وجهة نظر

الطب .. وأشياء أخرى

ترعبني فكرة .. ولو عابرة، بل مستحيلة في أن أكون سببا في انتقال أمراض معدية من مريض الى آخر. ترعبني الفكرة مع أنني أقف على كل كبيرة وصغيرة بعيادتي حتى يتم تعقيم أي شيء استعمله لعلاج أسنان مرضاي. ترعبني المسؤولية رغم أني أتحملها بحذافيرها. يقودني ما يمليه عليّ ضميري وإنسانيتي.

ترعبني فكرة ولو عابرة أيضا في أن أكون سببا مباشرا أو غير مباشر في إنهاء حياة شخص طرق باب عيادتي يوما. ليس لكوني مجرمة .. إطلاقا .. بل لكوني أدرك ادراك اليقين أن مهنتي لا تخلو من مخاطر. فمجرد قلع ضرس متحرك آيل للسقوط. ضرس قد يكون بإمكاني قلعه ولو بأصابع اليد قد يكون سببا في انتشار خلايا سرطانية من مكان الى آخر في جسم مريض عليل.

وكلما درست أكثر فأكثر، كلما أدركت أن طب الأسنان مهما توالت سنوات خبرتي، تخصص صعب يحتاج إلى تكوين مستمر. وكلما اتسعت دائرة معارفي كلما ازداد خوفي وازداد أيضا إصراري على أن أعمل جاهدة على اتقان عملي حتى ابتعد بالمريض عما قد يحفه من مخاطر قد تضع حياته برمتها لا قدر الله فوق كفيّ عزرائيل.

أذكر يوما، حينما كنت بصدد المداومة (une garde) يومي السبت والأحد. ودقائق معدودة قبل إنتهاء المداومة اتصلت بالعيادة سيدة تطلب المشورة بخصوص فتاة تعرضت لنزيف حاد بعد قلع سنها بـ “وكر” ممارس غير شرعي. نصحتها بالقدوم فورا. نسيت ابنائي وزوجي وبيتي اضطررت للبقاء لإنقاذها. تحملت كامل المسؤولية في ذلك رغم أنني لم أكن لأسلم من تبعات قانونية قضائية لو حدث للفتاة مكروه لا قدر الله بين جدران عيادتي، ولو أنني لست السبب.

كنت سأجد نفسي في موقف لا أحسد عليه لو لم أتدخل جراحيا لإيقاف النزيف. كان من الممكن متابعتي بتهمة عدم تقديم المساعدة لشخص في خطر. كلها أفكار لم تطرق رأسي لحظاتها. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ الفتاة مهما كلفني ذلك. أنقذتها الالطاف الالهية ثم ضميري وإنسانيتي. بكيت يومها بعدها بمرارة .. أبكاني قِصَرُ يدي عن تنقية مهنتي من كل الشوائب.. للأسف الشديد.

صديقة، أسَرَّت لي يوما أنها فقدت أمها بعد أصابتها بالتهاب الكبد الفيروسي والسبب؟ اقتلاع ضرس بـ “وكر” متطفل على طب الأسنان. لم تكن يومها مؤهلة للتفريق بين الطبيب وغير الطبيب. انتقلت الأم الى دار البقاء وتركت بنتا تعض من حسرتها على النواجد.

بعد دورة تكوينية فارطة، عن طب الطوارئ مواجهة الحالات المستعجلة بعيادة طب الأسنان، أصبحت أرى في كل شخص وطأت قدماه أرض عيادتي حالة طوارئ تحسبا لأي طارئ. أسرّيتُ مازحة يومها لصديقة طبيبة أيضا: “أحيانا جهل الأشياء خير من إدراكها”. على الأقل ذلك سيوفر علينا رعبا يوميا قد يسكننا، خوفا من حدوث الطوارئ. ومع ذلك ولأننا نحمل على عاتقنا هم مهنة ولأننا نملك ضميرا قبل مهنة ندرس وندرس وندرس، مهما كلفنا ذلك.

لكن، في بلدي الحبيب أجمل بلد في العالم، لازالت أمراض معدية، بل وحتى مميتة تنتشر بسبب انتشار أوكار ممارسين عشوائيين يسعون جادين لاغتيال متعمد لمهنتي النبيلة.

ولست أول أو آخر طبيبة اضطرت لإيقاف نزيف كان من الممكن. بل أكيد أن يودي بحياة فتاة في ريعان الشباب بسبب جهلها في التفريق بين طبيب أسنان ومنتحل صفة. أو ربما ليس جهلا، بل سعيا منها لدفع مقابل مادي أقل (وهو اعتقاد خاطئ للأسف)، مع أنني لم أتلق أي مقابل مادي لانقاذها.

وفي بلدي الحبيب أيضا، أجمل بلد في العالم، أجد نفسي ملزمة باحترام القانون. بالالتزام بأداء واجباتي. بخدمتي لوطني عن حب وطواعية. نفس الوطن الذي يقف عاجزا، بل متخاذلا عن حماية حقي في صون كرامتي وكرامة مهنتي بتخليصها من كل مترام عليها. عذرا وطني الحبيب، طب الأسنان ليس مهنة من لا مهنة له.

أحيانا كثيرة تنتابني فكرة مُرَّة. أن أحمل مهنتي وحب مهنتي بين ضلوعي وأرحل عن هذا الوطن، لكنني أتراجع عن فعل ذلك. لأنني وبكل بساطة ..لن أجد ضالتي في الرحيل، ما دمت أحمل بين ضلوعي، أيضا، هذا الوطن.

* طبيبة جراحة للأسنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *