وجهة نظر

المحكمة فشلت في وقف “كابوس بوعشرين”

انتظرنا طويلا أن ينطق القاضي بحكم يخرج به من كابوس ثقيل كل صاحب رأي ناقد. وجاء الحكم ليمد في زمن ذلك الكابوس الثقيل والمؤلم ويعممه. فـ 12 سنة سجنا نافذا للزميل توفيق بوعشرين ليست حكما عاديا ولا عادلا. فهو ليس حكما عاديا لأنه حكم يتجاوز بظلاله الثقيلة شخص بوعشرين ليشمل بألمه وغموضه كل ذي رأي حر يعبر عنه. وهو ليس حكما عادلا لأنه لم يجب على أسئلة كثيرة تتعلق بحق المجتمع في رفع كل الالتباسات التي شابت القضية في مختلف أطوارها، وتعطي للقضية طابعا سياسيا لا يشرف المغرب.

المسألة بالنسبة لكل حامل رأي سياسي ناقد لا تقف عند “محجوزات” و”فيديوهات” تنسب لمتهم و”تصريحات/اعترافات” أشخاص قدموا أنفسهم على أنهم ضحاياه، وحكم قضائي بالسنين وملايين الدراهيم، فكل ذلك سيكون أمرا عاديا لو تعلق الأمر بقضية عادية. لذلك ليس المهم في هذا السياق أن نكون بديل دفاع المتهم، ولا أوصياء عليه. لكن الأهم أن نعبر عن وجهة نظر تتعلق بشبهة الخلط بين السياسة والقضاء. فهذه الشبهة هي التي فشل القاضي الذي أصدر الحكم في رفعها وتبديدها.

انتظرنا كثيرا أن تجد بعض الأسئلة الكبرى جوابا لن يغر من أصل التهم التي أتبتها القاضي ضد الزميل بوعشرين بعد إدانته. لكنها سوف تنصف المجتمع الذي يعتبر أول المعنيين بها. وعدم الإجابة على تلك الأسئلة يجعل للقضية بعدا سياسيا لا ينتهي حتى ولو أنتهت جميع أطواره أمام القضاء، بل حتى لو انتهى بالبراءة للمتهم. وسيضل المجتمع في “كابوس بوعشرين” إلى أن تجد تلك الأسئلة إجابات، وتترتب عن تلك الإجابات إجراءات تجعل جميع “صناع الملف” المحتملين لا يفلتون من العقاب.

أسئلة كثيرة لم تجد لها جوابا طيلة ثماني أشهر من تعاطي القضاء للقضية، أهمها:

السؤال الأول: لمن ترجع ملكية المحجوزات التي تعتبر العمود الفقري في قضية بوعشرين؟ فالتحقيقات لم تبرهن عن أي جهد معتبر للجواب عن ذلك السؤال، وكل ما في الأمر أن المحاضر تشير إلى أنها “محجوزات” ضبطت في مكتب المتهم، وهذا الأخير نفى مند الوهلة الأولى أية علاقة له بها وفي جميع أطوار التحقيق. ويبقى سؤال تفصيلي مؤلم في هذا الإطار: ألا تحمل تلك الأجهزة أي بصمات؟ فالمنطق العلمي يقول إن تلك الأجهزة التي يفترض أنها تستعمل يدويا واعتمدت في تسجيل الفيديوهات لا بد أن تحمل بصمات تساعد على التحقق من هويتها، لأنه يستحيل، في حالة المتهم، أن يعتمد الحيطة لعدة سنين في تعامله مع تلك الأجهزة، كما يستحيل أن لا تحمل بصمات غيره وهي التي استعملت لسنوات في تسجيل عشرات الفيديوهات.

والواجب يفرض أنه مباشرة بعد نفي المتهم أي علاقة له بتك المحجوزات أن يواجه بدليل موضوعي وعلمي لا ينقض، وهو وجود بصماته أو بصمات أي شخص آخر يمكن أن تكون له به علاقة عليها. فلماذا لم تقم الشرطة القضائية بالتحقيق في هوية الأجهزة على أساس البصمات، رغم أنه إجراء أصبح عاديا وروتينيا حتى حين يعترف المتهمون بملكيتهم للمحجوزات التي تدينهم؟

السؤال الثاني، مادامت هوية التجهيزات “المحتجزة” لم تعالج أسئلتُها، فهي تفتح بابا عريضا لسؤال خطير هو: من قام بتسجيل تلك الفيديوهات؟ ولأية غاية؟ فتلك الفيديوهات التي عرضت في المحكمة، كان تسجيلها رديء لا يظهر ملامح الوجوه ولا تفاصيل العمليات، ومن غير المفهوم كيف للمتهم أن يعتمدها مع ذلك في كل مرة؟ ولماذا لم يعتمد التسجيل المباشر والجيد في الحالات “الرضائية”؟ ولماذا لم يثر أمر ذلك التسجيل مع “ضحاياه” بعد أن “خضعن” له في ممارسة الجنس عليهن بكل الطرق؟ إن علاقة المتهم بعملية التسجيل بقيت هي الأخرى دون بيان، وهو ما يفتح الباب لفرضيات بديهية هي، إذا افترضنا أن الوقائع المسجلة صحيحة فمن سجلها؟ وهذا السؤال وإن كان ثانويا في الملف القضائي إلا أنه حيوي في قضية بوعشرين كقضية تهم الرأي العام وتهم الأمن على الخصوصية، حيث يطرح ذلك فرضية انتهاك خصوصية المتهم من طرف جهة ما ستضل خارج المحاسبة والعقاب. وهذا بالضبط ما يعطي للقضية بعدا سياسيا مقلقا لا يلغي ما قد يكون تبث من الوقائع، ولا يعفي المتهم من مسؤولية الأفعال التي تثبت ضده بشكل موضوعي، لكنه أمر خطير فيما يتعلق بالأمن عن الحياة الخاصة لكل ذي رأي ناقد.

السؤال الثالث، يتعلق بالخبرة التي أنجزها الدرك حول الفيديوهات، فتلك الخبرة أقصى ما أثبتته أن تلك الفيديوهات من الناحية التقنية سليمة وغير مفبركة، لكن لم تجب تلك الخبرة عن السؤال الرئيسي، وهو: ما علاقة تلك الفيديوهات بقضية بوعشرين؟ فهي لم تؤكد هوية الأشخاص الذين يطهرون في الأشرطة، ولا أكدت أن الذي قام بتسجيلها هو بوعشرين. وكان على تلك الخبرة أن تساهم في إثبات علاقة المتهم بما وثقته تلك الفيديوهات السليمة تقنيا.

لقد سبق أن شددنا في مقال سابق نشر بتاريخ 1 مارس الماضي تحت عنوان (“قضية بوعشرين”: هل ينقلب السحر على الساحر؟) على أن (أهم لغز في “قضية بوعشرين” من الناحية السياسية هو هوية “الأجهزة ومقاطع الفيديو”. وحل لغز هوية مصدر تلك الأجهزة ومقاطع الفيديو أمر حيوي لحسم الطابع السياسي للقضية من عدمه، لأن عدم نسبتها إلى “المتهم” يضعنا أمام فضيحة سياسية ثقيلة، مهما صحت نسبة الجرائم المفترضة إلى المتهم، تساءل الدولة قبل باقي خصوم بوعشرين. ذلك أن الأمر سيعني أن الملف سياسي، وتمت فبركته على مقاس بوعشرين لا غير، والباقي سهل الاستنتاج انطلاقا من موقع بوعشرين السياسي نفسه، والذي يجعل جميع من لهم مصلحة في إسكاته، بمن فيهم الجهة التي سعت إلى رسم حدود لكتاباته، شركاء مفترضين في تلك الجريمة حتى يثبت العكس. فهل يفتح تحقيق في هوية أجهزة التسجيل ومقاطع الفيديو؟).

وجاءت الأحكام لتؤكد فشل المحكمة في الإجابة عن الأسئلة السابقة ومعالجة ما يرفع عنها الطباع السياسي، مهما تجرد القاضي من ذلك. ويعزز فرضية وجود أطراف أخرى فاعلة في القضية تمكوا من الإفلات من المساءلة والعقاب، مما يمس بحق المجتمع في الانصاف تجاه منتهكي الخصوصية المفترضين، والمتربصين المفترضين لدوي الآراء الناقدة، و”المفبركين” المفترضين للملفات القضائية ضدهم.

نعم إن الأحكام التي أصدرها القاضي تدين الزميل بوعشرين، لكن الأسئلة العالقة تدين المحكمة لكونها لم تكن عادلة تجاه المجتمع، بل أضافت قلقا عظيما حول واقع ومستقبل حرية التعبير والرأي، وأمدت في عمر “كابوس بوعشرين”. فهل تفسح باقي مراحل القضية بين يدي القضاء الفرصة لمعالجة قضيةٍ من الخطأ الفظيع اعتبارها قضية بوعشرين وحده، بل هي في الشق الذي أثرناه قضية المجتمع والحقوق الأساسية فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *