وجهة نظر

لأي مصلحة يزعزع الأمن القضائي في المغرب؟

لم يخرج الرأي العام بعد من “صدمة” قضية الزميل بوعشرين الذي لم يجب القضاء فيها على الأسئلة الجوهرية التي تهم الأمن القضائي للمواطنين، والتي تتعلق بهوية المحجوزات وعلاقتها بالمتهم، والجهة التي تقف خلف عمليات التصوير التي دامت عدة سنوات، حتى وجد نفسه في مخاض قضية أكثر غرابة من شأن تثبيتها زعزعة ما تبقى من الثقة في مؤسسة العدالة بالمغرب والإجهاز على الأمن القضائي فيه، لينضاف كل هذا إلى العديد من “مشاريع” تخريب ثقة المواطنين في المؤسسات وفي العمل السياسي وفي الانتخابات، وغير ذلك. مما يطرح أكثر من سؤال كبير حول الأهداف الحقيقية لمثل هذه “المشاريع” والقرارات؟

والقضية التي تتهيأ للإجهاز على الأمن القضائي بشكل غير مسبوق تتعلق بقرار متابعة المناضل الحقوقي والسياسي د. عبد العالي حامي الدين. ووجه الخطورة في قرار قاضي التحقيق بمتابعته وإحالته على غرفة الجنايات، أن الأمر يتعلق بأفعال (سبق للقضاء أن قال كلمته فيها بأحكام نهائية مستوفية لجميع درجات التقاضي مكتسبة لقوة الشيء المقضي به منذ سنة 1993، وصدر بصددها قرار تحكيمي لهيئة الإنصاف والمصالحة يؤكد الطابع التحكمي لاعتقاله، وبعد أن سبق لنفس النيابة العامة أن أصدرت قرارا بحفظ شكاية تقدم بها نفس الأطراف في نفس الموضوع، وبعد أن سبق لقاضي التحقيق أن أصدر قرارا بعدم فتح التحقيق)، ورغم كل هذه التطورات التي عاشها الملف والتي تجعله، بحكم القانون وبحكم ما تنص عليه المواثيق الدولية، ملفا منتهيا، يقرر السيد القاضي، بعد ربع قرن من الزمن، فتح الملف من جديد! مما يجعلنا أمام نازلة غريبة تساءل جميع الأحكام النهائية التي أصدرتها محاكم المملكة عن مدى حصانتها؟ وعن قدر الثقة التي ينبغي أن تناله؟ وعن مدى الأمن القضائي الذي ينبغي للمواطنين والمستثمرين ومختلف الهيئات أن يطمئنوا إليه فيها؟

إن هذه القضية هي أكبر بكثير من شخص الدكتور حامي الدين أو حزب المصباح الذي ينتمي إليه، أو أي اعتبار آخر.إنها قضية مجتمع ينبغي أن يلقى الجواب الشافي عن أسئلة كبيرة تهم أمنه القضائي. ومن الأسئلة المثارة بهذا الشأن:

• ماذا يعني الفصل 126 من الدستور من التنصيص على أن ” الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع”، ؟بالطبع بما فيهم قاضي التحقيق في “قضية حامي الدين”.

• ما قيمة المادة 4 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على سقوط الدعوى العمومية بصدور مقرر اكتسب قوة الشيء المقضي به؟

• وما دور المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي تقول إنه لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة على جريمة سبق أن أدين أو برئ منها بحكم نهائي؟

• وبعد كل هذا، ما هو الإطار المرجعي للسيد قاضي التحقيق الذي أطر به قراره بإعادة فتح ملف استوفى جميع مراحل التقاضي وزيادة؟

إن من المفيد التوقف عند الملاحظات التي أثارها السيد المصطفى الرميد بهذا الشأن. فوزير الدولة المكلف بحقوق الانسان، ووزير العدل سابقا، عبر عن اندهاشه الكبير من قرار قاضي التحقيق الذي خالف ما استقر عليه القضاء في المغرب وخالف القانون والدستور والمواثيق الدولية. وبما أن حق القاضي في الاجتهاد ينبغي أن لا يخالف القانون والمواثيق الدولية، فهو أيضا مطالب بأن لا يمس بأمر حيوي وهو الأمن القضائي. وفي هذا السياق يتساءل السيد الرميد حول ما إذا كان هذا الاجتهاد، إذا استمر، مفتوحا للجميع وفي كل الأحكام النهائية؟ أم أنه خاص بملف الدكتور عبد العالي حامي الدين؟ وهو سؤال كبير يثير أمرا خطيرا، يتعلق بالمبدأ الأساسي الذي يضفي على القضاء استقراره ويحصنه من التلاعب والعبث ويعزز ثقة المتقاضين في أحكامه النهائية.

إن أخطر ما يثيره قرار قاضي التحقيق في “قضية حامي الدين” يتعلق بالفعل بكونه قد يكرس اجتهادا قضائيا من حق أي رافض لحكم قضائي نهائي، أن يراجعه ولو بعد حين! وهذه المسألة وحدها كفيلة بضرب، ليس فقط الثقة في محاكم المملكة التي ما تزال تعاني أصلا من إرث فساد الماضي الثقيل، ولكن بضرب شيء أكبر من ذلك، ويتعلق بالأمن القضائي في أعلى مستوياته، وهو أرقى ما ينبغي للدولة الحرص على حمايته وتحصينه.

إن مسألة الأمن القضائي المتعلقة بالأحكام النهائية أكبر بكثير من مشاكل الفساد القضائي، حيث أن هذا الأخير نسبي ويتدخل في أطوار التقاضي، ويتعلق بفساد أشخاص في الجهاز القضائي، وهذا المستوى يمكن معالجته بإعمال القانون ومحاربة الفساد. أما تعريض الأحكام القضائية النهائية لقابلية المراجعة فهي ضربة في المقتللمصداقية منظومة العدالة كلها حيث تفقدهاالمعنى والجدوى معا، ضدا على القانون والدستور والمواثيق الدولية. فما قيمة حكم قضائي نهائي استوفى جميع مراحل التقاضي إذا كان قابلا للمراجعة في أي وقت؟

وبالرجوع إلى سؤال اجتهاد قاضي التحقيق في قضية الدكتور عبد العالي، الذي اعتبر غير مسبوق، فهو يثير شبهات كثيرة، يتعلق بعضها باتباع الهوى في أقل التقديرات، ولكن يتعلق أيضا بشبهة التوظيف السياسي للقضاء. وكما هو الشأن في قضية الزميل بوعشرين التي لم يجب القضاء فيها على أسئلة تتعلق بالأمن القضائي الذي يهم المجتمع ككل، فهنا أيضا ينبغي الإجابة على سؤال حيوي، بعد كشف القاضي عن أدلة اجتهاده ومرجعيته فيها، وهو: هل مراجعة الأحكام القضائية النهائية خاص بملف د. حامي الدين؟ أم أنه سيصبح اجتهادا قضائيا مكتسبا يمكن لأي متقاض أن يستند عيل مستقبلا؟ كما سبق للسيد وزير حقوق الانسان أن أثار ذلك.

إنه دون الإجابة عن الأسئلة الكبرى السابقة، وعن سؤال الاجتهاد القضائي الأخير، وغيرها من الأسئلة المماثلة، ستضل أية محاكمة للسيد عبد العالي حامي الدين محاكمة سياسية مدانة، كما تعتبر محاكمة الزميل بوعشرين، لنفس الأسباب، محاكمة غير عادلةذات طابع سياسي رغم وجود “ضحايا” و”محجوزات”. غير أن الفرق بين المحاكمتين هو أن المحاكمة الثانية تتعلق بشبهة توظيف القضاء في تصفية حسابات سياسية، والتي قد يكون فيها طرف ثالث خارج منظومة القضاء. أما الثانية فتتجاوز ذلك إلى المس بالأمن القضائي في مستوياته العليا المتعلقة بمنظومة العدالة وفلسفتها وجدواها في المجتمع والدولة معا. وهذا يتجاوز الراحل أيت الجيد رحمه الله، ويتجاوز أسرته، ويتجاوز عبد العالي حامي الدين، ويتجاوز حزبه، ليضرب مصداقية الدولة واستقرارها.وكمثل بسيط وسريع، من هم هؤلاء المستثمرون الذين سيقررون الاستقرار في بلد لا ثقة لهم في أحكام القضاء النهائية فيه والتي قد تكون لصالحهم؟ فمشكلة الفساد يعرفونها وقد يحتسبوها ضمن منطق الربح والخسارة، وقد يواجهوها بأكثر من أسلوب، لكن عدم استقرار الأحكام النهائية للقضاء أمر لن يعني لهم إلا شيئا واحدا وهو اللااستقرار الذي يعتبر العدو رقم واحد لأي مستثمر.

إنه بمجرد تأمل أي شخص في أحكام قضائية نهائية غير مستقرة حتى ينتابه الخوف والقلق معا،فلمصلحة من تُخاض مغامرة ضرب استقرار القضاء وأمنه في هذا البلد السعيد؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *