منوعات، وجهة نظر

الحراك الديمقراطي أو محاولة الخروج عن النسق التقليدي

تأتي هذه السنة الذكرى السادسة لانبعاث حركة 20 فبراير المجيدة، وجدول أعمالها لا يزال معلقا، ومركب الاستبداد والفساد والتبعية يزداد توحشا، ويوغل في ممارسات القهر اليومية، لكننا لم نفقد الذاكرة، ولازلنا نقف أمام الأطلال ونطلق البخور والأوراد وكلمات التأبين الحزينة، ما أصعب الكلام!.

من أجل أن يكون لنا مشروعا مجتمعيا جامعا.. لا مشروعا فئويا فصائليا ذرائعيا. أن نكون عنوانا مجتمعيا، يغير بالمجتمع، ويتغير بالمجتمع.. لا عنوانا فئويا محدودا.

أن نحول بوصلة المشروع الإسلامي الحضاري الديمقراطي أماما لا خلفا.. أن ننتصر بالانفتاح لا بالإنغلاق.. أن نستمر ونتبلور بالحرية لا بالإكراه.. أن نكون طريقا ثالثا لا يهادن كهنوت السلطة أو  سلطة الكهنوت ، فالكهنوت شر مطلق، ولقد أتى الإسلام على تقويضه، وهدمه بنيانه من الأساس.. نريد حراكا معرفيا يفهم النص في الواقع، ويفهم الواقع في النص، ويعي فقه المسافة بين الفهم والتنزيل، يمتلك كثيرا من الإبداع، وسعة من الخيال تكون لنا خميرة معرفية استشرافية، تساعدنا في الخروج من القدامة إلى روح الحداثة.
أن لا ننهزم في معركة التشخيص.. في معركة النقد.. في معركة التجاوز.. رغبتنا أن نمتلك معرفة إسلامية ديمقراطية مستنيرة نستحقها، وتستحقها أمتنا.. إنها لحظة تاريخية أن نمتلك تدينا أجمل، ومعرفة سياسية أوعى وأعدل، وانفتاحا كاملا وأشمل.

في الماضي كان السؤال النهضوي هو بيان في الموازنة بين تقدم الأخر وتأخرنا عنه!..

اليوم أصبح السؤال، وبعد ارتدادات ربيع الأمة الديمقراطي، وتغول الدولة العميقة؛ هو:

– هل التغيير الديمقراطي يأتي من الداخل أم من الخارج؟!
– هل الدعوة لتنكيس المنطقة العربية من مركب الاستبداد والفساد والتبعية، تأتي في نهاية المطاف حتما بالإرهاب والفوضى؟! .. أم أن ذلك من تلبيس إبليس كما يقال؟!
– هل التأخر الديمقراطي رغم جسامة التضحيات، هو راجع إلى قوة الأنظمة ورسوخها؟!.. أم راجع إلى أخطاء الفاعل السياسي المجتمعي وطرق اشتغاله؟!
– هل إشكالية التأخر الديمقراطية هي مشكلة السلطة السياسية وحدها؟!.. أم مشكلة مركبة تنخر جسم المجتمع والدولة معا؟!
– ما السبيل لنا كي تتخلص من ما يسمى ب“السلطة الميكروفيزيائية ” التي تجعلنا ظلالا وأشباحا لسلطة الحاكم؟!
– اليوم لم يعد اسقاط الأنظمة المستبدة غاية الغايات، بل أصبح الوصول إلى تعاقدات مجتمعية، دونها خرط القتاد.. وصارت التصنيفات الايديولوجية والنمطية والنوعية عوائق متخلفة عن حلم المواطن البسيط في التغيير، ومكلفة للاجتماع المدني، ومهددة للسلم الإجتماعي.. ومطلوب من كل العائلات الفكرية والايديولوجيا والسياسية أن تنخرط في مسار نقدي موضوعي شامل..
الحراك رفض ديمقراطية الواجهة، وطالب بإسقاط المؤسسات الشكلية، وبدستور ديمقراطي، واعتبر أن مركب الاستبداد والفساد والتبعية استنفذت بطاريته، وينبغي  سحبه خارج الوطن.
رفض ديمقراطية الجرعات، وطالب بديمقراطية كاملة، واعتبر أنها ليست جرعة مهلكة، كما ترسخ في أذهان الفاعل السياسي، ولم يعد ممكنا انتظار تغيرات تتم بإيقاعات بطيئة ومترددة، باعتبار الثورات تمثل قفزات زمنية نوعية، تحقق الممكن وتقرب المستحيل.
الحراك أعاد تعريف النضال، بربطه بالسياق المجتمعي، والمساق الديمقراطي، في حين ارتبط في المنظومة التقليدية الحزبية بالتموقعات الانتهازية، والحصول على الغنائم العابرة والمؤقتة.. وأسقط مقولة العزوف السياسي، لأن العزوف الممارس هو عزوف عن حياة سياسية رديئة ورتيبة، عن أحزاب سياسية غير مستقلة، عن صناديق اقتراح تنتج الفواجع، وتسوق الوهم، عن صراعات ايديولوجية تعبر عن انغلاق هوياتي ينتج الاحباط والجهل، وساهم في الانتقال من عقل أداتي سياسي منغلق، إلى عقل سياسي تواصلي فعال، يرى من خلف الثقوب الإيديولوجيا والسياسية إلى مساحة القواسم المشتركة، المحفزة لبناء “القطب الديمقراطي الممانع”  بأفق تحرري ووحدوي، للخروج من ضيق النسق إلى رحابة السياق، وحقق اجماعا على مطالب حقوقية لا فكرية أو ايديولوجيا.. وحين أرادت الدولة العميقة الإجهاز عليه حركت الهواجس الايديولوجيا والطائفية، ومن هنا بدأت أولى نجاحات الثورة المضادة.
فاللحظة الثورية عرفت لحظتين مختلفتين:
لحظة بسط: إجتمع فيها  الناس على مطالب موضوعية.
ولحظة قبض: تفرق فيها  الناس شذر مذر على مطالب ذاتية وايديولوجيا.
لكن الحراك فتح دائرة التغيير على مصراعيها، ويستحيل أن تغلق بدون تحقيق مهامها، وله جولات وجبهات متعددة ومتنوعة.
وبرغم حالات الارتداد التي تحركها الدولة العميقة، فقد فرض الحراك الديمقراطي نفسه على عدة مستويات:
– إسقاط جدار الخوف؛ بقول ما لا يقال، وإلقاء ما في الصدور، وتصحيح ما رسخ من سقيم الأقوال في العقول.
– رفض سياسة الإمضاءات على بياض،  وسياسة الوعود بلا ضمانات، أو أجنذات زمنية، بعيدة المدى.
– تحرير الفضاء العام؛ وتحول التظاهر السلمي إلى حق يمارسه المواطنون ولا يطالبون به.
– تحويل القيم المجردة إلى شبكات إجرائية فعالة.
لقد علمتنا حكمة التاريخ أن الثورات تأتي دائما عندما تنتهي قدرة الشعوب على تحمل مظالم سلطة غاشمة، لكن مشروع الدولة المدنية لا يأتي إلا عندما تمتلك الشعوب القدرة على صناعة العيش المشترك والتعاقدي، وأما إذا تصارعت الشعوب على الكراسي، وتنافست في إبراز عضلاتها الايديولوجية فإنها لا تستبدل الاستبداد إلا بالفوضى، التي من شقوقها تعود الدولة العميقة وفلولها وبلطجيتها ومشتقاتها البشعة!.