وجهة نظر

التعليم في زمن كورونا

تشكل الأحداث المتسارعة التي تعرفها البشرية منذ ظهور وباء كورونا المستجد تحديا حقيقيا للأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تشكلت وانبنت منذ عقود من الزمن ، حيث ستمثل هذه اللحظات العصيبة التي تمر منها البشرية حدثا مفصليا في تحقيب التاريخ الحديث بين عصر ما قبل كورونا وعصر ما بعد كورونا . فالتصورات السائدة حول الحياة المشتركة للأفراد ودور الأنظمة و البيروقراطيات السياسية و الإدارية ، بدأت تنهار أمام امتحان الخوف الذي ألزم أكثر نصف سكان الكرة الأرضية – والعدد في تزايد – البقاء في مساكنهم قسرا بقرارات أتخذت بين عشية وضحاها. وإذ تشكل فئات التلاميذ والطلبة في الدول المتضررة من الوباء الفئات الأكثر تأثرا من توقف الحياة الاجتماعية في الفضاءات العمومية، فلقد أبانت العديد من الأنظمة التعليمية ومنها النظام التعليمي المغربي فشلها في التكيف الفعال مع التحول المفاجئ الذي صاحب توقف بنايات المدارس والجامعات عن استقبال التلاميذ والطلاب .

فلطالما ارتبط حدث التعلم في البنية التربوية المغربية ، بالزمان المحدد في السنة الدراسية بدوراتها وجداول حصصها المتعاقد عليها بين المدرسين و المتمدرسين ، من جهة ، ومن جهة أخرى بالمكان المحدد في الفصل الدراسي أو المدرج الجامعي حيث الوجود المادي للمتعلمين والمدرسين معا . ووفق هذا التصور تطورت مختلف المناهج والبيداغوجيات والمقررات – منذ ظهور المدرسة المغربية الحديثة إلى اليوم – على قاعدة ثابتة ، مفادها ألا تعلم بدون مكان وزمان يلتقي فيهما المدرس و المتمدرسون معا حتى تتم عملية التعليم/ التعلم . وبطبيعة الحال شكلت البيروقراطيات الادارية مركزيا ومحليا قاعدة خلفية لصيانة حدث التعليم/التعلم المرتكز على ترابط شرطي الزمان والمكان . وفجأة وبدون سابق إنذار توقف هذا النموذج التعليمي لانعدام شرط المكان (غلق المدارس والجامعات)، مما أربك بنية النظام التعليمي والأجهزة الإدارية المشرفة على النظام التربوي .

إن الحديث عن ما ستخلفه هذه الأوقات العصيبة من خسائر جسيمة على أزمنة تعلم الملايين من أبناء المغاربة سيحدث لا محالة رجة في طبيعة التفكير التربوي السائد. و سيجعل من تفكيك البنى الفكرية والمادية والاجتماعية للنظام التعليمي الحالي – قسرا وليس طوعا – وإعادة بنائها وفق نماذج ستتجاوز حتما القاعدة الكلاسيكية في ربط فعل التعليم/التعلم بزمان ومكان محددين . فالنظام التعليمي الحالي وما يدور في فلكه من مناهج وبرامج ومقررات و أنظمة للتقويم و بيروقراطية إدارية ستنتهي تاريخ صلاحيته، وسيصبح جزءا من حقبة ما قبل كورونا.

إن تجاوز صيغة الفصل الدراسي المبني على التعليم/التعلم المتزامن في الحجرة الدراسية الى صيغ تضع المتعلمين والمدرسين في قلب البيئات الرقمية ، لن يغير فقط من بيئات التعلم وطرق التدريس بل سيشكل قطيعة ابستيمولوجية مع التفكير التربوي السائد. فسرعة وحدة التحولات البنيوية التي تعرفها البشرية تفرض على المدرسة الحديثة أن تكون قاطرة للتحول المجتمعي نحو الثورة الاقتصادية الرابعة، عبر رؤية تربوية مفارقة تمكن المدرسين والمتعلمين من الانخراط الكلي في مهارات القرن الواحد والعشرين . ولن تكون البيئات الرقمية التي أصبحت جزءا من الحياة الاجتماعية العامة والخاصة للمدرسين والمتعلمين – والحال هذه – ترفا تعليميا أو اكسسوارات تزين الفصول الدراسية في المدارس المحظوظة، بل ستشكل هذه البيئات المحضن الأساسي لإنتاج ممارسات مغايرة لأنشطة التعلم وطرق التدريس وأنظمة التقويم وأدوار المعلم والمتعلمين ، و ستقود حتما تغييرا شاملا للغايات والمرامي والمناهج.

إن الجرأة الفكرية والسياسية لإصلاح منظومة التربية والتكوين بالمغرب ، بالنظر لما نعيشه من فقر في التعامل مع الطوارئ التعليمية و لما ستكون عليه الأوضاع ما بعد كورونا ، تستدعي منا التفكير من خارج الصندوق المطلية جدرانه بالدهشة والخوف والتردد، والذي راكمنا حشر أنفسنا بداخله طيلة عقود من الرتابة والتنميط.

* رئيس المنتدى المغربي للابتكار في التعليم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *