبار أن هذا الأخير هو متعلم معولم يختزل الفرد في بعده الفرداني، وذلك بفعل ثورة التكنولوجيا، ومدى وعيه باهميتها في حياتنا الراهنة، هذه التحولات القيمية والأخلاقية العميقة التي مست جوانب المتعلم اليوم على المستوى العقلي والوجداني والحس حركي، جعلتنا مطالبين بإعادة مفهمة حقل علوم التربية وذلك في الوقت نفسه الذي تغيرت فيه رؤية الباحثين اليها.

إذا كان عمل ايميل دوركايم حول التربية يمثل ظاهرة عامة بدأ عصرنا الحالي يعيها على نحو متعاصد، وبخاصة، أهمية ظواهر التنشئة الاجتماعية في مجالات الحياة كافة، والتي تتخلل الجوانب الفردية للحياة الإنسانية، فالمكانة التي يحتلها المفهوم الجمعي في الأنظمة الماركسية يمثل دليلا قويا على أهمية ظاهرة التنشئة الإجتماعية، هذه الظاهرة أصبح يلفها الغموض اليوم، وبخاصة فيما يتعلق بالتطور السريع الذي ينفذ في عمق حضاراتنا الإنسانية المعاصرة، فنعتقد من وجهة نظرنا انه اذا كنا نخضع اليوم لتأثير التغيير على كافة المستويات وخاصة الجانب القيمي والأخلاقي تغيير دائم، فإن التربية التي نتبناها لإعداد الناشئة وفق البيداغوجيات الحديثة، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أهمية مثل هذه الظاهرة، في هذا السياق نستحضر قولة لايميل دوركايم حيث يقول” إن التحولات العميقة التي شهدتها المجتمعات الإنسانية المعاصرة، تقتضي بالضرورة وجود تحولات عميقة مكافئة لها في إطار التربية القومية” انتهى قول دوركايم، ونحن ندرك اليوم بوضوح عندما ننظر في التاريخ، أن التربية في اسبارطا كانت صورة من صورة الحضارة اليونانية وهي تهدف إلى إعداد الرجال الاسبارطيين، أي أنها مرآة عاكسة لواقع الحضارة التربوي، كذلك نفس الشيء في أثينا، كانت التربة الأثينية تعبر عن الحضارة الأثينية، فهذه الرؤية الموضوعية التاريخية سجلت غيابا كبيرا اليوم، لذا وجب إعداد النظر في المفاهيم التربوية اليوم والغايات التي باتت تحققها، من عنف داخل المؤسسات التعليمية بمختلف الاسلاك التعليمية، ومقاربتها من جانب الواقع المعاش والا سنكون أمام مغالطات منطقية، اننا نعرف التربية بمدلول أجوف بعيدا كل البعد عن مضامينه الراهنة وسيظل بالتالي حبيس الشق النظري ليس إلا، قد نكون مخطئين في هذا التصور لكن، هذا لا يعني أن هذه الرؤية لا تنطلق من مبدإ التأمل الخالص في تحديها لطبيعة الإنسان، وأنها لا تعدو أن تكون سوى نتاجا اعتباطيا لتأمل يفتقر إلى قراءة ملموسة للواقع بمنهجية علمية ذات الحس السوسيولوجي.

فإذا كان بناء الشخصية يمثل هدف التربية، وإذا كان التعليم يسعى إلى تحقيق التنشئة الاجتماعية، فإنه يمكن لنا نستنتج بأنه يمكن تفريد الشخصية في إطار التنشئة الاجتماعية، ويمكن لنا أن نناقش الطريقة التي ننظر من خلالها للتربية. فعلوم التربية اليوم تسعى إلى معرفة التربة وفق أسس ومقاربات ونظريات علمية، وهي لا تتدخل في مع النشاط الانفعالي للأستاذ أو مع نظرية التربية والبيداغوجيا، التي تقوم بتوجيه النشاط التربوي، إذ تشكل التربية موضوعا لعلوم التربية، ومعنى ذلك أنها لا تسعى -علوم التربية- إلى تحقيق الغايات والمرامي التي تحققها التربية، بل على خلاف ذلك، أي أنها تقترح هذه الغايات وذلك لأن علوم التربية لها زاوية أعمق وأشمل وكونها تلاحظ تلك الغايات، أي تحقيق صورة الكمال الممكن عند الفرد الإنساني على حد تعبير ايمانويل كانط.

على سبيل الختم، إذا كان تحقيق ذلك النمو المتكامل ضروريا ومرغوبا بصورة ما، فإن ذلك أمر غير ممكن على المستوى الواقعي، إذ يتناقض ذلك مع ناموس آخر للسلوك الإنساني لا يقل أهمية عن غيره من القوانين، كهذا الذي يدفعنا للتضحية بأنفسنا من أجل غايات خاصة ومحددة، حيث لا نستطيع ولا يجب علينا أن نكرس أنفسنا لنمط واحد محدد من أنماط الحياة، فنحن نقوم وفقا لكفاءتنا بوظائف مختلفة، ويجب علينا أن نحقق نوعا من التوازن الضروري بينها وبين الوسط الذي يحيط بنا، فنحن لا نعيش في عالم المثل، ول نعيش من أجل التفكير فحسب، بل يجب أن يكون هناك أناس للفعل والعاطفة أيضاً، وعلى خلاف ذلك يجب أن يضطلع بعضنا الآخر بمهمة التفكير، وفي هذا السياق لايمكن للتفكير أن ينمو ما لم يحقق انفصاله عن حركة الواقع من جهة، واكتشاف الذكاءات المتعددة مع هاورد غارنر من جهة أخرى، وما لم يتحقق تواصله مع نفسه أي الفرد، وأن يبتعد عن هذا الأخير عن الانغماس في التكفير في حركة الفعل الخارجي، وتلك هي حالة أولى من التمايز التي لا يمكن أن تتم دون الإخلال بالتوازن. وفي المقابل فإن الفعل كالتفكير يأخذ اتجاهات متعددة وتجليات مختلفة، فلا بد من وجود أساس مشترك او بعض التوازن العضوي والنفسي والذي من غيره لايمكن لحياة الفرد أن تستقيم، وذلك ينسحب على مسألة التكامل الاجتماعي، إذ لا بد من وجود توازن وظيفي نفسي-فيزيائي، والذي من غيره يمكن لصحة الفرد أن تعاني من الخلل، ومثل ذلك ينسحب على مسألة التوافق الاجتماعي، وهذا يعني فيما يعنيه أن التكامل المطلق لايمكن له أن يكون الغاية الأخيرة للسلوك أو للتربية.

*طالب باحث بعلم الاجتماع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *